بناء الوطن والبطاطس وجهان لعملة واحدة

353


شهدت مصر مؤخراً أزمة جديدة، تزامنت مع انعقاد منتدى شباب العالم في دورته الثانية بشرم الشيخ، تمثلت في قلة الكميات المتوفرة بالأسواق من البطاطس مما أدى إلى إرتفاع أسعارها من جنيه أو جنيهين إلى  ۱٤  أو ۱٥ جنيه. لم تكن هذه أول أزمة يعاني منها المواطنون، فقد تكررت من قبلها أزمات لسلع أساسية مثل لبن الأطفال والسكر وأنابيب الغاز والدواء. وأتصور انها لن تكون الأخيرة، ليس تشاؤما وإنما استشرافا في محله ونتيجة منطقية متوقعة لأسلوب تعامل الدولة مع الأزمات السابقة التي ظلت الأسباب الحقيقية وراءها مبهمة، والمسؤولية ضائعة بين المؤسسات والحلول أُحادية متخبطة. 


تصدت الدولة لأزمة البطاطس كما اعتادت في مثل هذه الأزمات المتكررة فتم تشكيل لجنة من الزراعة والتموين والرقابة الإدارية للتعامل مع الأزمة والوقوف على أسبابها. وتضاربت كالعادة التصريحات والإتهامات حول أسباب أزمة البطاطس ما بين جشع التجار والممارسات الاحتكارية، وبين نقص المحصول نظرا لصدور تعليمات وزارة الزراعة للمزارعين بتأخير زراعة البطاطس هذا الموسم، إلى شكوى الفلاحين من ارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية. ومثل كل الأزمات السابقة اشتعلت وسائل التواصل الاجتاعي بالغضب والسخرية من تصريحات المسؤولين المتضاربة عن الأزمة، ولم يتأكد للمواطنين السبب الحقيقي ورائها، ولم تتحمل أي جهة بعينها مسؤولية الأزمة. 


وكما هو الحال في الأزمات السابقة أيضاً تصدت المؤسسة العسكرية للحل بتوفير كميات كبيرة من البطاطس بالأسواق، لم يتم الإعلان رسميا عن مصدرها بالرغم من تداول الأخبار عن حصولها عليها من مخزون بعض التجار وإعادة بيعها للمواطنين. وتكررت نفس المشاهد التي نراها في كل أزمة لطوابير المواطنين وتكدسهم وتزاحمهم للحصول على نصيبهم من البطاطس. اشيء الوحيد المختلف هذه المرة كان إضطلاع وزارة الداخلية أيضاً وحزب مستقبل طن بدور في توفير البطاطس وبيعها للجمهور إلى جانب المؤسسة العسكرية. 


وبالرغم من تضارب الأسباب المعلنة للأزمات المتكررة وغياب الشفافية في التصريحات بشأن كل منها، يبقى سبب واحد حقيقي مشترك غير معلن وراء كل أزمة، وهو غياب التخطيط والتنسيق بين مؤسسات وإدارات الدولة المختلفة، وبالقطع غياب التطبيق العلمي لاقتصاديات الأمن الغذائيFood Supply Chain Management  التي تقوم على التنبؤ بإحتياجات السوق بناءا على دراسة متوسط الإستهلاك وكميات المحصول المنزرعة وتوقيت توافرها وتحديد كمية المخزون الإحتياطي، وتحديد الكميات التي يجب إستيرادها إذا كان هناك حاجة لذلك، آخذة في الاعتبار أية ممارسات أو متغيرات أخرى مثل ارتفاع أسعار المنتجات والخدمات الأخرى ذات الصلة بالمنتج وتأثيرها على الإنتاج أو التوزيع. معادلات أساسية معروفة يتم تطبيقها في الدول وحتى في محلات السوبر ماركت لتجنب نقص السلع وتقلب أسعارها، مع توفر خطط بديلة جاهزة  Contingency Planning وخطط لإدارة الأزمات Disaster Recovery Planning لتفعيلها حال حدوث أزمة لظروف طارئة. ومع إن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق المواطن، لكنه هو الوحيد الذي تطالبه الدولة في النهاية بتحمل هذه الأزمات والقبول بها راضياً ومضحياً من أجل بناء الوطن، فيتكرر مع كل أزمة نفس الخطاب الموجه للمواطنين الذي يحثهم على الصبر والتحمل من أجل التنمية والإختيار بين الحصول على إحتياجاتهم الأساسية أو بناء الدولة.


وضع الرئيس هذه المرة نفس الخيار مجددا أمام الشعب من خلال منتدى شباب العالم بشرم الشيخ بسؤاله: "عاوزين تبنوا بلادكم ونبقى بلد ذات قيمة ولا هندور عالبطاطس؟". فكان أمراً صادماً أن يُوضع الشعب في موضع إختيار بين بناء الدولة والبطاطس! لم تكن هذه المرة الأولى التي يُطالب فيها الشعب المصري بالإختيار بين أحد حقوقه الأساسية وبين النهوض بالدولة.  ففي أحاديث سابقة خير الرئيس الشعب ضمنيا بين التعليم والتنمية، وبين الغذاء والنهوض بمصر إلى حد دعوة المواطنين إلى الجوع من أل الوطن. 


يتكرر خطاب وضع التنمية وبناء الوطن في مفاضلة مع أبسط حقوق المواطنين في الغذاء والتعليم والصحة، مع إن الأمرين لا يتعارضان بالمرة، بل على العكس تماما، هما وجهان لعملة واحدة. هما في الحقيقة متوازيان لا يتعارضان ولا يجوز الإختيار أو المفاضلة بينهما، لأن توافر الحقوق والخدمات الأساسية للمواطنين يمثل مظهراً أساسياً للتنمية، وشرطا بديهياً لا يتحقق بناء الدولة بدونه. 

فإذا كان البناء الجاري الذي يصاحبه دعاوى الإستغناء والتضحية يواكبه كل هذه الازمات، فهذه إشارات واضحة على أن هذا البناء يشوبه الكثير من الأخطاء في أساسه ويفتقر إلى التخطيط والإدارة، تكشف كل ازمة من هذه الازمات المتلاحقة ما يعيبه من إنعدام الرؤية وتنظيم الأولويات. أما إذا كان البناء المقصود هنا هو المعنى الحرفي للبناء، بمعنى بناء الطرق والكباري والبنايات الشاهقة والمنتجعات فقط، فالخيار بين حقوق المواطنين والبناء في هذه الحالة يكون في موضعه، لأن البناء بهذا المعنى وهذا المفهوم الضيق في ظل ظروف الوطن المتأزمة الحالية، وبهذه الكيفية التي يتم بها على عجل وبهذا الترف والعشوائية لن يتم إلا على حساب حقوق المواطنين، لأنه يستنزف كل الموارد المتاحة ويجور على حقوقهم الأساسية في الغذاء والصحة والتعليم بل وعلى البناء بمفهومه الحقيقي الذي يقوم على تنمية شاملة مستدامة في كل المجالات. 


إذا كان لابد من الإختيار، كان من الأفضل والممكن أن نختار تحمل طرق بثلاث حارات بدلاً من خمس، والاستغناء عن بناء المنتجعات والمدن الجديدة، وتأجيل تشييد الكباري، ونتحمل بكل الرضا بعض الزحام وضيق الحال على الجميع سواء من أجل بناء المصانع والاستثمار في مشروعات إنتاجية تخلق فرص عمل مستدامة تدر دخلا على المواطن والدولة وتساعد على خروجها من أزماتها المالية والاقتصادية. تلك هي الأشياء التي يمكن التضحية بها أو تأجيلها من أجل البناء الحقيقي، لكن في الوضع الحالي إذا كان لدينا حقاً حرية الاختيار فإننا سنختر حتما البناء مع البطاطس. سنختار أبسط حقوقنا في المأكل والملبس والمسكن والتعليم والرعاية الصحية والعيش بكرامة ونحن نبني الوطن مستمتعين بكل هذه الحقوق، لأن بدون تلك الحقوق الأساسية لا يستقيم أي بناء أو تنمية أو مستقبل. وحتى لا أُفاجأ بالسؤال: "إنت دارسة الكلام ده؟" سأُبادر بالإجابة بإنه بحكم دراستي للبطاطس والعلوم السياسية...أقصد الاقتصاد والعلوم السياسية، ومن مراجعتي للتجارب التنموية الناجحة للدول الأخرى أعلم جيدا أن الأوطان تُبنى ببناء الانسان أولاً، وبتحديد رؤية شاملة وأهداف واضحة معلنة يتبعها التخطيط العلمي الذي ينتج عنه حسن إدارة موارد الدولة وبالتالي توافر السلع والخدمات التي يحتاجها المواطنون، لأن الجوعى لا يبنون أوطاناً والأوطان لا تُبنى من جوع. 



تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك