في لحظة سياسية تتسم بالتراجع الحاد في الحريات وانكماش المجال العام، يعود الجدل حول جدوى العمل الحزبي في مصر إلى الواجهة، لا سيّما مع اقتراب الانتخابات البرلمانية المقبلة. وسط هذا المشهد، يطرح “حزب التقدم” نفسه كمشروع سياسي قيد التأسيس، يحاول أن يجد لنفسه موطئ قدم بين ثنائية الانغلاق السياسي والمشاركة الضرورية. في هذا الحوار مع زاوية ثالثة، يتحدث ياسر الهواري، الأمين العام للحزب، عن دوافع تأسيس الحزب، ومرجعياته الفكرية، وأسباب اختياره لهذا التوقيت تحديدًا. كما يوضح موقفه من الحوار الوطني، وجدوى المشاركة في البرلمان، وحدود التنسيق مع أحزاب الموالاة، ويرد على الاتهامات بالتنسيق الأمني، والانزياح عن الموقف المعارض.
يمتد الحوار أيضًا ليشمل تقييمه لأداء السلطة في الملفات الاقتصادية والحقوقية، وموقفه من ملف سجناء الرأي، وقضية عودة المعارضين من الخارج، وحجب المواقع الصحفية، وصولًا إلى رؤيته للدور المصري في الحرب على غزة. حوار يتجاوز الخطابات الجاهزة، ويحاول أن يعيد طرح سؤال: هل لا يزال هناك مكان ممكن للعمل السياسي داخل الدولة؟
ما ملامح المشروع السياسي الذي يطرحه “حزب التقدم”؟ وما العوامل التي دفعتكم لاختيارهذا التوقيت تحديدًا لإطلاق الحزب؟
فكرة حزب “التقدم” بدأت منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، وتحديدًا عقب انطلاق الحوار الوطني، بدأت مجموعة من الأشخاص -كنتُ واحدًا من بينهم، ولستُ بالطبع من أهمهم – في مناقشة فكرة تأسيس حزب سياسي جديد. من بين هذه الشخصيات أسماء معروفة وذات وزن، مثل الدكتور رائد سلامة وآخرين.
الدافع وراء الفكرة كان شعورًا مشتركًا بيننا بأن الأحزاب القائمة لم تعد تعبّر عن تطلعاتنا بالشكل الكافي. فبعضنا كان قد انضم بالفعل إلى أحزاب قائمة ثم انسحب بعد خلافات مع قياداتها، وهي خلافات لم تكن شخصية بقدر ما كانت سياسية، ولذلك كنا نبحث عن إطار سياسي يعكس القيم والأفكار التي نتبناها، وهو ما لم نجد له تمثيلاً حقيقيًا في المشهد الحزبي القائم. من هنا نشأت فكرة تأسيس حزب جديد يقوم على مبادئ “الديمقراطية الاجتماعية”، وهي أيديولوجية نراها الأقرب إلى واقع المصريين.
نحن لا نتبنى التوجه الليبرالي المتطرف، ولا نتماهى مع اليسار الاشتراكي أو الشيوعي في أقصى تجلياته. بل نطمح إلى تيار وسطي، يوازن بين العدالة الاجتماعية والحريات، ويلتزم بسياسات اقتصادية تراعي حقوق المواطن وتعمل على تحسين حياته. يتبنى الحزب فكرة”القومية المصرية”، وهي طرح لم نراه مطروحًا بوضوح في الساحة السياسية من قبل. وهذا الطرح ليس نقيضًا للقومية العربية أو للدوائر الإسلامية، بل نعتبرها إطارًا جامعًا لهوية المصريين، بجميع محطاتها التاريخية.
أما عن التوقيت، فقد وجدنا أن المرحلة الحالية -قبل انتخابات مجلس النواب المقبلة- هي الأنسب لطرح المشروع، فلم يكن لدينا اهتمام بالاشتباك والمشاركة في انتخابات مجلس الشيوخ، لكن قد نشارك في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
هل استكملتم جمع التوكيلات القانونية المطلوبة لتسجيل الحزب رسميًا؟ وكيف ترون تأثير القيود على الحريات والمجال العام على فرص تأسيس “حزب التقدم” في الوقت الراهن؟
نحن ما زلنا في مرحلة “تحت التأسيس”، ونسعى خلال المرحلة القادمة إلى بناء قواعد شعبية في المحافظات المختلفة، بهدف جمع التوكيلات القانونية اللازمة لتسجيل الحزب رسميًا. وربما تمتد هذه المرحلة إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، لكننا الآن نعلن بوضوح أننا بصدد تأسيس حزب جديد تحت اسم “حزب التقدم”.
ندرك تمامًا أن الواقع السياسي ليس سهلاً، وأن طريق الحريات ليس مفروشًا بالورود، لكننا لم نتوقع يومًا غير ذلك. مصر عبر تاريخها لم تكن ساحة سهلة للعمل السياسي. ربما كانت هناك مساحة أوسع في أعقاب ثورة يناير، وهو أمر مفهوم في أعقاب الثورات. لكننا نؤمن أن علينا العمل وسط التحديات، لا انتظار الظروف المثالية، لأن هذه الظروف قد لا تأتي أبدًا.
تداولت بعض الأطراف اتهامات بأن تأسيس “حزب التقدم” جرى بتنسيق مسبق مع جهات أمنية. كيف ترد على هذه المزاعم؟
هذا لم يحدث معنا على الإطلاق، ربما لأننا لا نُعتبر مؤثرين بشكل يستدعي ذلك. أذكر أن هذا الكلام قبل سابقًا حين كنت أحد مؤسسي “حزب العدل” بعد ثورة يناير، ترددت نفس الشائعات بأنه تم بالتنسيق مع المجلس العسكري، وهو أمر غير صحيح.
ربما تحتاج الأحزاب الكبيرة، التي تخوض سباقات انتخابية على مئات المقاعد، إلى أشكال من التنسيق مع الدولة أو أجهزتها، وليست مع الأحزاب الوليدة مثلنا، وبالمناسبة، توجد في مصر أحزاب معارضة، مثل حزب “العيش والحرية”، و”التحالف الشعبي الاشتراكي”، و”الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي”، ولا أحد يقول إنها منسقة مع الأمن.
نوصي للقراءة: حمدين صباحي: الوضع الاقتصادي اليوم نتيجة انكسار ثورة يناير
هل ترون أن نظام الانتخابات الحالي يوفّر بيئة عادلة ومحفّزة للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، أم أن هناك ما يستدعي تغييره؟
لا أراه الشكل الأمثل. الشكل الأفضل هو ما يتيح وجود طيف واسع من القوى والتيارات السياسية، وهو ما تحققه القائمة النسبية، وقد قلت ذلك مرارًا في جلسات الحوار الوطني منذ ثلاث سنوات وحتى اليوم. النظام الحالي لا يحقق هذا الهدف.
أرى أن القوائم النسبية هي الأمثل، لكنني في الوقت نفسه أعترف بأنني لا أملك فرض قواعد اللعبة. إذا اتُّفِق على هذا الشكل، فليكن، على أمل أن تتاح لنا في البرلمان المقبل فرصة للعودة إلى نظام القائمة النسبية، الذي أراه أكثر عدالة وفعالية.
حتى الآن، لم يتخذ الحزب قرارًا نهائيًا بشأن الشكل الذي سيخوض به المعركة الانتخابية، سواء عبر القوائم أو المقاعد الفردية. وأقول ذلك احترامًا لزملائي في الحزب؛ فلا يصح أن أُصدر موقفًا شخصيًا وكأنه موقف جماعي. وأعتقد أن المنافسة على بعض المقاعد الفردية ستكون مطروحة بقوة. كما أننا قد ندخل القائمة المطلقة، لكن حتى الآن لم تحسم الأمور بشكل نهائي.
نوصي للقراءة: مها عبد الناصر: يجب وقف المشاريع غير الضرورية لصالح تلبية احتياجات المواطنين
هل هناك نية للتحالف أو التنسيق مع أحزاب تُصنّف ضمن “أحزاب الموالاة”؟ وهل ترون أن هذا النوع من التنسيق بات ضرورة للمشاركة في العمل السياسي ضمن الواقع القائم؟
القائمة المطلقة ليست تحالفًا سياسيًا، بل هي تحالف انتخابي بالمعنى الضيق للكلمة. الأطراف المنضوية تحت هذه القوائم لا تتبنى بالضرورة برنامجًا سياسيًا واحدًا أو رؤى موحدة، بل يجمعها هدف انتخابي مشترك في ظل قواعد قانون الانتخابات القائم، الذي – للأسف – لا يُعزز التنوع السياسي كما يجب.
والسؤال الجوهري هو: هل من الأفضل أن تكون هناك معارضة داخل البرلمان، أم نترك الساحة بالكامل لمن يشبهون بعضهم؟ هذا سؤال نناقشه حتى داخل الحزب. وجود معارضة حقيقية داخل البرلمان، حتى في ظل قانون غير مثالي، أفضل – من وجهة نظري – من الغياب الكامل.
يشكك البعض في جدوى وجود معارضة داخل البرلمان، معتبرين أن الهيمنة السياسية تحدّ من تأثيرها الفعلي. كيف ترد على هذا الطرح؟
أتفهم هذا الطرح، لكنه لا يلغي قيمة وجود بعض الأصوات المعارضة التي قامت بأدوار مهمة. في برلمان 2020، على سبيل المثال، رأينا نوابًا محترمين قدموا أداءً جيدًا، مثل النائبة أميرة صابر، والنائب محمد عبد العزيز، وضياء الدين داوود، وغيرهم.
وفي برلمان 2015، ورغم أنني شخصيًا لم أشارك وقتها اعتراضًا على طريقة تشكيل البرلمان، وكان لدي فرص لذلك كوني المتحدث الرسمي باسم حزب المصريين الأحرار – الذي حصل على الأغلبية حينها – فإنني أحترم أداء نواب مثل الأستاذ أحمد طنطاوي ومجموعة 25-30، الذين أثبتوا أن الممارسة الجادة ممكنة حتى في ظل قوانين غير مثالية.
نوصي للقراءة: أحمد الطنطاوي: السلطة غير راغبة في انتخابات جادة والشعب قادر على التغيير
خلص تحقيق أعدّته زاوية ثالثة إلى أن القوائم الانتخابية تُحدّد مسبقًا داخل مؤسسات الدولة، وأن رجال الأعمال والنفوذ السياسي يهيمنون على المشهد الانتخابي. ما رأيك في هذه النتائج؟ وهل تتفق مع ما طُرح في التحقيق؟
لا أملك معلومات دقيقة حول ذلك، ولذلك لا أحب مناقشة ما لا أعلم. لكن من تجربتي ومعرفتي ببعض الأحزاب، مثل تحالف “الحيز المتاح” الذي يضم “المصري الديمقراطي” و”العدل” و”الإصلاح والتنمية” بقيادة الأستاذ أنور السادات، أرى أنهم يعقدون اجتماعات جدية، تشهد اختلافات داخلية حقيقية، وتُطرح فيها أسماء، وتحدث نقاشات، وهذا يُفنّد فكرة أن الأمور تُحسم مسبقًا بطريقة مغلقة أو مرتبة.
نوصي للقراءة: 70 مليون للمقعد: من يشتري طريقه إلى برلمان مصر؟
كيف تقيّم مسار الحوار الوطني منذ انطلاقه؟ وهل تعتقد أنه حقق أي نتائج سياسية أو تشريعية ملموسة على أرض الواقع؟
أراها تجربة مهمة، لأن مجرد الدعوة إلى الحوار الوطني أوجدت مناخًا مختلفًا عن ذلك الذي كنا نعيشه قبلها، بل ومختلفًا عمّا بدأ يتشكل من جديد بعد 7 أكتوبر، حين بدأت المساحة العامة تضيق مجددًا. في الحقيقة، الحوار الوطني هو جزء لا يتجزأ من مسار الإصلاح السياسي، وأنا من الذين أصبحوا يؤمنون أن هذا البلد لا يصلح معه سوى الإصلاح المتدرج، لا الانفجارات الكبرى أو ما يشبه الثورات.
نموذج ثورة 25 يناير انتهى ولن يتكرر، ببساطة لأن تركيبة المجتمع تغيرت. هناك عنف مقلق موجود عند بعض التيارات، وهذا العنف يُخيفني، وقد لا يُخيف آخرين، لكنني أراه خطرًا حقيقيًا. لذلك، بات انحيازي لمسار الإصلاح التدريجي، والحوار الوطني كان محطة مهمة ضمن هذا المسار.
حين طُرحت فكرة الحوار الوطني في إفطار الأسرة المصرية في 26 أبريل 2022، عادت الأحزاب إلى فتح مقراتها، وعاد السياسيون إلى المشهد، وصدرت بيانات، وظهر صوت المعارضة مجددًا – ولو بشكل محدود – في الإعلام المصري.
بدأنا نرى طرفًا يمكن التحاور معه. تعلمنا الجلوس سويًا، احترام الوقت، احترام الرأي المخالف. وبغض النظر عن النتائج التي تحققت، فإن الحوار الوطني كمنهج وفكرة كان خطوة جادة. فالإصلاح السياسي لا يُنجز في عام أو عامين، بل هو طريق طويل مليء بالعقبات، وقد يتقدم أحيانًا ويتراجع أحيانًا أخرى. وأنا أتمنى أن نعود إلى مناخ الحوار مجددًا.
أتفهم تمامًا أن الأجهزة الأمنية لديها مخاوفها بشأن الأخطار المحيطة بالبلد بعد 7 أكتوبر، لكن الحل ليس في إغلاق المجال العام، بل في إعطاء مساحات وهوامش للناس ليعبروا عن آرائهم بشكل متحضر، حتى لا يلجأوا إلى المساحات المتطرفة. والحوار الوطني كان أحد أدوات التعبير المتحضر. أتمنى أن تعود هذه المسألة مرة أخرى، حتى لو كانت النتائج ليست كما كنا نتمنى، لكنها كخطوة كانت محترمة جدًا.
نوصي للقراءة: مالك عدلي: أزمة الحبس الاحتياطي لا تحتاج إلى حوار وطني
يرى بعض المراقبين أنك انتقلت من موقع المعارض إلى موقع المفاوض أو القريب من السلطة. كيف ترد على هذا التصوّر؟ وما الذي تغيّر في مواقفك أو في السياق السياسي دفعك إلى هذا التحول؟
لقد غيّرتني السنوات الماضية. أصبحتُ، كما يُقال، من “المفاوضين” بدلًا من “المعارضين الصداميين”. لا أرى في ذلك عيبًا، بل نضجًا. هل كانت معارضتي السابقة صوابًا أو خطأ؟ لا أنظر إليها بهذه الطريقة. أراها مرحلة من تجربتي، ومن الطبيعي أن يتغير الإنسان مع مرور الوقت.
النقطة المفصلية بالنسبة لي كانت في سبتمبر 2019، وقت دعوات التظاهر التي أطلقها محمد علي. كنت خارج مصر، وسمعت أصواتًا تدعو إلى عودة وجوه متطرفة مثل حازم صلاح أبو إسماعيل، وأخرى تحرّض بشكل مخيف. ورفضت أن أقبل هذا المصير لأولادي.
لديّ ثلاثة أبناء، أكبرهم ستبدأ دراستها الجامعية هذا العام، ولا أريد لهم أن يعيشوا سيناريو الفوضى أو الحرب الأهلية كما يحدث الآن في سوريا منذ وصول أحمد الشرع إلى الحكم.
أنا لست “مؤيدًا”، أنا شخص “أفاوض”، لدي وجهة نظر وأعبر عنها بطريقة مختلفة عن الطريقة التي كنت أعبر بها قبل 10 سنوات. هذا كل ما في الأمر. أقول نفس كلامي، ولكن بطريقة أهدأ وأكثر اتزانًا ومناسبة لي ولمرحلتي العمرية. وأرى أن هذه الطريقة تناسبني أكثر الآن. أصبح لديّ موقف أكثر اتزانًا. أنا لا أؤيد، بل أعبّر عن رأيي بطريقة أكثر وعيًا وهدوءًا. فمن الخطأ أن يظل الإنسان على نفس طريقته بعد 15 عامًا.
نوصي للقراءة: أسماء محفوظ: شعارات يناير لم تتحقق والسلطة تخشى المعارضة
كيف تقيّم أداء السلطة الحالية في الملفات الأساسية، وتحديدًا في ما يتعلق بالوضع الاقتصادي، وأوضاع حقوق الإنسان، وملف السجناء السياسيين؟
أداء السلطة والحكومات المتعاقبة، وخاصة حكومة الدكتور مصطفى مدبولي، سيء جدًا في الملف الإقتصادي. أما ملف حقوق الإنسان: أعتقد أن وثيقة حقوق الإنسان التي صدرت تحتاج إلى أن تُفعَّل. فملف حقوق الإنسان، وإن كان توسع بناء السجون قد حسّن من أوضاع السجناء قليلًا قليلًا مقارنة بالماضي، إلا أنه لا تزال هناك بعض الأزمات. أنا معترض جدًا على قانون الإجراءات الجنائية مثلًا، وأرى أن هذا القانون يضرب ملف حقوق الإنسان ويسبب له مشكلة كبيرة جدًا. بالتالي، نعم، ملف حقوق الإنسان يحتاج إلى شغل كثير، وأنا أدعو الحقوقيين إلى تكثيف عملهم أكثر فيما يتعلق بالملف الحقيقي الذي يحتاجهم فيه البلد.
لأنني أرى أن هناك خلطًا بين دور الحقوقي والسياسي قد أفسد الأمور. بعض الحقوقيين يضيعون وقتهم في الخناق مع السياسيين. السياسي ليست مهمته أن يقول الكلام بطريقة “المسطرة”. السياسي لديه “ميزان” يزن به الأمور ويرى أين قد تكون مصلحة البلد. هذا هو الفرق بين السياسي والحقوقي. الحقوقي لديه “مسطرة”، يقيس بها كل شيء، أما السياسي فيستخدم الميزان.الحقوقيون موجودون بالفعل، لكن هناك جهدًا ضائعًا في المناكفات مع السياسيين، وهذا ليس مجال عمل الحقوقي. أنا لا أقول إنهم لا يعملون، بل يعملون، لكن لو عملوا أكثر، سيكون هناك تحسين للملف الحقوقي.
نوصي للقراءة: النائب فريدي البياضي: مصر تواجه كارثة ديون تاريخية.. أين ذهبت القروض؟
يرى البعض أن هناك حقوقيين يبذلون جهدًا في تقديم مقترحات وحلول قانونية لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، لكن دون نتائج ملموسة. في رأيك، هل تكمن الأزمة في غياب الإرادة السياسية، أم في الطريقة التي تُطرح بها هذه المبادرات؟
أرى أن الأزمة في الإثنين في الطريقة والإرادة، وبالمناسبة، أنا أحيي جدًا مجموعة المحامين المحترمين (ولا أريد ذكر أسماء حتى لا أنسى أحدًا) أمثال خالد علي، نبيه الجنادي، جمال عيد، راجية، مالك عدلي، وغيرهم. هم يقومون بعمل رائع. لكن هناك حلقة ناقصة، وهي أنه بجانب الحقوقيين الذين يقدمون هذه الملفات، نحن نحتاج إلى أشخاص داخل البرلمان يعملوا على هذه القضايا، حتى لو لم يتم إقرارها، فعلى الأقل يكون هناك صوت مسموع. وهذا يعيدنا إلى السؤال القديم عن كيفية دخول المعارضة للبرلمان بهذه الطريقة. رأيي أنه لو كان هناك 10 نواب في المعارضة يستطيعون إثارة نقاش وعمل ضجة حول قانون الإجراءات الجنائية، لكان من الممكن أن تقدم الدولة تنازلات أكثر.
نوصي للقراءة: جمال عيد: بعض مؤيدي النظام يؤيدونه خوفًا.. لا يمكن استمرار الحكم بالقمع والإفقار
ملف السجناء السياسين
رأيي في ملف السجناء السياسيين ما زال كما عبّرت عنه خلال مشاركتي في الحوار الوطني: لا يليق بدولة مثل مصر أن يكون فيها ما يُسمى بسجناء الرأي أو السجناء السياسيين. هذا لا يصح. الأصل أن يُحبس الإنسان إذا ارتكب جريمة، لكن الرأي ليس جريمة.
نحن بحاجة أولًا إلى التخلص من الإرث الثقيل المتمثل في الحبس الاحتياطي، الذي تحوّل مع الوقت إلى عقوبة بحد ذاته. يُحبس أشخاص احتياطيًا لفترات طويلة، ثم عندما يُحالون إلى المحكمة قد تُبرئهم، لكنهم يكونون قد قضوا سنة أو سنتين من عمرهم في الحبس دون إدانة. هذه ممارسة غير عادلة، وهي واحدة من الأسباب الرئيسية لبقاء ملف السجناء السياسيين مفتوحًا حتى الآن.
في الحوار الوطني، اقترحتُ بديلًا عمليًا وأكثر إنسانية: إنشاء تطبيق على الهاتف المحمول، يُلزم المحبوس احتياطيًا بتسجيل الدخول مرتين يوميًا لتحديد موقعه الجغرافي، مع وضع نطاق لا يُسمح له بتجاوزه. وإذا خالف هذا الشرط، يتم التعامل معه قانونيًا باعتباره ارتكب مخالفة. هذا الحل يضمن الرقابة، ويحفظ كرامة الإنسان، ويُبقيه مع أسرته وعمله.
لكن أن يبقى الشخص محبوسًا احتياطيًا لفترات طويلة، فهذا غير مقبول. ملف سجناء الرأي بحاجة إلى جهد كبير، بل هو بحاجة إلى أن يُغلق نهائيًا. آن الأوان لأن نقول: كفى.
نوصي للقراءة: خالد داوود: 10 سنوات من غياب الأجهزة الرقابية عن محاسبة السلطة
اختيار الشخصيات والكفاءات لتولي المناصب العامة؟
حتى هذه اللحظة، ما زلت أرى نماذج تؤدي أداءً جيدًا جدًا، وهذا أمر يجب الاعتراف به بموضوعية. ولكني لن أذكر أسماء حتى لا يُفهم الأمر على أنه مجاملة، بل أريد الحديث عن المبدأ.
الطريقة التي نختار بها بعض المسؤولين التنفيذيين، وعلى رأسهم المحافظون، ما زالت – للأسف – تقوم على منطق “التكريم”. كأن تعيين المحافظ يُعدّ بمثابة تتويج لمسيرة أحدهم الطويلة، بعد تقاعده من وظيفة أو قطاع معين. والحقيقة أن هذا النهج خاطئ، لأن المحافظة ليست جائزة ولا مكافأة نهاية خدمة، بل هي مسؤولية كبيرة جدًا تحتاج إلى طاقة وجهد ورؤية.
أتمنى أن أرى شبابًا يتولون مناصب المحافظين، لا أن يُنتظر بلوغ المسؤول سن التقاعد ثم يُعيَّن في موقع تنفيذي حساس. نحن بحاجة إلى ضخ دماء جديدة، بأفكار جديدة، وطاقة عملية، لا أن تكون المناصب مكافآت على الماضي.
وبالمناسبة، أنا ممن يتمنون أن نصل إلى لحظة يكون فيها البرلمان هو الجهة التي تُشكّل الحكومة. هذا حلم قد يكون مؤجلًا، لكنه ليس مستحيلًا. من حقنا أن نحلم به ونطالب به.
ما نحتاج إليه فعليًا هو تغيير في طريقة اختيار القيادات، وأن يكون هناك انفتاح أكبر، ومعايير واضحة للترشيح والتعيين، تضمن أن الأصل في المناصب هو الكفاءة، لا المجاملة أو الترضية.
صحيح أن هناك وزراء ومسؤولين ومحافظين يؤدون أداءً جيدًا بالفعل، ويُشهد لهم بذلك، ولكن على الجانب الآخر، هناك أيضًا من لا يُقدمون الأداء المطلوب، ولا يُحاسَبون بشكل كافٍ. والمحصّلة النهائية هي أن الأداء العام يتأثر بهذه الفجوة.
هل تعتقد أن المعارضة المدنية تتعرض لإقصاء منظّم أو تضييق ممنهج ضمن المشهد السياسي الحالي؟
لا أرى أن هناك إقصاءً تامًا. المساحة ليست كبيرة، لكن هناك هامش متاح. منذ عامين أو ثلاثة، بدأ هذا الهامش يتسع. نعم، هناك تضييقات، والطريق ليس ممهدًا، لكنه ليس مغلقًا بالكامل. نذهب إلى مقرات أحزابنا، نجتمع، نتحدث، نكتب، ونظهر في الإعلام. هذا لم يكن ممكنًا بعد 2019. لذلك، يجب أن نكون منصفين في التوصيف.
هل هذا الهامش كافٍ؟ لا. لكنه موجود، ويمكن توسيعه، وهذا ما نطالب به. المساحة التي كانت متاحة خلال الحوار الوطني تقلصت، وعلينا أن نعيد المطالبة بها من جديد، لأن توسيع المجال العام يخدم الدولة، لا يهددها.
نوصي للقراءة: هشام قاسم: كل من يقترب من ملف الرئاسة يُسجن (حوار)
وثّق تقرير لـ”زاوية ثالثة” وفاة 25 مواطنًا داخل أقسام الشرطة خلال فترة زمنية محدودة. كيف تنظر إلى هذه الأرقام؟ وما موقفكم من واقع مراكز الاحتجاز في مصر؟
القلق المتزايد حول أوضاع مراكز الاحتجاز في مصر يستدعي استجابة واضحة وشفافة من المجلس القومي لحقوق الإنسان، باعتباره الجهة الرسمية التي يفترض أن الدولة تُعوِّل عليها لضبط هذا النوع من الملفات. فإذا ظهرت حالة تعذيب أو انتهاك في أحد الأقسام أو أماكن الاحتجاز، فإن على المجلس أن يتحرك مباشرة، ويُرسل لجنة إلى المكان، ويُجري تحقيقًا شفافًا، ويُعلن نتائجه.
من جهة أخرى، يجب أن يُفسح المجال للمجتمع وخاصة الإعلام لممارسة دوره في الرقابة والنقد. وأؤمن أن محاسبة المخطئين لا تعني تجريم الدولة، بل على العكس، تعني أن الدولة تُفعل أدواتها القانونية وتحاسب الأفراد المخطئين، أيًّا كانت رتبهم أو مواقعهم. هذه هي الدولة التي نطمح إليها: دولة لا تتستر على الخطأ، ولا تحمّل نفسها وزر تصرفات فردية.
لكن في المقابل، لا يمكن التعامل مع كل ما يُقال على مواقع التواصل الاجتماعي كحقائق مُسلّمة، فالكثير منها يفتقر للمصداقية. وأنا شخصيًا تعرّضت لمثل هذه الإشاعات. لذلك، أُعوّل فقط على ما يصدر عن مؤسسات حقوقية ذات مصداقية حين يتعلق الأمر بانتهاك خطير أو ممنهج.
نوصي للقراءة:
- عايدة سيف الدولة: شهادات من قلب النضال ضد التعذيب (حوار)
- بلقاس، الزقازيق، جرجا، إمبابة: الموت كأعراض جانبية للاحتجاز في أقسام الشرطة
شهدت الفترة الماضية اهتمامًا بملف عودة المعارضين من الخارج، سواء عبر مبادرات رسمية أو جهود مجتمعية. كيف تقيّم تطورات هذا الملف حتى الآن؟ وهل ترى أنه لا يزال مطروحًا بجدية على أجندة الدولة؟
ملف عودة المعارضين من الخارج يحتاج إلى عودة الاهتمام به بنفس الزخم والروح الإيجابية التي شهدناها في بدايته. هذا الملف كان، في لحظة ما، بمثابة جسر يُهدئ التوتر بين الدولة وقطاع من معارضيها. والحقيقة أن الناس تفرح بعودة من عاشوا بالخارج لفترة طويلة، لأنهم في كثير من الأحيان كانوا يعيشون بأجسادهم هناك، لكن أرواحهم وقلوبهم هنا في مصر.
للأسف، تعثّر الملف في الفترة الأخيرة، ربما بسبب التطورات الإقليمية المعقدة، خاصة ما بعد 7 أكتوبر، لكن ذلك لا يعني أن نتجاهله. فالمغترب القسري ليس أقل ألمًا من المسجون، وكلاهما يستحق إعادة النظر.
كيف تنظر إلى سياسات حجب المواقع الصحفية في مصر، خاصة في ما يتعلق بمنصات مستقلة مثل “زاوية ثالثة”؟ وهل ترى أن هناك حاجة إلى وضع معايير واضحة وشفافة لتنظيم هذا الملف؟
شهادتي في زاوية ثالثة مجروحة، فأنا أٌقدر هذا الموقع والقائمين عليه، وعندما نتحدث عن حجب المواقع، فأنا أرى أن هناك حاجة لوضع معايير واضحة وصريحة. لا يجوز أن يُحجب موقع لمجرد أن خطابه مختلف أو ناقد. الموقع يجب أن يُحاسب فقط إذا روّج عن قصد لأخبار كاذبة تم التحقق من عدم صحتها، أو إذا حرّض على العنف، أو دعا إلى الفوضى. هذه هي الحدود التي يمكن عندها فقط أن نتحدث عن إجراء مثل الحجب، ويُفترض أن يكون هذا القرار في يد نقيب الصحفيين، لا أي جهة أخرى.
إقصاء المواقع المحترمة يترك فراغًا تملؤه منصات خارجية غير مهنية، تُروّج للشائعات، وتُثير الغضب، وربما تدفع الناس إلى التطرف. لذلك، فإن وجود خطاب إعلامي ناقد، مهني، ومسؤول داخل مصر هو الضمانة الحقيقية ضد الخطاب الفوضوي.
كيف تقيّم الموقف المصري الرسمي تجاه ما يجري في غزة؟ وهل ترى أن الدولة بذلت أقصى ما يمكن سياسيًا وإنسانيًا في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة؟
رغم أنني كنت أتمنى أن يكون الموقف المصري أقوى مما هو عليه، إلا أنني وبكل موضوعية أرى أن مصر قدّمت أكثر المواقف احترامًا وإنسانية في العالم تجاه ما يجري في غزة. مصر كانت أكثر دولة قدمت مساعدات، وتحملت الكثير من التعنت في مفاوضات بالغة التعقيد، بما في ذلك من أطراف فلسطينية.
نعم، كنا نتمنى فتح معبر رفح بشكل أوسع للحالات الإنسانية، وتكثيف الضغط السياسي والدبلوماسي لإدخال المساعدات، لكن في النهاية يجب أن ندرك أن المعبر لم يعد معبرًا بالمعنى العملي، بل أصبح هناك طرف إسرائيلي يقف مباشرة على الجانب الآخر، ويرفض دخول المساعدات.
دعونا لا نُحمّل الدولة المصرية ما لا تتحمله، وعلينا أن نميز بين حدود الممكن، وحدود الحلم. إسرائيل، بما ترتكبه من جرائم جماعية ضد المدنيين، ارتكبت ما يفوق في فظاعته ما فعله النازيون، لكن العالم يتعامل مع هذا الإجرام وكأنه لا يُرى. لذلك، علينا أن نحفظ لمصر موقفها المتوازن، حتى ونحن نطالب بالمزيد من الضغط لصالح الإنسانية.