close

ماذا بعد قطار مطروح؟ “شكّلوا لجنة”!

ثلاثة قتلى. 91 مصابًا. سبع عربات خارجة عن القضبان. والمسؤول؟ لجنة فنية، تحقيق داخلي، وصمت عن الأسباب الحقيقية.
Picture of رشا عمار

رشا عمار

في 30 أغسطس الماضي، تحولت رحلة عادية بالقطار رقم 1935 المتجه من القاهرة إلى مرسى مطروح إلى مأساة جديدة على قضبان السكك الحديدية المصرية، بعدما خرجت سبع عربات عن القضبان في منطقة ما بين فوكّا وجلال، على بعد كيلومترات قليلة من مدينة العلمين الجديدة، حيث تجتمع الحكومة في مقارها الفاخرة على الساحل الشمالي، ما أسفر عن مصرع ثلاثة أشخاص على الأقل وإصابة العشرات، بينهم أطفال ونساء، في مشهد أعاد إلى الواجهة ملف حوادث القطارات المزمن في مصر.

في أعقاب الحادث، خرج وزير النقل والصناعة ونائب رئيس الوزراء، كامل الوزير بتصريحات لافتة، إذ وصف ما جرى بأنه “حادث غريب”، مشيرًا إلى أن القطار والعربات والجسور جميعها بحالة سليمة، مرجحًا أن يكون الخلل في “البوجي المعدني” الرابط بين العربات. الوزير لم يتوقف عند التفسير الفني، بل أعلن عن تشكيل لجنة مشتركة تضم هيئة النقل والسكك الحديدية والرقابة الإدارية والنيابة العامة، للتحقيق في ملابسات الانقلاب، مع وعد بعدم التستر على أي مقصر، مؤكّدًا أن العقوبات قد تصل إلى العزل الفوري من الوظيفة إذا ثبتت مسؤولية أي طرف.

النيابة العامة من جانبها قررت حبس سائق القطار احتياطيًا على ذمة التحقيق، في خطوة اعتبرها مراقبون تعبيرًا عن محاولة تحميل المسؤولية المباشرة لشخص بعينه، بينما يظل السؤال الأوسع مطروحًا حول الخلل المؤسسي في منظومة النقل. أما البرلمان فقد شهد تحركات عاجلة من جانب نواب طالبوا بتقصي الحقائق، ومراجعة جدية لخطط التطوير التي تم تمويلها عبر قروض ضخمة من مؤسسات دولية، كان يفترض أن تضع حدًا لمثل هذه الكوارث.

المفارقة أن موقع الحادث يجاور مدينة تُسوَّق رسميًا باعتبارها “عاصمة مصر الجديدة” ومركزًا للتنمية الحديثة، بينما البنية التحتية الأساسية للنقل ما زالت تسقط المصريين موتى على قضبان متهالكة، الحادث أثار غضبًا واسعًا، ليس فقط بسبب حجم الضحايا، وإنما أيضًا لأنه كشف مرة أخرى التناقض بين الخطاب الرسمي حول “تطوير السكك الحديدية” والواقع القاتم الذي يعيشه المواطنون يوميًا.

 

نوصي للقراءة: أين تذهب مليارات الدولارات لتطوير السكك الحديدية المصرية؟

نفقات وديون طائلة.. ما الجدوى؟

بلغت موازنة هيئة سكك حديد مصر للعام المالي (2025/2026) نحو 89.2 مليار جنيه، بينها 65.4 مليارًا استثمارات رأسمالية، و23.8 مليارًا مصروفات جارية. كذلك خصصت وزارة المالية 5.5 مليار جنيه دعم مباشر، إضافة إلى قروض خارجية تجاوزت 300 مليون يورو لتمويل شراء قطارات جديدة وتحديث نظم الإشارات، ورغم هذا الإنفاق، لا يزال المرفق غارقًا في الديون.

خلال السنوات الخمس الأخيرة، أغرقت الحكومة المصرية هيئة السكك الحديدية في موجة غير مسبوقة من القروض الخارجية، بدعوى تطوير الشبكة وتحديث بنيتها التحتية المتهالكة. فمنذ عام 2020 وحتى 2025، حصلت وزارة النقل والهيئة على تمويلات بعشرات المليارات من الدولارات من مؤسسات دولية وبنوك كبرى، في مقدمتها البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وبنوك صينية، إلى جانب مساهمات مباشرة من بعض الحكومات الأجنبية. ووفق البيانات الرسمية، تجاوز إجمالي ديون الهيئة 250 مليار جنيه، موزعة بين نحو 100 مليار لصالح البنك المركزي و150 مليارًا من الموازنة العامة، فيما بلغت ديون وزارة النقل نفسها قرابة 58 مليار دولار منذ تولّي كامل الوزير حقيبة النقل.

بالموازاة مع ذلك شهدت البلاد سلسلة من حوادث القطارات المأساوية التي أسفرت عن مئات الضحايا، أبرزها في مارس 2021 حين اصطدم قطاران في سوهاج (طهطا) مما أدى إلى مقتل نحو 18 شخصًا وإصابة ما يقارب 200، ثم في أبريل من العام نفسه خرج قطار عن القضبان في طوخ بالقليوبية متسببًا في وفاة 23 وإصابة 139، وفي مارس 2023 وقع حادث انحراف جرار وعربة بمحافظة القليوبية بسبب تجاوز إشارة حمراء، أسفر عن 4 قتلى و16 مصابًا، تلاه في سبتمبر 2024 تصادم قطارين بمدينة الزقازيق أدى إلى مقتل 3 أشخاص بينهم طفلان وإصابة 49شخصًا.

وكشف تحقيق سابق أجرته زاوية ثالثة، وفق تحليل البيانات الرسمية في الفترة من 2009 حتى 2019، كان “اصطدام القطارات ببوابة المنافذ (المزلقانات) السبب الأبرز في حوادث القطارات، يأتي بعده السقوط الطوالي وغير الطوالي، فيما جاءت بنسبة أقل بكثير تجاوز الأرصفة وتجاوز السيمافورات (الإشارات).

وعود الوزير وغياب المسؤولية السياسية

منذ توليه حقيبة النقل، اعتاد الفريق كامل الوزير أن يخرج بعد كل كارثة بتبريرات تقنية: مرة بسبب خطأ بشري، وأخرى بسبب عطل فني، وثالثة بسبب قدم المنظومة، لكنه لم يشر يومًا إلى مسؤوليته السياسية المباشرة، باعتباره صاحب القرار والمشرف على مليارات الدولارات التي أُنفقت.

الوزير غالبًا ما يركز على تفاصيل فنية مثل “خلل البوجي” أو “تقصير السائق”، لكنه يتجنب الاعتراف بأن تكرار الكوارث يعكس خللًا إداريًا وهيكليًا أكبر، وفي حين يعلن في كل مرة عن تشكيل لجنة تحقيق، نادرًا ما تُعلن نتائج شفافة أو تُحاسب قيادات كبرى، ما يجعل الرأي العام يرى في هذه اللجان مجرد وسيلة لامتصاص الغضب. وبمواجهة دعوات متكرّرة بالاستقالة بعد الحادث المأساوي على الطريق الإقليمي بالمنوفية في يونيو الماضي، قال الوزير خلال مقابلة تلفزيونية: “أنا لن أترك الوزارة… أنا هنا حتى أموت.”

وفي أعقاب حادث مطروح، قدّم الدكتور فريدي البياضي، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي للشؤون الخارجية، سؤالًا عاجلًا إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير النقل، مطالبًا الحكومة بمصارحة الرأي العام وتحمل المسؤولية السياسية، حصلت زاوية ثالثة على نسخة منه.

البياضي وجّه اتهامًا صريحًا للحكومة بسؤال مباشر: “كم ضحيةً أخرى تريد الدولة أن تراها فوق القضبان قبل أن يعترف أحد من القيادات بمسؤوليته السياسية ويغادر منصبه؟”.، مستندًا إلى أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التي وصفها بأنها “لا تحتمل التجميل”، حيث ارتفع عدد حوادث القطارات بنسبة 21.5% من 181 حادثًا في 2023 إلى 220 في 2024، نتج عنها 57 وفاة و104 إصابات، إلى جانب 727 وفاة و324 إصابة بسبب العبور والسير على القضبان.

السؤال البرلماني تضمّن أربعة مطالب محددة: إعلان المسؤولية السياسية الفورية عن حادث مطروح بدلًا من الاكتفاء بتحميل سائق أو عامل بسيط المسؤولية؛ نشر التقرير الفني الكامل خلال أسبوع متضمنًا تفاصيل فنية دقيقة مثل حالة الإشارات وسرعة القطار وسلامة القضبان وسجل الأعطال؛ وضع خطة عاجلة بأهداف كمية ومؤشرات أداء شهرية مع تقارير ربع سنوية معلنة؛ وأخيرًا، إنشاء صندوق دائم للتعويضات تُلزم الهيئة بتمويله من مواردها وغراماتها.

البياضي ربط مطالبه بالدستور، مشيرًا إلى المادة (59) الخاصة بالحق في حياة آمنة، والمادة (18) التي تلزم الدولة بضمان خدمات صحية ومنظومة طوارئ فاعلة. وفي ختام بيانه، وجّه رسالة مباشرة للحكومة قال فيها: “الوقت انتهى؛ من لا يستطيع حماية الأرواح… لا يستحق البقاء ساعة إضافية في موقعه.”

من جهته، يقول -رئيس المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية-، مالك عدلي، في تصريح إلى زاوية ثالثة إن تكرار حوادث القطارات في مصر يكشف عن وجود خلل مستمر لا يمكن معالجته إلا عبر قدر أكبر من الشفافية وإجراء تحقيقات فنية وقضائية مُعلنة أمام الرأي العام.

ويوضح عدلي أن ما كان يحدث في السابق عند وقوع حادث كبير يختلف تمامًا عن الوضع الحالي؛ إذ كانت النيابة العامة تنتدب لجنة فنية متخصصة، وكان مجلس الشعب يشكل لجنة تقصي حقائق، وتُجرى تحقيقات شاملة تشمل مراجعة الأحداث والأوراق الرسمية والاستماع إلى المسؤولين المحتمل تورطهم، ثم يصدر تقرير وافٍ يحدد الأسباب بدقة ويضع توصيات لتلافيها، أما الآن فلم يعد المواطن يعرف سوى خبر وقوع الحادث وعدد الضحايا، دون أن يُكشف بوضوح عما جرى ولماذا تكرر.

ويتنقد عدلي القرارات الفورية التي تصدر بفصل موظفين في أعقاب مثل هذه الحوادث، معتبرًا ذلك أمرًا غير قانوني ولا يغني عن التحقيقات، لافتًا إلى أن المسؤولية لا يجب أن تُلقى على صغار العاملين، بينما يغيب التحقيق الحقيقي الذي يحدد مواضع الخلل، مؤكدًا على أن المساءلة السياسية يجب أن تكون حاضرة، وأن البرلمان والحكومة هما الجهتان المسؤولتان عن محاسبة الوزير، خاصة أن الحوادث تتكرر منذ سنوات في ظل نفس الإدارة.

ويشير عدلي إلى التناقض بين مقر الحكومة الصيفي في العلمين الجديدة، الذي يبعد كيلومترات قليلة فقط عن موقع حادث قطار مطروح، وبين ما وصفه بـ “قطار الغلابة” الذي ينقلب ويودي بحياة المواطنين، وقال إن هذا يعكس فجوة طبقية صارخة بين ما ينفق على مشروعات كبرى وما يعانيه قطاع النقل التقليدي الذي يخدم ملايين المصريين يوميًا.

ويشدد رئيس المركز المصري للحقوق في حديثه معنا على أن الحل الجذري يتمثل في تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة تضم عناصر قضائية وفنية وهندسية وسياسية، تكون مهمتها دراسة أسباب الحوادث المتكررة وتقديم خطة عاجلة لمنع تكرارها، بدلًا من الاكتفاء بقرارات فردية أو إجراءات مؤقتة.

 

نوصي للقراءة: العبور إلى الموت.. معديات متهالكة وبديل خرساني


لغة البيانات الرسمية: احتواء الغضب لا كشف الحقائق

يُظهر تحليل أخبار الصحف، أجرته زاوية ثالثة، تناول تغطية الصحف الرسمية بعد كل حادث قطار، من تصادم الإسكندرية 2017 إلى كارثة مطروح الأخيرة، تكرار النمط نفسه: بيان عاجل من وزارة النقل يحمّل المسؤولية لـ”خطأ بشري” أو “عطل فني”، ثم إعلان تشكيل لجنة تحقيق، لكن نادرًا ما تُنشر التقارير الفنية الكاملة، وغالبًا ما تقتصر المعلومات المتاحة للرأي العام على عبارات عامة عن “محاسبة المقصرين” أو “متابعة الإصلاح”.

اللافت في تصريحات وزير النقل خلال السنوات الخمس الأخيرة هو تناقضها المستمر، ففي أعقاب حادث سوهاج 2021، تحدث عن “تقصير فردي” وأكد أن المنظومة آمنة، بينما كشفت لاحقًا تقارير صحفية عن تعطيل جزئي لأنظمة التحكم الآلي (ATC) في بعض القطاعات بهدف الحفاظ على مواعيد التشغيل.

وفي كل مرة، يعِد الوزير بتطوير شامل للسكك الحديدية وبأن الحوادث ستنتهي قريبًا، لكن الواقع يظهر العكس: ازدياد عدد الحوادث بنسبة 21.5% في عام 2024 وحده مقارنة بالعام السابق، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والمفارقة أن لغة التبرير والوعود تظل ثابتة تقريبًا رغم اختلاف الحوادث وتكرارها على مدار سنوات.

تاريخيًا، ارتبطت كل كارثة بقرار عاجل بتشكيل لجنة تحقيق، وهو إجراء يُمنح مساحة واسعة في التغطية الإعلامية الحكومية، غير أن المتابعة تكشف أن هذه اللجان نادرًا ما تؤدي إلى تغييرات ملموسة. في حادث رمسيس 2019 مثلًا، اقتصرت النتائج المعلنة على توقيف بعض العاملين وتحميلهم المسؤولية، بينما لم يُكشف للرأي العام شيء عن حالة أنظمة الإشارات أو معايير الصيانة أو سجل الأعطال السابقة، لذلك اللجان تحولت في الخطاب الرسمي إلى أداة سياسية لإظهار التحرك السريع، أكثر من كونها آلية حقيقية لإصلاح المنظومة أو تعزيز الشفافية.

تكشف المقارنة أيضًا بين تغطية الصحف الرسمية والمستقلة فجوة واضحة في الخطاب، الأولى تتبنى سردية الوزارة بحذافيرها: خطأ بشري، لجنة، تعهد بالمحاسبة، نهاية القصة، أما الثانية فتطرح أسئلة أكثر عمقًا: لماذا توقفت أنظمة التحكم الآلي؟ أين ذهبت مليارات القروض المخصصة للتطوير؟ ولماذا لا تتحمل القيادة السياسية والإدارية مسؤولية مباشرة؟

وبتلخيص بيانات الصحف وتحليل تصريحات المسؤولين على مدار السنوات الخمس الأخيرة، يظهر نمط واحد لا يتغير: أرواح المواطنين تُفقد على القضبان، بينما يبقى الخطاب الرسمي عالقًا في دائرة الأعذار التقنية والوعود المؤجلة. لا وزيرًا استقال، ولا خطة إنقاذ واقعية أُعلنت، ولا آليات محاسبة سياسية تبلورت.

ماذا حققت خطط التطوير؟

يقول الدكتور عبد الله أبو خضرة، -أستاذ هندسة النقل بكلية الهندسة جامعة بني سويف-، في تصريح إلى زاوية ثالثة، إن حادث قطار مطروح لا يمكن البت في أسبابه حاليًا، إذ تتولى وزارة النقل التحقيق في ملابساته من خلال اللجان الفنية بالتعاون مع النيابة العامة والرقابة الإدارية، وهو ما يعني أن إعلان الأسباب الحقيقية يظل رهنًا بنتائج هذه الجهات الرسمية.

ويؤكد أبو خضرة أن هناك أزمات عامة تواجه المنظومة، لكنه يلفت إلى أن الدولة المصرية تطور مرفق السكك الحديدية بشكل شامل بعد سنوات طويلة من التهالك. ويوضح أن مصر تستعيد بهذا التطوير منظومة نقل بديلة تحتاج إليها بشدة، خاصة أن ما قبل عام 2014 شهد اعتمادًا شبه كامل على الطرق كوسيلة وحيدة للنقل، وهو ما أدى إلى كثافات مرورية مرتفعة وحوادث متكررة وإهلاك كبير للبنية التحتية. ويرى أن عودة الاعتماد على بدائل النقل مثل السكك الحديدية والنقل النهري أمر ضروري، لأن قطارًا واحدًا يستطيع نقل ما يعادل أكثر من 200 شاحنة، فيما ينقل النقل النهري أحجامًا أكبر من ذلك.

ويشير أستاذ هندسة النقل في حديثه معنا إلى أن خطة التطوير تشمل إضافة أطوال جديدة لشبكة السكك الحديدية، وإنشاء خطوط مزدوجة، وربط الشبكة بمناطق جديدة لم تصلها القطارات من قبل، مثل خط العاشر من رمضان والسلام، وخط السادس من أكتوبر المرتبط بميناء الإسكندرية، إلى جانب خط يربط الموانئ الجافة بالموانئ البحرية الرئيسية، والدخول إلى شبه جزيرة سيناء لأول مرة منذ خمسين عامًا عبر محاور روسية.

ويشرح أبو خضرة أن التطوير يتم على عدة محاور، منها شراء 260 جرارًا جديدًا ورفع كفاءة 380 جرارًا قائمًا، وشراء 1350 عربة ركاب حديثة، وتجديد 1385 عربة أخرى. كما يجري تصنيع أكثر من ألف عربة ركاب وألف عربة بضائع محليًا بمختلف الدرجات والأنواع. ويضيف أنه يتم أيضًا شراء 7 قطارات جديدة و7 قطارات نوم سياحية حديثة، بالتوازي مع رفع كفاءة العنصر البشري عبر التدريب والتأهيل، مثل تحويل مدرسة الورديان إلى معهد ثانوي فني وتأهيل خريجيه، بجانب إعداد المتقدمين للعمل في وظائف النقل من خلال الأكاديميات العسكرية.

ويتابع أن مصر تدخل في شراكات مع كبريات الشركات العالمية لنقل وتوطين التكنولوجيا، حيث تتسابق شركات من كوريا والصين وفرنسا وإسبانيا وأمريكا وروسيا والمجر وألمانيا للتعاون في مشروعات السكك الحديدية. ويضيف أن هناك مشروعات كبرى مثل إنشاء مجمع صناعي في شرق بورسعيد على مساحة 300 ألف متر مربع، ومجمع آخر في برج العرب على مساحة 66 فدانًا بالتعاون مع الجانب الإسباني، إضافة إلى مشروعات في بني سويف والإسكندرية مع شركاء فرنسيين وألمان، بما يهدف إلى سد احتياجات السوق المحلية وتصدير الفائض للخارج وتوفير العملة الصعبة، ما يضع مصر على خريطة صناعة السكك الحديدية عالميًا.

ويؤكد أن التطوير يشمل أيضًا مسار السكة الحديد ذاته، من تحديث القضبان والفلنكات، وتحويل أنظمة المزلقانات والإشارات من الميكانيكية إلى الإلكترونية، مع تطبيق أنظمة التحكم المركزي الأوتوماتيكي (ETC) لمتابعة حركة القطارات وتقليل الاعتماد على العامل البشري. كما يوضح أن مصر تنفذ خطة للتحول نحو القطارات الكهربائية بإضافة 2000 كيلومتر من الخطوط الجديدة، بما يمثل نحو 20% من إجمالي أطوال الشبكة، ويحقق قدرة استيعابية تعادل تقريبًا ما تنقله شبكة الديزل الحالية التي يبلغ طولها 10 آلاف كيلومتر. 

ويضيف أبو خضرة أن شبكة السكك الحديدية الحالية تنقل يوميًا نحو 13 مليون طن بضائع و2.5 مليون راكب، بينما تستهدف القطارات الكهربائية الجديدة نقل 10 ملايين طن بضائع سنويًا و2 مليون راكب يوميًا، وهو ما يمثل طفرة كبيرة في قدرات النقل بالدولة.

بالإضافة إلى ذلك، يشدد على أن عملية التطوير تشمل تحسين المحطات ورفع كفاءتها وإنشاء محطات جديدة، مثل محطة التشكيل لخدمة أبناء الصعيد، إضافة إلى تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين بما يشمل ذوي الهمم، وتسهيل عملية الانتقال داخل المرافق.

ويشدد أستاذ هندسة النقل على أن أي حادث في العالم أمر لا يتمنى أحد وقوعه، لكنه يظل أمرًا محتملًا في كل الدول. ويشير إلى أن مصر تسابق الزمن للانتهاء من تطوير المرفق بشكل كامل، وهو ما تؤكده البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التي ترصد تراجع معدلات حوادث القطارات مقارنة بالماضي. ويعرب عن أمله في أن تصل مصر مستقبلًا إلى “صفر حوادث” مع اكتمال خطة التطوير.

 

نوصي للقراءة: ارتفاع حوادث الطرق في مصر يُناقض المشاريع العملاقة


منذ التسعينيات حتى اليوم: لماذا تتعثر مشروعات الإصلاح؟

تاريخ محاولات إصلاح السكك الحديدية في مصر يكشف عن نمط متكرر من الإعلانات الضخمة والتعثر في التنفيذ، منذ حادث العياط عام ٢٠٠٢ الذي راح ضحيته أكثر من ٣٥٠ مواطنًا في واحدة من أبشع كوارث النقل عالميًا، تعهدت الحكومات المتعاقبة بخطط تطوير شاملة. لكن بعد أكثر من عقدين، لا يزال المشهد كما هو.

جزء من المشكلة، وفقًا لمراقبين يكمن في البيروقراطية والفساد وسوء الإدارة، تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات أشارت مرارًا إلى إهدار مليارات الجنيهات في عقود شراء وصيانة لم تؤتِ ثمارها، كذلك، ركزت الحكومات على حلول ترقيعية بدلًا من إعادة هيكلة جذرية للهيئة. النتيجة: قطاع متهالك يعتمد على بنية تحتية عمرها أكثر من قرن.

ومنذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، أُعلن عن ما يقارب عن 6 خطط ومشروعات لتطوير وتحديث منظومة سكك حديد مصر، ورغم من ذلك لم يتوقف نزيف الدم على القضبان. فمنذ عام 2009 وحتى 2023، وقعت أكثر من 16 ألف حادثة قطار بمتوسط 0.1 حادثة لكل 10000 من عدد السكان، إذ تراجع معدل تصادم القطارات بين عامي 2011 و2012 قبل أن يعاود الارتفاع مجددًا.

وكانت وزارة النقل أعلنت، وضع خطة شاملة لتطوير عناصر منظومة السكك الحديدية منذ عام 2014 وحتى 2024 بتكلفة 225 مليار جنيه؛ ترتكز على خمسة محاور رئيسة تشمل تطوير الوحدات المتحركة، والبنية الأساسية، ونظم الإشارات، والورش الإنتاجية، وتنمية العنصر البشري، بهدف رفع طاقة النقل وتعظيم نقل الركاب والبضائع على خطوط الشبكة.

وفي نوفمبر عام 2015، كلف الدكتور إبراهيم الدميرى – وزير النقل-، رئيس هيئة السكة الحديدية حينذاك، بوضع خطة جديدة لهيكلة السكة الحديدية، بحيث يجرى تعديل الخطة القديمة الموضوعة في عام 2006، التي بدأ تطبيقها منتصف 2007، إلى جانب إعادة النظر في وضع الشركات المملوكة للهيئة المؤسسة بموجب الخطة القديمة.

كانت وزارة النقل في عام 2006، قد كلفت مكتب الاستشارات الأمريكى “بوز آلن” بإعداد خطة لتطوير وإعادة هيكلة السكة الحديدية، انتهت إلى تقسيم الهيئة إلى سبع شركات تتولى القيام بأنشطتها، وتستهدف السيطرة وإدارة عاملي الهيئة الذين تعدت أعدادهم حينها 70 ألف عاملًا، إلى جانب الاستغلال الأمثل لموارد الهيئة وأصولها وأملاكها. وبعد ثمان سنوات من تطبيق خطة التطوير قررت وزارة النقل وقف تطبيقها، إذ لم تتعدى أرباح هيئة السكك الحديد طوال السنوات الثمانية الـ30 مليون جنيه فقط، ما عُد خسارة مدوية للهيئة.

وفي سبتمبر من 2014، بدأت أولى محاولات التطوير مجددًا خلال مؤتمر “يورو موني” المصري، إذ أعلن المسئولون عن السكك الحديدية المصرية حينها، عن استثمار بقيمة عشرة مليارات دولار أمريكي على مدى عشر سنوات لتحديث وصيانة شبكة السكك الحديدية القديمة، مع 2.2 مليار دولار من البنك الدولي.

واستهدف ترقية المعدات الدارجة والبنية التحتية للسكك الحديدية، إضافة إلى التدريب ونقل المعرفة، لكن بعد خمس سنوات فقط من بدء خطة التطوير، اندلع حريق هائل في محطة مصر برمسيس وسط القاهرة، أدى إلى مصرع 20 مواطنًا وإصابة أكثر من 40 آخرين، وفق وزيرة الصحة حينها، هالة زايد. عقب الحادث تقدم وزير النقل حينها، هشام عرفات، باستقالته من منصبه بعد عام واحد فقط من استلامه الحقيبة الوزارية. وفي العام نفسه تولى كامل الوزير – رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المصرية السابق-، كرسي وزارة النقل، خلفًا لعرفات والمستمر إلى الآن في منصبه.

هنا تجدر الإشارة إلى أنه خلال الفترة من 2009 إلى 2023، لجأت حكومة القاهرة للحصول على عدد من القروض تحت عنوان تطوير هيئة سكك حديد مصر؛ ففي أغسطس 2009، وافق البنك الدولي على إقراض هيئة السكك 270 مليون دولار، في إطار الخطة القومية التي وضعتها الحكومة لإعادة هيكلة الهيئة التي استهدفت تحديث إشارات وتركيب نظام تحكّم مركزي على خط (القاهرة/ عرب الرمل – الإسكندرية)، وتجديد 200 كيلومتر من قضبان خط (القاهرة/أسوان) وتحديث خط (بنها/ بورسعيد). ارتفعت قيمة القرض في سبتمبر 2011 لتصل إلى 600 مليون دولار، بعد الموافقة على القرض الإضافي بقيمة 330 مليون دولار، بهدف تطوير نظام الإشارات وتركيب نظام تحكّم مركزي لقطاع (بني سويف/ أسيوط) الذي يعتبر جزءًا من خط (القاهرة/ أسوان). ومنذ 2009 وحتى العام الجاري 2024، اقترضت مصر مليارات الدولارات بغرض تطوير هيئة السكة الحديد.

رغم مليارات الدولارات من القروض الخارجية التي حصلت عليها سكك حديد مصر بخلاف المنح والقروض الداخلية، استمر نزيف الدم على القضبان؛ فخلال الفترة من 2009 وحتى 2024 حصدت الحوادث أرواح أكثر من 3500 ضحية، فيما أصيب نحو 5500 آخرين، وفقًا للنشرات السنوية للجهاز المركزي للإحصاء.

وأخيرًا، بعد حادث جديد مأساوي، مرة أخرى، انتهى المشهد بالعبارة ذاتها: “شُكّلت لجنة.” لكن خلف هذا الإجراء الروتيني، تتراكم أسئلة أثقل من أي تقرير فني. لماذا لم توقف مليارات القروض نزيف الأرواح؟ لماذا يغيب مفهوم المسؤولية السياسية في كل كارثة؟ وكيف يمكن لمنظومة بُنيت على بيروقراطية متجذّرة وديون متضخمة أن تُصلح نفسها عبر لجان مؤقتة ووعود مؤجلة؟

 

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search