close

الإسكندرية.. استثمارات لا ترى البحر

كيف تحوّلت مشاريع التنمية في الإسكندرية إلى تهديد بيئي وعمراني، عبر ردم الشواطئ، وخصخصة الكورنيش، وتآكل السواحل، في ظل تغيّر مناخي متسارع وغياب المشاركة المجتمعية
Picture of آية ياسر

آية ياسر

تواصل الحكومة المصرية الترويج لمشروعات تنموية واستثمارية كبرى على سواحل مدينة الإسكندرية، في وقتٍ تتعرض فيه هوية المدينة البيئية والعمرانية لتغيرات جذرية. فمنذ سنوات، تواجه “عروس البحر المتوسط” سلسلة من الانتهاكات الممنهجة تحت شعارات “التطوير” و”التحول السياحي”، شملت ردم الشواطئ، وتآكل السواحل، وإزالة المساحات الخضراء، وهدم معالم معمارية تراثية. وقد انعكس ذلك في تراجع ملحوظ في مؤشرات التقييم البيئي ومفاهيم التخطيط الحضري التشاركي.

وشهدت الإسكندرية خلال السنوات الأخيرة مشروعات مثل ميناء اليخوت في ماراسي، وتوسعات مدينة العلمين الجديدة، وجسر السادات في حي المنتزه، والتي صاحبتها انتهاكات بيئية كبيرة وطمس للطراز المعماري المميز. وأسفرت هذه المشاريع عن زيادة معدلات تآكل السواحل، وتدهور النظام البيئي البحري، وحرمان السكان من الوصول الحر إلى الشاطئ. في الوقت نفسه، تتواصل عمليات هدم فيلات تراثية في أحياء الإسكندرية التاريخية، واستبدالها بأبراج إسمنتية، دون مراعاة للبنية التحتية أو للطابع المعماري الفريد للمدينة.

يرصد هذا التقرير أبرز ملامح “التنمية فوق أنقاض المدينة”، موثقًا كيف تحوّلت السياسات الاستثمارية ذات الأثر البيئي السلبي إلى تهديد مباشر لمستقبل الإسكندرية وسكانها، في ظل تغيّر مناخي متسارع يضع المدينة ضمن قائمة أكثر المدن الساحلية هشاشة. فقد أشار تقرير صادر عن البنك الدولي في عام 2022 إلى أن سواحل مصر شهدت تآكلًا بمعدل 0.1 متر سنويًا بين عامي 1984 و2016، محذرًا من أن الإسكندرية تواجه مخاطر متزايدة تشمل الغمر البحري وتآكل الشواطئ والزلازل. وأوضح التقرير أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 0.3 متر فقط قد يؤدي إلى غرق نحو 30% من المدينة، وتشريد قرابة 545 ألف شخص، وفقدان نحو 70.5 ألف وظيفة.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية وتحليلات نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، وفق دراسة منشورة في مجلة Arabian Journal of Geosciences، تدهورًا واضحًا في معدل تغير الساحل بالإسكندرية منذ عام 2015، بمعدل تآكل بلغ 1.3 متر سنويًا. وتشير دراسة تحليلية نُشرت في المجلة العلمية International Journal of Environmental Research and Public Health إلى أن أربعة من أصل 43 فندقًا ساحليًا في الإسكندرية معرضون مباشرة لخطر الغمر، مع تفاقم هذا الخطر تحت سيناريوهات الارتفاع المستقبلي لمستوى البحر.

أما مشروع توسعة كورنيش الإسكندرية، الذي امتد على طول 4.4 كيلومترات داخل 14 شاطئًا في شرق المدينة، وبعمق 15 مترًا داخل البحر، فقد تضمن أعمال ردم في مناطق مثل سيدي بشر وميامي، إضافة إلى إغلاق بعض الشواطئ الشرقية. وفي مرحلته الثانية، شمل المشروع ردمًا إضافيًا بطول 700 متر لبناء مسار مروري، وإنشاء حواجز غاطسة لحماية الساحل من النوات الشتوية، ما أثار مخاوف من تأثيرات سلبية على البيئة البحرية. كذلك واجه مشروع جسر السادات في حي المنتزه، الذي أُطلق عام 2022، انتقادات واسعة بسبب تداخله المباشر مع شاطئ بوريفاج، وإزالته جزءًا من المشهد الطبيعي الساحلي.

ورغم أن البناء على الشريط الساحلي محظور قانونيًا، إلا أنه يُمارَس فعليًا، ما يشكّل تهديدًا للبيئة الساحلية ولمشهد البحر. وأكدت دراسة صادرة عن مركز “الإنسان والمدينة” في سبتمبر 2024 بعنوان “كورنيش الإسكندرية والحق في الرؤية”، أن الكورنيش تحوّل من مساحة عامة مفتوحة إلى ملكيات خاصة ومشروعات استثمارية، مما قوض “حق المواطنين في الرؤية”. وذكرت الدراسة أن نسبة التعديات بلغت 66.3% من طول الكورنيش بحلول عام 2020، بينما لم يتبقَّ سوى 33.7% متاحًا لجميع السكان، في ظل انتشار مبانٍ مؤقتة تحوّلت إلى مطاعم وكافيهات تحجب البحر، لا سيما في مناطق سيدي بشر وجليم.

وبحسب الدراسة ذاتها، بدأت هذه التعديات منذ تولي اللواء عبد السلام محجوب منصب محافظ الإسكندرية (1997–2006)، عبر توسعة الطريق من 8 إلى 20 مترًا وردم شواطئ رئيسية، ما أحدث تغيرات في حركة الرمال وأدى إلى نحر الشاطئ وغرق أجزاء من الكورنيش أثناء النوات البحرية. ولم ينتج عن هذه التوسعات تحسين في الخدمات العامة، بل تحوّل الكورنيش إلى طريق سريع يفتقر لمقومات السلامة للمشاة، وسط غياب جسور عبور كافية وزيادة معدلات حوادث السير. وأشارت الدراسة أيضًا إلى آثار بيئية غير مباشرة لتلك التعديات، مثل ارتفاع عكارة المياه، مما يؤدي إلى تراجع التمثيل الضوئي في الكائنات البحرية ويؤثر سلبًا على التنوع البيئي.

 

Fig. 1
خريطة توضح منطقة الدراسة، تشمل المنتجعات السياحية الرئيسية ومواقع عينات رواسب الشواطئ. المصدر: Springer Nature Link

 

نوصي للقراءة: انهيار عقارات بالإسكندرية: حين يصبح البحر عدوًا والفساد

تشويه ممنهج للبيئة والحق في المدينة

بدورها تعتبر المحامية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، رضوى عبد القوي، أن كثير مما تشهده محافظة الإسكندرية من مشروعات للتطوير والتنمية، تسببت في تعديات على البيئة والحق العام للسكان في الوصول إلى الشواطئ والمساحات المفتوحة، مؤكدة أن المواطنين باتوا يشعرون بأن مدينتهم تُشوَّه عمدًا؛ إذ أن عدد من شواطئ الإسكندرية رُدِمت لصالح توسعة ميناء الدخيلة، أو أُغلقت، وشواطئ أخرى تم تحويلها إلى امتدادات خرسانية داخل البحر تضم مقاهي ومطاعم باهظة التكاليف، كما في مناطق مثل “ذا ووك” و”جرين بي” بسيدي جابر، مما يجعلها غير متاحة للمواطنين العاديين، أما الشواطئ التي يتم الدخول إليها بتذاكر منخفضة التكلفة، فهي متكدسة وتعاني من الإهمال والتلوث وغياب النظافة والرقابة.

تقول لـ”زاوية ثالثة”: “عدد الشواطئ العامة بالإسكندرية في تناقص مستمر، بينما يتم تخصيص العديد من الشواطئ والنوادي البحرية لجهات سيادية أو مستثمرين، ما يعمّق من الفجوة الطبقية ويقلّص من فرص المواطنين في التمتع بالمساحات الساحلية، إضافة إلى ظاهرة بناء الحواجز الخرسانية والأسوار الحديدية على امتداد الكورنيش، التي تعيق رؤية البحر وتحوّل الفضاء العام إلى مساحات مغلقة وموجهة لفئة اجتماعية محددة، معتبرة أن هذا التحول يسلب المدينة من طابعها المفتوح ويقضي على جزء من هوية الإسكندرية”.

وتحذّر عبد القوي من خطورة توسعة الميناء على البيئة البحرية، مشيرة إلى أن مناطق مثل المكس والدخيلة لها طابع بيئي واجتماعي خاص، حيث يُعرف المكس بتركيزاته العالية من اليود وكونه وجهة لشراء الأسماك الطازجة، فضلًا عن وجود الفنار القديم كمَعلم شعبي، وجميعها مهددة بالإزالة لصالح المشروع، مشيرة إلى أن هذه الأعمال الإنشائية، وعلى رأسها ردم الشواطئ، قد تؤثر سلبًا على منسوب البحر وتزيد من خطر التآكل الساحلي، مشددة على أهمية إجراء تقييمات علمية شفافة لأي مشروع يمس البيئة الساحلية.

وكان قد كشف مركز “حلول للسياسات البديلة” التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، عن انخفاض عدد الشواطئ العامة في المدن الساحلية بشكل ملحوظ، حيث تراجع في الإسكندرية من 67 شاطئًا عام 2015 إلى 13 شاطئًا فقط في 2021، وفي مرسى مطروح من 30 إلى 11 خلال نفس الفترة.

ويعتبر المركز أن مشروع “ساوث ميد”، الذي يمتد على مساحة 23 مليون متر مربع، يعد مثالًا لتوسع الحكومة في خصخصة الشواطئ المصرية خلال العقد الماضي، بالمخالفة للمادة 45 من الدستور المصري التي تكفل حق الوصول المجاني إلى الشواطئ، محذّرًا من أنه يساهم في تفاقم أزمة تآكل السواحل نتيجة الانتشار العمراني الكثيف على خط الساحل، مما يزيد من معدلات تآكل الشواطئ المصرية.

وفيما يتعلق بالمساحات الخضراء، تلفت عبد القوي إلى أن مشاريع التطوير طالت الحدائق العامة التاريخية، مثل أنطونيادس والمنتزه، فضلًا عن تجريف مناطق خضراء كانت تابعة لوزارة الزراعة لصالح إنشاء مجمعات سكنية مغلقة (كومباوندات)، مؤكدة أن هذه التعديات تؤثر سلبًا على التوازن البيئي، لا سيما مع التراجع الملحوظ في نسبة الأشجار والنباتات داخل المدينة.

وتشدد عبد القوي، في ختام حديثها معنا، على أهمية الدفاع عن البيئة كحق أصيل للمواطنين، ورفض سياسات التنمية التي تُقصي سكان الإسكندرية وتحوّل مدينتهم إلى مساحات تجارية مغلقة.

وكانت دراسة خرائطية لمركز الإنسان والمدينة، حول “المسطحات الخضراء بالإسكندرية بين 2013 و 2023″، نُشرت في فبراير 2024، قد كشفت عن تحوّل ملحوظً في الاتجاه العمراني، إذ تقلصت المساحات الخضراء العامة بشكل ملحوظ بسبب ضِغوط الاستثمار وسوء التخطيط، بينما زادت المساحات الخاصة وشبه العامة، كما رصدت نقصًا في التوزيع المكاني للمسطحات الخضراء على مستوى الحي، بما لا يتناسب مع المعايير العمرانية التي تنص على توزيع فعّال ضمن نطاق كيلومتر واحد من المناطق السكنية، مشيرة إلى أن قلة النقاط الخضراء في الأحياء المكتظة يُفاقم من ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية، ويؤثر سلبًا على جودة الهواء والصحة البيئية.

ومن ناحيتها توضح روان خضر، الباحثة في مركز الإنسان والمدينة، لـ”زاوية ثالثة”، أن أبرز الانتهاكات البيئية والمعمارية التي حدثت في محافظة الإسكندرية خلال عمليات التطوير التي شهدتها، على مدار السنوات الماضية، تضمنت ردم بحيرة مريوط للتوسع العمراني والخدمي الترفيهي، واستبدال المسطحات الخضراء بمباني خرسانية كما حدث بحديقة الخالدين وقطع عدد كبير من الأشجار التاريخية بحديقة المنتزه وانطونيادس، إضافة إلى عمليات البناء غير المخطط والمخالف بالعديد من المناطق والغش في مواد البناء وعدم الالتزام بالمواصفات المطلوبة لمواد البناء وكود البناء.

وتؤكد دراسة صادرة عن مركز الإنسان والمدينة، بعنوان “تقويم التأثير البيئي بين الإلزام المحلي والرقابة الدولية: دراسة تطبيقية على مشاريع مترو الإسكندرية”، للباحثة آية أشرف، أن تقييم الأثر البيئي (EIA)  يعاني من تطبيق غير متناغم؛ إذ يتم إضافته إلى المشروعات الكبرى دون دمجه الفعلي في مراحل التصميم والتنفيذ، مُظهِرة أن هناك فجوات تشريعية وضعفًا في إشراك الجهات العلمية والمجتمع المدني في مشروع مترو الإسكندرية، بجانب نقص شفافية النتائج وعدم إعلانها للرأي العام، مما يجعل من الصعب تقييم تأثير المشروع فعليًا.

 

نوصي للقراءة: عاصفة واحدة.. تكفي لكشف ما لا تتحمله الإسكندرية


تجاهل التغير المناخي

يرى المحامي والباحث البيئي أحمد الصعيدي، أن أعمال التطوير والتنمية التي تشهدها محافظة الإسكندرية، خلال السنوات الأخيرة، لم تخلو من انتهاكًات صارخة للاشتراطات البيئية وأسس الاستدامة، وتتم غالبًا دون إجراء تقييم بيئي حقيقي وفعّال، مؤكدًا أن غياب الالتزام بتقييم الأثر البيئي لتلك المشروعات – أو الاكتفاء بإجراءات صورية –، أدى إلى كوارث بيئية متراكمة.

ويوضح الصعيدي أن مدينة الإسكندرية مصنفة ضمن المناطق المعرضة لارتفاع منسوب سطح البحر وفقًا لتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، وهو ما يجعل أي تدخلات على الشريط الساحلي بحاجة إلى مراجعة دقيقة واستراتيجيات للتكيف مع التغير المناخي، مبينًا أن الردم والبناء في حرم الشواطئ لا يهددان فقط التوازن البيئي، بل يضران أيضًا بالبنية التحتية على المدى الطويل، مع احتمال وقوع انهيارات مستقبلية في ظل تفاقم تأثيرات التغير المناخي.

وفيما يتعلق بالمساحات الخضراء، يقول لـ”زاوية ثالثة”: “إن ما جرى في المدينة، من إزالة لحدائق عامة أو قطع لأشجار معمرة، يُفاقم من أزمة تلوث الهواء ويقضي على المتنفسات العامة لسكان المدينة، في وقت تعاني فيه مصر أصلًا من تدني نسب المساحات الخضراء، خصوصًا في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية”.

ويشدد المحامي البيئي على أن تدهور البيئة الحضرية في الإسكندرية ليس مجرد انعكاس لسوء تخطيط، بل هو نتيجة مباشرة لغياب الرؤية البيئية في السياسات المحلية، وضعف إدراك الجهات التنفيذية – وعلى رأسها محافظة الإسكندرية والوحدات المحلية – بخطورة التغيرات المناخية، مشيرًا إلى أن استمرار هذه السياسات ينذر بسيناريوهات كارثية خلال السنوات المقبلة، من انهيارات في البنية التحتية وارتفاع في معدلات الوفيات أثناء موسم الأمطار، إلى تفاقم أزمة الإسكان نتيجة تصدع المباني.

ويضيف: “بعض الجمعيات البيئية والنشطاء المحليين يقومون بدور ملحوظ في رصد الانتهاكات البيئية، إلا أنهم غالبًا ما يُستبعدون من دوائر صنع القرار، سواء على مستوى السياسات أو المشروعات التنموية. وأكد أن تجاهل هذه الأصوات الفاعلة يُضعف من قدرة الدولة على تنفيذ سياسات بيئية ناجعة، ويكرّس لفجوة بين المخططين وبين المتأثرين بالقرارات على الأرض”.

واختتم الصعيدي حديثه معنا بالتأكيد على ضرورة تفعيل مبدأ المشاركة المجتمعية، وتمكين الفاعلين المدنيين من المساهمة في صياغة وتقييم السياسات البيئية، كشرط أساسي لضمان الاستدامة ووقف الانهيار البيئي في الإسكندرية، داعيًا إلى اعتماد سياسات للتكيّف المناخي تتماشى مع توصيات مؤتمرات المناخ الدولية.

فيما يؤكد المهندس حسام محرم، المستشار الأسبق لوزير البيئة وعضو لجنة البيئة في نقابة المهندسين، أن الشواطئ تُعد من أبرز الموارد السياحية في مصر، ما يستوجب إخضاع استخدامها لمبدأ العدالة البيئية، لضمان حق جميع المواطنين في الاستمتاع بها دون عوائق مالية أو إدارية، مشيرًا إلى أن ما يحدث من إغلاق بعض الشواطئ أمام المواطنين وقصر استخدامها على ملاك الوحدات السياحية، إضافة إلى فرض رسوم مرور مرتفعة، يُعد إخلالًا واضحًا بهذا الحق، مطالبًا بإعادة النظر في ملف الشواطئ والقرى السياحية على امتداد السواحل المصرية، خاصة في محافظة الإسكندرية.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “الإسكندرية تواجه تهديدات بيئية وتنموية خطيرة، في مقدمتها احتمالية اختفاء أجزاء من سواحلها نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر الناجم عن التغيرات المناخية، هذه الظاهرة تنذر بخسائر تنموية وإنسانية واجتماعية جسيمة”، مشيرًا إلى ضرورة مراجعة ما اتخذته الدولة من إجراءات في هذا الصدد، وتقييم مدى فاعليتها وسرعة تنفيذها، لا سيما في ظل تسارع وتيرة الظواهر المناخية، كما ظهر مؤخرًا في الإعصار المفاجئ الذي ضرب المدينة.

ويدعو محرم إلى تبني معايير المدن المستدامة عند تطوير الإسكندرية، قدر الإمكان، بما يشمل تطبيق مبادئ العمارة الخضراء، وتحقيق كفاءة استخدام الموارد الطبيعية، وخفض استهلاك المياه والطاقة الأحفورية، والاعتماد على الطاقة المتجددة، وتطوير وسائل النقل المستدام، وتوسيع المساحات الخضراء، وتعزيز التنسيق الحضري، والإدارة السليمة للمخلفات، مشددًا على أن تطبيق هذه المعايير بشكل كامل يجب أن يكون إلزاميًا في التوسعات والمناطق الجديدة، بينما يمكن تحقيقها تدريجيًا في المناطق القائمة، بحسب الإمكانات والموارد المتاحة.

 

نوصي للقراءة: كيف تسببت شركة “إعمار” الإماراتية في تآكل شواطئ مصرية؟

التوسع العشوائي يرفع البصمة الكربونية

فيما تؤكد الدكتورة مايسة صلاح الدين إسماعيل، أول استشاري معتمد في مصر لحساب البصمة الكربونية، أن التوسع العمراني في الإسكندرية، وخصوصًا في قطاعي الخدمات والمطاعم، يساهم بشكل واضح في رفع البصمة الكربونية للمدينة، ما لم يتم تبني حلول بيئية مستدامة. 

تقول لـ”زاوية ثالثة”: “أي توسع في إنشاء المقاهي والمطاعم، خاصة في المناطق الساحلية، يرفع من استهلاك الكهرباء والغاز، وبالتالي من الانبعاثات الكربونية، ما لم يتم الاعتماد على بدائل مثل الطاقة الشمسية أو الوقود الحيوي، ورغم كون بعض المؤسسات قد بدأت في اتخاذ خطوات صديقة للبيئة – مثل إعادة تدوير المخلفات أو استبدال الأكياس البلاستيكية بورقية – إلا أن غياب التشريعات الملزمة يجعل أغلب هذه الممارسات طوعية وغير معممة”.

وفي ما يخص مشروعات تطوير الحدائق العامة بالإسكندرية، أوضحت إسماعيل أن عمليات التطوير التي شهدتها حديقة أنطونيادس لم تتسبب في فقدانها، بل تمت إعادة زراعة للأشجار، موضحة أن القوانين الحالية تشترط حصول الشركات المنفذة لأي مشروع على شهادة “التوافق البيئي”، التي تراقب مؤشرات الطاقة والمياه والاستهلاك البيئي، مما يشجع المؤسسات على الالتزام بمعايير الاستدامة، ومشددة على أهمية التوازن بين التطوير وحماية البيئة، خاصة في مدينة ساحلية معرضة لتداعيات التغير المناخي، الأمر الذي يتطلب إرادة سياسية وتشريعية، وتبني تقنيات حديثة وسياسات متكاملة تضع الاعتبارات البيئية في صميم عمليات التطوير والتنمية.

بينما توضح المعمارية إنجي الحسيني، المتخصصة في العمارة البيومناخية والعمارة الذكية أن التوسع الرأسي، من خلال إنشاء مبانٍ شاهقة لزيادة الكثافة السكانية، يحمل آثارًا مزدوجة على البيئة؛ إذ يُسهم في الحد من الزحف العمراني على الأراضي، مما يقلل من تدمير الموائل الطبيعية ويساعد في الحفاظ على التنوع البيولوجي. لكنه يؤدي إلى عدد من التأثيرات السلبية، مثل ارتفاع استهلاك الطاقة، وتدهور جودة الهواء والماء، وتغيّر المناخ المحلي، وزيادة الضوضاء، وتآكل التربة، فضلًا عن الضغط المتزايد على شبكات المياه والصرف الصحي.

تقول لـ”زاوية ثالثة”: “هناك حلولًا بيئية ومعمارية يمكن تبنيها للتقليل من هذه الآثار، مع الحفاظ على جودة التهوية والإضاءة الطبيعية داخل المباني. ومن بين هذه الحلول: استخدام عوازل للأسطح المعرضة لأشعة الشمس، وتركيب كاسرات شمسية أفقية أو رأسية أو مركبة، بالإضافة إلى الاتجاه نحو زراعة الأسطح لما لها من دور في خفض حرارة المباني وتنقية الهواء وتقليل الضوضاء”. 

وتشير الحسيني إلى إمكانية إعادة استخدام المياه الرمادية لري الحدائق أو تشغيل النوافير، وتوظيف الألواح الشمسية رغم ارتفاع تكلفتها، بجانب استخدام إضاءة “ليد” التي تُعد صديقة للبيئة ومنخفضة الانبعاثات الحرارية، وشددت على أهمية تركيب أنظمة تظليل للفتحات باستخدام الزجاج العاكس أو السواتر المصنوعة من خامات مثل الـPVC، التي تساهم في تحسين العزل الحراري صيفًا وشتاءً.

وبشأن المعايير الواجب اتباعها قبل تنفيذ مشروعات عمرانية جديدة في المدن الساحلية مثل الإسكندرية، تؤكد الحسيني أن أي مشروع  يجب أن يسبقه تخطيط دقيق يراعي العلاقة بين المبنى والبيئة المحيطة. ويشمل ذلك دراسة اتجاه الرياح والإشعاع الشمسي، وتحديد النظم الميكانيكية والإنشائية المناسبة، واستخدام تكنولوجيا البناء التي تقلل من استهلاك الطاقة، مع احترام الطابع التاريخي والروحي للمكان.

وتضيف: “من بين المعايير الأساسية: اختيار الألوان والخامات والدهانات المتوافقة مع طبيعة البيئة الساحلية، وتحديد حجم النوافذ وتوجيه المبنى بما يسمح بالحصول على تهوية وإضاءة طبيعية مثلى”، مؤكدة على أهمية دمج العنصر الأخضر في التصميم المعماري، واستخدام المظلات والكاسرات والسواتر لتوفير الظل، بالإضافة إلى الاستفادة من البرك الشمسية كوسيلة فعالة للتبريد وتخزين الطاقة.

كما تلقت المعمارية إلى ضرورة إنشاء جسور أو قنوات لتصريف مياه الأمطار والتحكم في مجراها، مع توصية بوضع المباني في صفوف موازية لاتجاه سريان المياه لتفادي الفيضانات أو التآكل، وهو ما يعزز الراحة الحرارية ويزيد من إنتاجية مستخدمي المباني، مستشهدة بتجربة مدينة “مصدر” في دولة الإمارات كنموذج ناجح لمدينة ساحلية استطاعت تحقيق توازن بين التطوير المعماري والحفاظ على البيئة، كونها تُدار بالكامل بالطاقة الشمسية، تستخدم النفايات العضوية لإنتاج الأسمدة، كما يُعاد تدوير النفايات الصناعية مثل البلاستيك أو توظيفها في أغراض أخرى، مؤكدة على أن حتى النفايات يمكن تحويلها إلى ثروة حقيقية إذا أُعيد تدويرها ضمن رؤية متكاملة للبناء المستدام.

 

نوصي للقراءة: ركود في ورش الأنفوشي: صناعة السفن واليخوت المصرية على حافة الهاوية


تحركات حكومية لحماية الساحل

 في أعقاب الأزمة البيئية التي شهدها الساحل الشمالي الغربي، تضرر خلالها شاطئ قرية “الدبلوماسيين” نتيجة إنشاء مارينا ضمن مشروع “مراسي” الذي نفذته شركة “إعمار مصر”، وتسبب في تعطيل حركة الأمواج وتآكل الشواطئ المجاورة، ذكرت وسائل إعلام محلية، أن الحكومة المصرية تخطط لفرض قيود تنظيمية جديدة على مشروعات التطوير العقاري في الساحل الشمالي الغربي، من خلال وقف تنفيذ أي أعمال إنشائية جديدة تطل على البحر الأبيض المتوسط إلا بعد مراجعتها والموافقة عليها من لجنة حكومية متخصصة، تضم ممثلين عن وزارات الإسكان، والبيئة، والري، والزراعة، وهيئة حماية الشواطئ، وتتولى مراجعة التصميمات والمخططات العامة ودراسات الأثر البيئي للمشروعات قبل منح التصاريح اللازمة، ونقلت وسائل إعلامية مصدر حكومي، قوله إن هيئة التخطيط العمراني، بدأت في إعداد دراسات استراتيجية لتقييم استخدامات الأراضي الساحلية ورصد التأثيرات البيئية المحتملة.

وكان الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد وجّه في عام 2022 بوضع معايير دقيقة لحماية الشواطئ وضمان استدامة التنمية، واستكمال تنفيذ مشروعات حماية الشواطئ في مدن الساحل الشمالي، خاصة الإسكندرية، وفق أعلى المعايير البيئية والهندسية، مع تدقيق الدراسات المرتبطة بمعالجة ظاهرة النحر وتآكل الشواطئ لتعزيز سلامة المجتمعات العمرانية الساحلية وحماية الاستثمارات.

من جهته رحب النائب البرلماني محمود عصام، بما تداولته وسائل الإعلام بشأن قرار الحكومة بوقف تنفيذ أي أعمال جديدة في مشروعات الساحل الشمالي المطلة على البحر، لحين انتهاء لجنة متخصصة من مراجعة التصميمات والتأكد من عدم إضرارها بالشواطئ، مؤكدًا أن القرار يمثل خطوة بالغة الأهمية، ويجب الالتزام بتنفيذه بكل حزم وجدية.

وأشار عصام، في بيان إعلامي له عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي”فيسبوك”، إلى متابعته لهذا الملف منذ سنوات، قائلاً إنه كان من أوائل النواب الذين تقدموا بطلبات إحاطة في مجلس النواب، عندما أنشأت إحدى الشركات مارينا لليخوت داخل البحر في منطقة مراسي، ما أدى إلى توقف حركة المياه الطبيعية، وتسبب في تآكل واضح بالشواطئ المجاورة.

وحذر النائب من خطورة استمرار عمليات النحر والتآكل في شواطئ الساحل الشمالي، مؤكدًا أن ما يحدث لا يقتصر على تغيير بصري في شكل البحر، بل يمثل تهديدًا مباشرًا للمجتمعات السكنية، وخطرًا على الاستثمارات التي تقدر بمليارات الجنيهات في تلك المنطقة، مبينًا أن تآكل الشواطئ قد يؤدي إلى انهيارات في أجزاء من الساحل، ويزيد من احتمالات الفيضانات والعواصف، إلى جانب الأثر السلبي الكبير على النُظم البيئية التي تأوي كائنات بحرية نادرة.

واعتبر النائب أن القرار ليس تعطيلًا للتنمية أو الاستثمار، بل على العكس، بل خطوة لضمان استدامة المشروعات، مطالبًا اللجنة المعنية بسرعة الانتهاء من دراساتها، لضمان استئناف الأعمال الجادة دون تعطيل، ولكن دون تكرار الأخطاء السابقة.

وفي وقت تواصل فيه الحكومة المصرية تنفيذ مشروعات التطوير والتنمية في الإسكندرية، فإن المخاوف البيئية والمجتمعية تظل حاضرة بقوة، وسط تساؤلات مشروعة حول كلفة هذه التحولات على هوية المدينة وسكانها وبيئتها الطبيعية، وعما إذا كانت السلطات تنتهج نمطًا من التنمية لا يضع الإنسان أو البيئة في مركز الاهتمام، بل يُكرّس لمنطق الاستثمار على حساب الاستدامة.

وفي ظل هذا المشهد، تظهر حاجة ملحّة لإعادة التفكير في سياسات التخطيط الحضري ومشروعات التطوير الساحلي، بما يضمن توازنًا بين التنمية الاقتصادية وحماية التراث الطبيعي والاجتماعي للمدينة، من خلال حوار حقيقي تشارك فيه المجتمعات المحلية، والخبراء، والجهات الرقابية، للحفاظ على السواحل والبيئة البحرية للمدينة ومساحاتها العامة.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search