23يوليو .. دروس لم نفهمها

187

  فى كل سنة بنحتفل بذكرى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وكالعادة بيحتد النقاش بين المؤيدين والمعارضين لها، وبين الكارهين والمولعين برمزها الأهم جمال عبد الناصر . وأيا كان المسمى الصحيح لها إن كانت ثورة أو إنقلاب عسكرى، مش ده المهم. وإذا كنا من الناصريين المخلصين أو المنتقدين له مش ده برضه المهم. المهم هو أننا بعد ٦٥ سنة من قيامها نفكر ونفهم. وهو ده الأهم من قراءة ودراسة لتاريخ: أننا نفهم الدروس المستفادة منه وما نكررش اخطائه. وده للأسف اللى إحنا مش قادرين نعمله بعقل وموضوعية حتى بعد مرور كل السنين دى. جايز أن الأمور مختلطة علينا بسبب كم الكذب والتزييف اللى حصل واللى لسه بيحصل فى حقائق تاريخية وأحداث معاصرة كتيرة فى مصر بسبب إعلام موجه بصورة فجة. لكن بالرغم من كل التوجيه والتضليل، مجرد تأمل نتيجة اللى حصل فى ٢٣ يوليو ٥٢ وما بعدها ومقارنته باللى بيحصل دلوقتى كفيل بأننا نفهم. 

        اللى حصل فى ٢٣ يوليو ٥٢ كان بمفهوم  كتب العلوم السياسية 'إنقلاب عسكرى' لأن مجموعة من ظباط الجيش هم اللى قاموا بيها مش جماهير الشعب. كن جاز تسميتها ثورة بعد نجاحها فى خلع الملك من منظور أن أغلبية الشعب - بإتثناء الطبقة الإرستقراطية الثرية - إنحاز لها بسبب المبادئ اللى أعلنتها وقتها، ومن منظور التغيرات الكبيرة اللى أحدثتها فى نظام ومؤسسات الدولة وفى المجتمع فى وقت قصير، وده برضه فى كتب العلوم السياسية من مواصفات 'الثورة'. ولكن زى ما قلنا قبل كده مش مهم المسمى، المهم هو أننا نفتكر الاحداث والنتائج تانى ونقارنها باللى بيحصل دلوقتى ونفهم. 


        لو فكرنا فى ٢٣ يوليو ٥٢ بالعقل وبدون تعصب لأى إنتماءات أو إنحيازات، المبادئ اللى أعلنتها 'الثورة' أو 'الإنقلاب الثورى' أو 'الثورة العسكرية' وقتها لاتختلف عليها الغالبية من البشر أنها عظيمة. مبادئ حفظناا عن ظهر قلب فى المدرسة. 

التخلص من الإستعمار وأعوانه....مين ما يحبش يتخلص من الإستعمار وأعوانه؟! هدف عظيم نجحت 'الثورة العسكرية' فى تحقيقه مش بس فى مصر، لأ دى كانت ملهمة ودافعة ومؤيدة لكل حركات التحرر فى الوطن العربي وأفريقيا، ووراء حركة عدم الإنحياز والتصدى للقوى الإستعمارية.  تبعتها بإنجازات وخطوات جادة للإكتفاء الذاتى فى مجالات كثيرة ونهضة صناعية ومشروع السد العالى العملاق، ومجانية التعليم وهى من أعظم إنجازات الثورة اللى أفرزت الطبقة المتوسطة فى الستينات اللى كانت ممكن تنهض بمصر نهضة كبيرة لو كانت الثورة ما خانتش مبادئها وأنقلبت للنقيض منها. 


      ولأن أهم مبدأ من مبادئ الثورة لم يتحقق، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة، كل إنجازات الثورة دى تحولت إلى النقيض. على العكس تماما من هدف الديمقراطية، أسست 'ثورة يوليو العسكرية' للحكم العسكرى فى مصر وأسست لحكم الفرد الديكتاتور الذى ينكل بمعارضيه ويقهر الحريات العامة وينفرد بقرارات مصيرية متسرعة دون دراسة. خيانة هذا المبدأ بالتحديد كان الأساس لتحول هذه الثورة عن مبادئها العظيمة وتلاشى إنجازاتها والإنتهاء بها إلى نكبة ندفع ثمنها إلى الآن من دمائنا وثرواتنا. ٦٥ سنة وما إعلمناش وما فهمناش لغاية دلوقتى أن الحكم العسكرى، صريحا كان أو متواريا، ليمكن أن تتحقق معه أية ديمقراطية أو حرية أو عدالة إجتماعية أو تنمية حقيقية. لم نفهم الدرس بالرغم من كل المصائب والهزائم والدمار اللى حل بنا من وراء هذا النوع من الحكم. لم نستوعب الدرس من خطيئة التصفيق  لإنفراد جمال عبد الناصر بقرارات متسرعة مثل تأميم قناة السويس فى ٥٦، وغلق الملاحة فى مضيق تيران فى ٦٧، واللى جرتنا لهزايم وحروب ودماء وخسارة أرض بدون داع. وما استوعبناش الدرس القاسي أن حتى كل الإنجازات اللى تمت لم تكن مستدامة أو لم تنجح وكان لمعظمها نتائج عكسية وسلبيات كتيرة، لأن التطبيق كان متسرع وغير مدروس، ولأن الإنفراد بالسلطة خطأ تحت أي ظروف أو مبررات، ولن أى إصلاح أو إنجاز بدون ديمقراطية وشفافية وإمكانية المحاسبة والمراجعة مصيره الفشل. فالإصلاح الزراعي تحول إلى إفساد زراعي قضى على ميزة مصر التنافسية في الزراعة، و نتج عنه فساد العلاقة بين المالك والمستأجر ومشاكل وظلم لا حصر لهما، والعدالة الإجتماعية أتبنت على الظلم وإغتصاب ملك الغير فلم تحقق العدالة فى النهاية لأى من الطبقات، والتنمية وتحقيق الإكتفاء الذاتى لم يدوما لأن الدولة لم تبنى على أساس حكم ديمقراطي ومحاسبة وشفافية، ومشروع السد العالي العظيم نتج عنه ظلم وإجحاف لأهل النوبة وظالم وأوجاع لم تحل للآن، حتى التخلص من الإستعمار البريطاني إستبدلناه بإستعمار صهيوني أشرس وأدل سبيلا  للأراضي المصرية نتيجة للرعونة فى إتخاذ القرار، والحراك السياسي والحياة الحزبية اللى كانت موجودة فى ظل الملكية إستبدلناهم بجمهورية دكتاتورية عسكرية. وبعد  اكتر من ٦٠ سنة راجعين تانى نكرر نفس الاخطاء ولسه بنصفق زى ما صفقنا قبل كده لعبد الناصر بعد ما  ضيع الأرض. ولسه بنسمح لغيره بالإنفراد بقرارات مصيرية بدون دراسة زى حفر تفريعة للقناة لم نكن فى حاجة لها ضيعت مليارات، وقرارات إقتصادية كارثية أفقدت المصريين أكثر من نص قيمة مدخراتهم فى يوم وليلة وأدت إلى موجة غلاء غير مسبوقة ولسه بنصفق. ما اتعلمناش حاجة لاننا بعد أكتر من ٦٠ سنة من كذب الإعلام الموجه اللى صدر لنا كذبة الإنتصار فى ٦٧ وإحنا مهزومين، وصدر لنا تزييف وكذب تانى كتير عن إنجازات وهمية ما يكفيش الكلام لسرده هنا، ولسه برضه الغالبية بتصدق أكاذيب إعلام السلطة. ما اتعلمناش إن حتى لو كانت الاهداف نبيلة والنية صادقة للإصلاح والتنمية، حكم الفرد الواحد وغياب الشفافية وقمع المعارضة السياسية وقهر الحريات اللى هو من السمات الأساسية لأى حكم عسكرى كفيل بإفساد أى شئ. لم نستوعب الدرس بدليل إننا بنكرر نفس الغلط بعد ثورة شعبية عظيمة أبهرت العالم فى ٢٥ يناير ٢٠١١ ورفت مبادئ العيش والحرية والعدالة الإجتماعية والدولة المدنية الديمقراطية، ولسه بعدها ب٦ سنين بنكرر نفس أخطاء  ال٦٥ سنة اللى فاتوا ولسه بنتناقش فى إن عبد الناصر واللى بعده كويس ولا وحش، وبنرفع صورته فى ميدان التحرير، ولسه بنتكلم فى الاشخاص مش المبادئ، ولسه بنقايض على الحريات والديمقراطية مقابل الأمن والإستقرار والإنجازات، ولسه بندى للزعيم الأوحد شيك على بياض وتفويض يعمل فينا ما بداله! 



        لسه بنقول إن البلد محاجة رئيس عسكرى بعد كل اللى شفناه من الحكم العسكرى، ومن استحواذ الجيش على السلطة بعد ٥٢، ومن إنتهازية وسذاجة الإخوان وهو السيناريو اللى إتكرر بحذافيره بعد ثورة ٢٠١١، وللمفارقة بدأ برضه الإلتفاف على الثورة وخيانة الإخوان فى شهر مارس! ما إتعلمناش الدرس اللى واحد منهم قاله لنا بصراحة وعلى بلاطة:


"مشاعرى معهم...مع الإخوان...رغم أنهم تخلوا عنى وعن الديمقراطية ورفضوا أن يقفوا فى وجه عبد الناصر إبان أزمة مارس، بل وقفوا معه وساندوه، بعد أن اعتقدوا خطأ انهم سيصبحون حزب الثورة، وانهم سيضحكون على عبد الناصر ويطوونه تحتهم. فإذا بعبد الناصر يستغلهم فى ضربي وفى ضرب الديمقراطية وفى تحقيق شعبية له بعد حادث المنشية. إن الإخوان لم يدركوا حقيقة أولية هي: إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتما سيطيح بكل القوى السياسية والمدنية، ليصبح هو القوة الوحيدة فى البلد، وانه لا يفرق فى هذه الحالة بين وفدي وسعدي ولا بين إخواني وشيوعي، وأن كل قوة سياسية عليها أن تلعب دورها مع القيادة العسكرية ثم يقضي عليها. لكن لا الإخوان عرفوا هذا الدرس ولا غيرهم استوعبه ودفع الجميع الثمن


محمد نجيب من كتاب "كنت رئيسا لمصر"، يصف الوضع سنة ٥٤.


ما أشبه اليوم بالبارحة...ولكننا لا نتعلم أبد

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك