دعوا قليلي الدين والتحضر لحالهم!

388

بعد إنتهاء اليوم الدراسي في الجامعة أو بصورة أدق وأكثر شفافية نصف اليوم (لأني زوغت من النصف الثاني) شرعت في العودة إلى البيت؛ فركبت وسيلة المواصلات المفضلة بالنسبة ليّ –على الهامش لأنه لايوجد غيرها- (الميكروباص)، فبعدما ركبت جالسني في المقعد الملتصق بمقعدي رجل كان ذا لحية متوسط الطول، وجهه مغمور بالسماحة والود، وتثبت من أعتقاد الوهلة الأولى، عندما هممت في إخراج كتاب (في أوروبا والبلاد المتخلفة) للكاتب البديع بلال فضل، فلم يتوان عن الثناء عليّ، لأنه يرى على حد أعتقاده أن المهتمين بالقراءة قليلون في وقتنا الراهن، ثم وجدته يبحث في هاتفه الخاص عن شيء ما، خاب توقعي المتمثل في اعتقادي أنه يبحث عن رقم يتصل به؛ لأنه قال لي بعد توقفه عن العبث في هاتفه؛ أنه كان يبحث عن كتاب (شخصية المسلم الملتزم)، ولكنه للأسف تم مسحه، ثم استرسل في الحديث بعد أن انبلجت علامات الاستفهام على وجهي، بأنه كان يريد أن يرسله لي، لأن هذا الكتاب دائمًا هو الكتاب المفضل للمسلمين الملتزمين.


فلم أجد نفسي إلا وأنا أقول له ما هو افرق بين المسلم والملتزم؟ الملتزم المفروض في الشريعة الإسلامية يرادف السلم، فقال لي: أقصد الأكثر تمسكًا بالدين، فرددت عليه مرة أخرى مستفهمًا من هم الأكثر تمسكًا بالدين؟ ثم أردفت الحديث قائلًا إني أؤمن بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، في غضون سردي للحديث شفاهية شاركني في سرده، ولكنه بدل كلمة أعمال مكان قلوب وهذا الأمر أثار استيائي؛ فالعمل يذهب سُدى إن لم يكن لوجه الله والقلب طاهر من الرياء، فبعد هذه الإضافة قال لي أنه لا يقصد شيئًا كل ما يقصده أن هناك من يصور المسلم الملتزم دائمًا في صورة المتشدد.


فرددت عليه بامتعاض بأن هذا أمر غير صحيح بالمرة، لأن التدد ليس له علاقه بجوهر أي دين، بل هو فكره خارجية تغذيها النعرة الدينية، فممارسات الكنيسة القمعية في العصور الوسطى لا تمت للتعاليم الروحانية للسيد المسيح عليه السلام سواء من قريب أو من بعيد، وممارسات الحركة الصهيونية الإجرامية التي بزغت من كنف الديانة اليهودية أبعد ما تكون عن جوهر الديانة اليهودية وما إلى ذلك.


فأثناء ما كنت منهمك في تفنيد أعتقاده المتناغم مع المثل الشعبي (اللي على راسه بطحه يحسس عليها) شعرت أن الرجل ضاق بي ذرعًا؛ فكلمة جميل.. جميل.. جميل التي كان يرددها لي أثناء تنيدي لادعائه، شعرت أنها بمثابة لاصق يحاول أن يضعه على فمي حتى أسكت ولا أسرسل في الحديث؛ لذا لذت بالصمت، أما هو فكأنه (حرّم) أن يحاورني من جديد إن لم يكن نادمًا على فتح باب المناقشة مع ثرثار مثلي لا سيما وهو صاحب المبادرة، فلم ينبس ببنت شفة إزائي طول الطريق الذي يستغرق لوصول السيارة إلى وجهتها ساعة إلا ربع كحد أدنى، حتى بعد وصول السيارة إلى الموقف لم يرمِ السلام عليّ أو حتى يقول كلمة مجاملة لرفيق المواصلة.


بادئ ذي بدء؛ بكل أمانة لا أريد أن أربط إطلاق اللحية بالتزمت ومرد ذلك إلى سببين: أولهما أن إطلاق اللحية هي حرية شخصية محضة، وثانيهما أن إطلاق اللحية مر منتشر للغاية بين الكثير من رجال كل دين سواء كان سماوي أو غير سماوي، فلا نبغي أن نحصر الأمر فقط في رجال الدين الإسلامي، فبالتالي اللحية ليست مصدرًا للاشتباه حتى يتم احتجاز الملتحين كما كان يحدث، وما زال –للأسف-  يحدث حاليًا، ناهيك عن انتشار إطلاق اللحية (كموضة) بين القطاعات الشبابية تأسيًا بمشاهير بلاد الغرب.


فبعيدًا عن مظهره الخارجي، إذا استقرأنا كلمات الحوار المقتضب، سنجد أن هناك أناسًا ما زالوا يتعاملون من منطق أنهم أكثر دينًا من الآخرين، والأنكى أنهم ينظرون للآخرين بنظرة دونية، وهنا؛ أنا لا أريد أن أبحث في بواعث الرجل، ولكن كلمة مثل (المسلم الملتزم) وكلمة أخرى مثل (الأكثر تمسكًا بالإسلام) تعضد هذا الادعاء.


سيقول قائل: هم أحرار، وأنا معك هم أحرار يرون أنفسهم كما يشاؤون، ولكن الخطورة تكمن في التداعيات التي ستترتب على ذلك؛ بداية من نظرة التنمر الموجهة إلى كل شخص غير متدين من وجهة نظرهم إن لم يصل الأمر إلى محاولة التحريض ضده، أو تحينهم الفرصة لاتخاذ الدين ذريعة لاقتحام خصوصيات خلق الله، وكأنهم جعلوا من أنفسهم أربابًا، فكل من يتحدث بصورة مفعمة بالحرية بات شخصًا قريبًا من الإلحاد.


فأنا لن أنسى تصادمي مع شخص من الأشخاص الذين على شاكلة الأشخاص المشار إليهم عندما قال على الفتيات غير المحجبات قليلات الأدب، ولن أنسى أيضًا خطيبًا من الخطباء الذي وقف على المنبر في خطبة الجمعة وهو يوجه سيلًا من الشتائم التي في لباس مواعظ للفتيات والأسر التي تخرج هذه الفتيات من كنفها؛ لأنهن يرتدين ثيابًا ضيقة.


فجوهر الدين بالنسبة للأشخاص المشار إليهم آنفًا يتمثل في المظاهر الخارجية فقط لا غير، فبالنسبة للفتاة لايهم أن تكون منافقة وقلبها مخضب بالضغائن إذا كانت محجبة أو منتقبة وترتدي ملابس فضفاضة، أما بالنسبة للذكور فالأهم أن يصلوا ويصوموا ويتحدثوا بصيغة (حضراتكم) ولا يترددوا للحظة عن مهادنة علاقتهم مع الكبار حتى ولو كان الكبار منافقين وأفاقين، ولكن لا يهم أن يكون الذكر مصطنع الاحترام ببعض الكلمات المنمقة، ولا يهم أن يكون هو الآخر منافق أو قلبه مصبوغ بالحقد والغل والجشع، ولا يهم أن يتوق إلى السلطة والمال بصورة مريعة ما دام أنه يصلي ويصوم ويحترم الكبار.


ورغم ما سبق، فأنا لا أزعم أن جميع من ينتمون إلى فريقهم ينتهجون فلسفتهم أو يفكرون مثلهم؛ فإذا قال لي شخص ما  أن الفتيات غير المحجبات أو اللواتي يرتدين ملابس ضيقة قليلات الأدب لأنهن مارسن حقًا ولا سلطان عليهن إلا الله، فهناك صديق ينتمي إلى فريقهم ولكنه قال لي عليهن أنهن لا يزدن أو ينقصن احترامًا عن المحجبات أو المنتقبات فنحن جميعًا نقترف أخطاء ونتجرأ على الديان الذي لا يموت.


وفي مواجهة نفس مستوى التفكير؛ قلب هذا الحوار المواجع عليّ، عندما استرجعت في ذهني دعوات منع النقاب والحجاب –بادعاءات واهية تضيق المساحة هنا لتفنيدها- التي وصلت إلى حد تأليب الرأي العام على المنتقبات والمحجبات من قبل المتشدقين بحقوق الإنسان والحريات الشخصية، فبالرغم من دناءة دعواتهم المجافية للمبادئ المكتوبة على اللافتات التي يرفعونها آناء الليل وأطراف النهار، فهذه الدعوات تفضح ازدواجيتهم المقيتة من ناحية أولى، وتدعم قناعتي التي ترى أن فكرة التطرف في الغالب تكون وليدة الدوغماطيقية المعششه في رؤوسنا من ناحية ثانية.


فيا من ترتأون أنكم أكثر تمسكًا بالدين من غيركم، ويا من ترتأون أنكم أكثر تحضرًا من غيركم دعوا قليلي الدين والتحضر لحالهم.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك