الولد الغامض "قصة قصيرة"

290

بعد أنتهائه من مذاكرة محاضرات اليوم؛ ذهب إلى سريره، وأتكأ على جانبه الأيمن، وهو يتوق إلى أستكمال قراءة رواية الكاتب الإنجليز جورج أوريل1984م، تلك العبقرية الأدبية المبلورة صورة مُريعة لمجتمع من المجتمعات الكليانية، وأثناء قراءته لها؛ كانت تساوره مشاعر متنافره، مابين شغفه للوصول لنهاية هذه الرائعة الأدبية، ومابين مخاوفه التي ترجمت في سرعة دقات قلبه، وكان مرجعها إلى فزعه من أن توجد مثل هذه المجتمعات على أرض الواقع من ناحية أولى، وخوفه على بطل الرواية وينستون سميث من ناحية ثانية، نظراً لأنجراف جاسر المهدى بأحاسيسه وعواطفه داخل أحداث الرواية، فبات جزءاً وثيقاً من الرواية في مخيلته، ودائماً ما صال حديث طويل في رسه بين صوتين أحدهما إيجابي والآخر سلبي.  

وكان الحديث من قبيل اآتي: الصوت الإيجابي يطرح فكرة عابرة فيقول: لا لا لايمكن أن يصل القمع وتكميم الأفواه مثلما أشار جورج أورويل في روايته، إن هذا ما هو إلا محض هراء وعبث ومبالغة، نحن بشر في النهاية والضمير الإنساني أقوى من النفس البشرية التي تصبو إلى السيطرة وأمتطاء الهيلمان والظفر بالصولجان. 

فيفحمه الصوت السلبي بتفنيد يدحض كل حججه فيرد عليه: ما هذه الترهات..! لستُ صوت سلبي كما تزعم؛ ولكني صوت واقعي، وأنت لستُ صوت إيجابي؛ ولكنك صوت طوباوي، ما هو الذي لا يمكن أن يحدث؟؟ أسرعان ما نسيت ريثما لا أرجع بذاكرتي أكثر من ذلك المجازرالتي حدثت في القرن العشرين كيف فتكت النازية بقيادة دولف هتلر باليهود لأسباب سياسية وعرقية؟ وكيف نكلت الفاشية في إيطاليا بشعبها وجَبَّت ألسنة معارضيها؟ ...وإلخ من مجازرقد أرتكبت في القرن العشرين نحتاج إلي ساعات طويلة لإعطاء نبذة عنها، وبعيداً عن القرن العشرين؛ أنسيت ما حدث في القرن الواحد وعشرين من قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإرتكاب جرائم حرب عام 2003م في العراق، وقيام الحكومات الإسرائيلية المتواترة بالتفنن في قمع الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع من الجميع دون الخضوع للضمير الإنساني أو القواعد القانونية الدولية الآمرة؟؟ أنسيت مقولة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز(الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) التي تثبت مع رور الزمن صحتها؟؟ بعيداً عن الأحداث السياسية التي تدور في آفاق المجتمع الدولي، هل أنت تستطيع أن تعبر عن رأيك في مجلة الجامعة إن وجدت، أو خارج دائرة الأصدقاء (زين وإبراهيم وإسماعيل)، هل تستطيع أنت تقول بصوت مرتفع ترن موجاته في آذان قامعيه يسقط كل نظام قمعي أو تقول لهيئة التدريس بما يترأسهم عميد الكلية ورئيس الجامعة ووزير التعليم العالي أنتم أفاقين ومتملقين للسلطة وعارعلى هذه المهنة العظيمة التي تشكل عقول الطلاب دون أن يطولك بطشهم؟؟  لا لا ياعزيزي كنت أظنك أذكى من ذلك. 


بعد الحديث المضني الذي دار في رأس جاسر المهدي، تذكر والبسمة مرتسمه على وجهه ملة نبيل سليمان المتكررة (أحد أصدقائه المقربين في الجامعة)، أحذر الولد الغامض يا سياسي يا محنك، كانت هذه أخر جملة جالت في ذهنه، قبل أن ينام؛ لكي يستيقظ مبكراً ويذهب إلى جامعته لحضور محاضراته. 


نام جاسرالمهدي نوماً عميقاً، وأستيقظ مبكراً كعادته، وارتدى ملابسه، وخرج مبكراً من منزله لمحادثة أصدقائه، لأنه كان دائماً ما يقول لنفسه لابد أن أكون من نباريس الأمل في التغيير لابد من أن أقوم بالتوعية سواء عن طريق الكتابة أو توعية أصدقائى من الشباب والشابات في الناقشات التي تدور بيننا، لابد أن نتملص من القبضة الأمنوقراطية، لابد أن نعبر عن رأينا بكل حرية، لبد أن نجاهد للحصول على حقنا في التعبير عن رأينا دون الخوف من مغبة هذا التعبير، لابد أن نشعر بمن يتلوى من وجع القهروالجوع والأستبداد، وننتصر للطبقة الكادحة ولجميع المقموعين، وأن نحترم ونقدر دورالمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان، لابد أن نضع الأمور في نصابها الحقيقي؛ جميعهم اضطهدوا في بلادهم لغاية نبيلة، لرسالة أظن أنها صادقة، لايجب أن ننصت للأتهامات الجزافية الرائجة بين الأبواق الإعلامية الأمنية، لابد من استنكار اعتقالهم ومنعهم من السفر والتنكيل بهم بأي سبل أخرى.


دار هذا الحديث بينه وبين نفسه أثناء طريقه إلي الجامعة، وكالعادة وجد في أنتظاره على بوابة الجامعة نبيل سليمان، بعد مصافحتهم؛ داخلا الجامعة، وأثناء طريقهم للجامعة لاحظ جاسر المهدي مظاهرة تندد بنقل السفارة الأمريكية إلي القدس؛ فسرعان ما هرول ناحيتها؛ فهرول وراءه نبيل سليمان وأمسك بيده وقال له: أحذر الولد الغامض، فسلب جاسر يده من بين كفين نبيل؛ واتجه إلى المظاهرة التي أستمر فيها اليوم بأكمله، وعزف عن حضور المحاضرات.


وغادر جاسر الجامعة عائداً إلى منزله، وجد في انتظاره قوة كبيرة من الأمن، وضحك بسخرية متنمراً شخصية الفنان عادل إمام: أنتم جايين تمسكوا خط الصعيد، لم تمر ثوان من التفوه بهذه العبارة الساخرة، إلا وسقطت الهراوة على رأسه فقد على إثرها الوعي، وفاق إثر سقوط مياه أقرب أنت تكون مثلجة على وجهه، وجد نفسه أمام محقق في مبنى الأمن الوطني، وصديقه نبيل سليمان يقول له: قلت لك أحذر الولد الغامض، فرد جاسر وعلامات الأندهاش علي وجهه: أأنت الولد الغامض..! 

فرد نبيل: نعم أنا الولد الغامض، معذرة يا صديقي أنسيت مقولة هوبز(الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)؟ وددت أنا أؤمن مستقبلي وأضمن وظيفة بعد التخرج..!


فصاح جاسر وكاد أن يتفوه بعبارات تلقنه درساً في الصداقة والشرف ولكن العبارات تناثرت في ذهنه من فجيعة الصدمة، فأخذ يتمتم: يا إلهي ما هذه النهاية الأورويلية، نهاية أصبحت مبتذلة تتكرر كثيراً ف الأفلام والمسلسلات بل تسللت إلي الحياة الواقعية، إذا غادرت محبسي لن أسردها في قصة لأنها فقدت رونقها، صديق يتحول لمخبر على صديقه حتى يقتنص الفرصة في وظيفة بيروقراطية، ولكني مشفق عليه، لا يحَدس أن الحياة فترة قصيرة، ولن يكون لها معنى، إذا خوت من رسالة صادقة ندافع عنها، أنتصر نبيلة بمقولة هوبز(الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، وأنتصرت أنا بمقولة السيد المسيح عليه السلام: ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك