close

برلمان يبحث عن جمهوره.. لا أحد يعرف موعد الانتخابات

انتخابات البرلمان المصري 2025، من غياب الثقة في البرلمان ونزاهة التصويت، إلى المال السياسي والضغوط الأمنية، وسط مشاركة محدودة متوقعة ومخاوف من غياب الإشراف القضائي.
Picture of زاوية ثالثة

زاوية ثالثة

أمام كشك صغير في حي الدقي بالجيزة، جلس محمد السعدي، الرجل الستيني، يتأمل حركة الشارع المقابل لمدرسة اعتاد رؤية الطوابير أمامها في أيام الانتخابات. حين سُئل عن البرلمان المقبل، هزّ رأسه وقال: “لا أعرف النواب السابقين، ولا أشعر أنهم يمثلوننا… لن أشارك.”

حالة السعدي ليست فردية. أرقام رسمية واستطلاعات رأي تشير إلى تراجع ملحوظ في نسب المشاركة، وسط أزمة ثقة متصاعدة بين المواطنين ومؤسسات التمثيل السياسي في مصر.

أرقام رسمية تزعم أن انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة أغسطس الماضي لم تتجاوز نسبة المشاركة 17.1% من إجمالي الناخبين المسجلين، أي نحو 11.8 مليون ناخب من أصل أكثر من 69 مليونًا ورغم إعلان أن نسبة الأصوات الصحيحة بلغت 95.6% من نسب التصويت، يرى مراقبون وسياسيون تحدثوا معنا أن الأرقام الرسمية مبالغ فيها، وأن المشاركة الفعلية لم تتجاوز 4% فقط، رغم انتشار المال السياسي وحشد أعداد من الطلاب والموظفين للمشاركة في التصويت عنوة.

وتشير أبحاث حديثة إلى أنّ عزوف المصريين، خصوصًا الشباب، عن صناديق الاقتراع يأتي نتاج تراكم عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، أبرزها الشعور بالتهميش، وغياب قنوات مؤثرة تُمكّن الشباب من المشاركة، يقترن ذلك بواقع اقتصادي ضاغط يجعل الهمّ المعيشي يتصدر أولويات المواطنين على حساب الشأن السياسي، كما يضاعف ضعف الأحزاب وقلة ثقة المواطنين في المؤسسات من فقدان الحافز على المشاركة، بينما يرى محللون أن مؤسسات ناشئة مثل مجلس الشيوخ لم تتمكن حتى الآن من إقناع الجمهور بجدوى وجودها أو بفاعلية المشاركة في انتخاباتها.

في هذا السياق، أجرَت زاوية ثالثة استبيانًا ميدانيًا شمل 200 مواطن ومواطنة من مختلف محافظات مصر، بهدف استكشاف اتجاهاتهم حيال انتخابات مجلس النواب المقبلة. وجاءت النتائج، التي تمثل شرائح ديموغرافية متنوعة، لتعكس مزيجًا من الرفض الواسع للمشاركة، وتراكم مشاعر الإحباط، إلى جانب حالات مشاركة تتم تحت ضغوط أو اعتبارات خارجية.

 

70 مليون للمقعد: من يشتري طريقه إلى برلمان مصر؟

من سيشارك في الانتخابات؟

توضح بيانات الاستبيان أن الفئة العمرية ما بين (35- 44) عامًا جاءت في الصدارة بنسبة 37.7%، تليها الفئة (25-34) عامًا بنسبة 26.1%، فيما لم يمثل الشباب تحت 25 عامًا سوى 9.5%. الغلبة كذلك كانت للذكور بنسبة 56.1%، لكن مشاركة النساء قاربت 44%،  وعلى المستوى التعليمي، بدا لافتًا أن نحو 78% من المشاركين حاصلون على تعليم جامعي أو دراسات عليا، بينما اقتصرت نسبة الحاصلين على تعليم ثانوي أو أقل على 22%.

ومهنيًا، فقد سيطر العاملون في الأعمال الحرة (34.7%) وموظفو القطاع الخاص (26.5%)، مع نسبة لا يُستهان بها من العاطلين (16.8%)، وتعكس هذه الأرقام تنوعًا يعزز مصداقية النتائج، لكنها في الوقت نفسه تكشف غياب الشرائح الريفية والأقل تعليمًا، ربما لصعوبة وصول الاستبيان إليها، أو عدم اعتماد هذه الفئات على استخدام الإنترنت بشكل واسع، وهي فئات غالبًا ما تُظهر مستويات أعلى من العزوف السياسي.

حين سُئل المشاركون عن نواياهم تجاه الانتخابات المقبلة، أكد 64.8% أنهم لن يشاركوا، مقابل 15.6% فقط أعلنوا نيتهم التصويت، فيما ظل 19.6% مترددين. وبذلك فإن ما يقارب ثلثي المستجيبين عبّروا عن رفض صريح للمشاركة، ومع احتساب المترددين قد تصل نسبة العزوف المحتملة إلى 84.4%. كما كشفت النتائج أن 18.2% من المشاركين سبق أن تعرضوا لضغوط أو إكراه للتصويت، تنوعت بين التهديد بالغرامات المالية (200–600 جنيه)، والضغوط الأمنية، وتقديم الرشاوى الانتخابية، إضافة إلى الحشد القسري للطلبة والموظفين.

وتعقيبًا يوضح طلعت خليل، -المنسق العام للحركة المدنية وعضو المجلس الرئاسي لحزب المحافظين-، في حديث إلى زاوية ثالثة أن الشارع المصري يعيش حالة غضب شديد من أداء البرلمان السابق، نتيجة لطبيعة تكوينه عبر نظام القائمة المطلقة المغلقة، الذي يفتح الباب أمام تعيينات قائمة على دفع الأموال، ويأتي بمرشحين بعيدين عن العمل السياسي وعن الشارع. مؤكدًا أن هذه الطريقة جعلت المواطنين لا يكتفون بالعزوف عن المشاركة في الانتخابات، بل يشعرون أيضًا بالاستياء من مجمل العملية، كما ظهر في ضعف الإقبال على انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة.

ويلفت خليل إلى أن الحوار الوطني شدّد على ضرورة تغيير النظام الانتخابي، غير أن الدولة لم تأخذ بالنظام النسبي أو بالنظام الفردي بما يرضي الناخبين، لكن الناخبين غير راضين لا عن تكوين البرلمان ولا عن أدائه، إذ جاءت معظم القوانين الحكومية المقدمة خلال الدورة الماضية على حساب المواطن، وكان آخرها قانون الإيجار القديم”، مشيرًا إلى أن الناس في حالة سخط شديد على البرلمان، ومع ذلك فإن الطريق السلمي يبقى هو الخيار الوحيد للتغيير، ولهذا قررت الحركة المدنية والتيار الحر وزملاؤهم في جبهة العدالة الاجتماعية خوض الانتخابات عبر النظام الفردي.

في السياق ذاته يصف أكثر من نصف المستجيبين مع الاستبيان الذي أجريناه 51.8% أداء البرلمان الماضي (2020-2025) بأنه “ضعيف جدًا”، فيما يرى 25% أنه “ضعيف” أي أن ثلاثة من كل أربعة مواطنين يرون البرلمان مؤسسة عاجزة عن تمثيلهم أو حل مشكلاتهم. المفارقة أيضًا تتمثل في أن هذه الأزمة ليست جديدة؛ فـ71.9% من العينة أكدوا أنهم لم يشاركوا في الانتخابات السابقة، مقابل 28.1% فقط شاركوا. ما يكشف أن العزوف أصبح نمطًا راسخًا لا يرتبط بانتخابات بعينها، بل يعكس أزمة تمثيل ممتدة.

يتفق مع خليل -الباحث الاقتصادي ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي-، إلهامي الميرغني الذي يؤكد في حديثه معنا أن القوائم المطلقة وسيطرة الأجهزة الأمنية على القوائم والعملية الانتخابية أعطت المواطنين شعورًا بأن الانتخابات تمثيلية وليست حقيقية، وأن أي تصويت قد يُزوَّر، ما يجعل العزوف عن المشاركة خيارًا أفضل لتجنب التعسف الأمني والتدخل الحكومي. لافتًا إلى أن المشكلة الأكبر تكمن في فقدان الأمل في تحقيق التغيير الديمقراطي السلمي عبر صناديق الاقتراع، ما يدفع الملايين للبحث عن بدائل خارج الإطار القانوني، وهو الخطر الحقيقي الذي يواجه المجتمع.

ويقول الميرغني: ” مع تتبّع نتائج الانتخابات منذ عام 2012 وحتى اليوم، يبرز تراجع ملحوظ في نسب التصويت، ما يدفع إلى توقع أن تشهد انتخابات 2025 مستويات مشاركة متدنية شبيهة ببرلمان 2010، حين فقد المواطنون ثقتهم في إمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع، وهو ما يمثل خطرًا على مستقبل الإصلاح السياسي في مصر، مشددًا على أن الأزمة لا تقتصر على العملية الانتخابية فحسب، بل تمتد إلى تضييق الخناق على الأحزاب، واحتكار الإعلام والسيطرة عليه، الأمر الذي يعمّق فقدان الملايين للثقة بجدوى المسار الديمقراطي.

ويشير الميرغني كذلك إلى معضلة أخرى تتمثل في تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل غير عادل، حيث تعاني المدن الريفية من تكدس انتخابي في مقابل تفاوت واضح بين حجم الدوائر وعدد سكانها. ففي الوقت الذي تُخصص فيه بعض الدوائر نائباً واحداً فقط، تمثل دوائر أخرى بأربعة نواب، وهو ما يعكس اختلالاً واضحاً في العدالة التمثيلية. لافتًا إلى أن رفع رسوم الترشح إلى 40 ألف جنيه، وهو ما حوّل مجلس النواب من كونه مجلساً للشعب إلى ما يشبه مجلساً للأعيان، مقيداً بذلك فرص المشاركة أمام الفئات الاقتصادية الضعيفة ومحدودي الدخل.

ومن جهتها ترى تيسير فهمي، -رئيسة حزب التنمية والمساواة-، أن انتخابات مجلس الشيوخ الماضية لم تشهد أي مشاركة تُذكر تقريبًا، حيث كانت نسبة الإقبال ضعيفة للغاية، مشيرة إلى أن الانتخابات البرلمانية لم تعد قضية مرتبطة بالأحزاب بقدر ما أصبحت مرتبطة بالقدرة على الإنفاق والدعاية، والحصول على دعم عائلي أو قبلي في القرى والبلدات.

تقول تيسير في حديث إلى زاوية ثالثة: “المال أصبح يلعب دورًا محوريًا في العملية الانتخابية، ومن يمتلك القدرة المالية الأكبر هو الأوفر حظًا للفوز، مما يعني أن البرلمان لم يعد في غالبيته معبرًا عن رجل الشارع العادي. كثيرًا من المرشحين ليست لهم علاقة بالسياسة من الأساس، بل يسعون فقط للحصول على “واجهة برلمانية”، نحن نسمع عن أسماء لم يكن لها أي مواقف سياسية من قبل”.

 وتشير إلى أن بعض الأعضاء في مجلس الشيوخ الحالي لا صلة لهم بالعمل السياسي، ضاربة المثل بصاحب مطعم أصبح عضوًا في المجلس، وتساءلت: “ما علاقته بالتشريع؟ هل سيوزع وجبات مجانية على الناس؟”.

وتضيف: “هؤلاء استطاعوا بحكم قدراتهم المالية أن ينفقوا على الدعاية ويحشدوا الناخبين بطرق غير مفهومة، قائلة: “الظواهر تشير إلى شيء، لكن الواقع يفترض أن يكون شيئًا آخر، لكن عندما نجد شخصًا بعيدًا تمامًا عن السياسة يصبح نائبًا، فهذا أمر غير مفهوم”.

وحول مدى اهتمام الشارع بالانتخابات، علّقت فهمي أن الغالبية ليست على علم بموعد الانتخابات ولا تثق في العملية الانتخابية أو في النواب، مؤكدة أن المشكلة ليست فقط في عزوف الناس عن السياسة بقدر ما هي في انعدام الثقة في العملية الانتخابية، موضحة أن السياسة تدخل في تفاصيل الحياة اليومية للمواطن: من لقمة العيش، إلى أسعار الوقود، إلى كل ما يعيشه المواطن منذ لحظة استيقاظه. وختمت بالقول إن المواطنين يرددون: “من سينجح هو من سينجح بماله”، مشيرة إلى أن الاستثناءات قليلة جدًا ولا تؤثر في المشهد العام، مضيفة: “اعتبريني واحدة من الجمهور، وهذا هو رأيي في الانتخابات”.

البرلمان المقبل… توزيع مسبق للمقاعد؟

لماذا يعزف المواطنون عن المشاركة؟

من بين 154 مواطنًا رفضوا أو ترددوا، تصدرت “عدم الثقة في العملية الانتخابية” أسباب عزوف المواطنين عن المشاركة في الانتخابات التشريعية بنسبة 61%، تليها “غياب المرشح المناسب” بـ30.5%، ثم “عدم الاهتمام بالسياسة” بـ23.4%. أما الانشغال أو ضيق الوقت، فجاء أقل بكثير (7.8%).

من جهته، لا يعتقد زهدي الشامي، -عضو المكتب السياسي لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي ورئيس مجلس أمناء الحزب-، أن هناك أي أساس يمكن من خلاله توقع حدوث مشاركة مرتفعة في انتخابات مجلس النواب القادمة، مرجعًا ذلك إلى القيود المفروضة على النشاط السياسي، والتي أدت إلى تراجع ملحوظ في نسب المشاركة مقارنة بالفترة التي أعقبت ثورة يناير، مشيرًا إلى أنه وبالمقارنة مع انتخابات مجلس الشيوخ، قد تشهد انتخابات النواب نسبة مشاركة أعلى قليلًا، لكن يظل الفارق محدودًا.

 يقول الشامي في حديث إلى زاوية ثالثة إن “المعتاد أن تكون مشاركة المواطنين في انتخابات الشيوخ أقل لأسباب واضحة، أولها أن المجلس ذاته بلا صلاحيات حقيقية، وثانيًا أن المساحة المتاحة للتنافس الانتخابي فيه ضيقة للغاية، إذ يُعيَّن ثلث الأعضاء، فيما يُنتخب الثلث الثاني عبر القوائم المطلقة المغلقة الإقصائية، التي تضم كل منها محافظة كاملة، وعمليًا لم تكن هناك سوى قائمة واحدة تابعة للسلطة، ما يعني غياب التنافس الحقيقي. أما الدوائر الفردية فقد كانت أيضًا واسعة جدًا، حيث شملت المحافظة بأكملها بعدد من المقاعد، ما جعلها فردية في الشكل فقط دون المضمون”.

ويضيف الشامي أن المشاركة في انتخابات النواب قد تكون أعلى قليلًا من الشيوخ، إلا أنها لن تصل إلى نسبة معقولة تعكس انخراط الشعب في عملية سياسية ديمقراطية ذات مصداقية، لأن الانتخابات ستجري في ذات المناخ غير الصحي، وبنفس التشوهات التي تدفع الغالبية إلى العزوف وعدم الثقة. وأوضح أن نصف مقاعد النواب مخصص للقوائم المطلقة المغلقة، ما يجعل المنافسة على هذا النصف شكلية بالكامل.

أما الدوائر الفردية فقد جرى تقسيمها بشكل غير متكافئ، لا يراعي المبادئ الدستورية ولا أحكام العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، فجاءت دوائر غير متساوية، بعضها موسع للغاية ويضم مقاعد متعددة تصل أحيانًا إلى أربعة، وهو ما يضر بالعملية السياسية ويجعلها مشوهة.

 وهنا يشدد الشامي على أن المواطنين يحملون شكوكًا مشروعة حول نزاهة العملية الانتخابية، بسبب تدخل أجهزة الدولة لصالح أحزابها ومرشحيها، إلى جانب الثغرات الكثيرة في القوانين والإجراءات المنظمة للعملية الانتخابية، فضلًا عن ظاهرة المال السياسي وشراء الأصوات.

ويختتم حديثه معنا بأن أداء البرلمان الحالي لا يرضي أحدًا، إذ تحوّل إلى مجرد “ذيل تشريعي للحكومة”، لا يمارس دوره في الرقابة، ولا يرفض أي تشريع حتى وإن كان ضد مصالح الشعب، مؤكدًا أن معظم القوانين التي أُقرت خلال فترته مثلت انتقاصًا من حقوق المواطنين، وأعباءً مالية وجبايات جديدة أثقلت كاهلهم، بل وصلت إلى حد تهديد وتشريد ملايين الأسر من منازلها.

كذلك جاءت الأرقام المتعلقة بالثقة في نزاهة الانتخابات في الاستبيان صادمة، إذ يراها 64.5% “منخفضة” أو “منخفضة جدًا”، في مقابل 14.5% فقط لديهم ثقة “عالية” أو “عالية جدًا”، بينما وقف 20.5% عند “المتوسطة”.

في السياق، تعلق إلهام عيداروس، -وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية-، في حديث إلى زاوية ثالثة، على ضعف المشاركة في انتخابات مجلس الشيوخ، معتبرة أن ذلك يعود بالأساس إلى غياب المنافسة الحقيقية، إذ يشعر المواطنون أن أصواتهم لن تُحدث فارقًا سواء في القوائم أو المقاعد الفردية. وتضيف أن انتخابات مجلس النواب عادة ما تشهد اهتمامًا أكبر نتيجة لتعدد المرشحين ووجود مساحة أوسع من المنافسة.

وتوضح إلهام أن الناخب المصري يتساءل: “لماذا أذهب إلى الصندوق إذا كان جميع المرشحين يعبرون عن التوجه نفسه ويدعمون السياسات الحكومية بشكل مطلق؟”، مؤكدة أنه في حال طُرحت قوائم ومرشحون بخطاب سياسي مختلف يُبدي اعتراضًا على السياسات القائمة، لكان من الممكن أن يتفاعل المواطنون بشكل أوسع مع العملية الانتخابية. أما في ظل الوضع الراهن ـ على حد قولها ـ فإن الحضور يقتصر غالبًا على من يتم حشدهم بالمال أو عبر المساعدات المباشرة.

استحقاق بلا أثر: انتخابات الشيوخ تقترب وسط صمت عام

ماذا عن البرلمان المقبل؟

بسؤال المواطنين عن موعد الانتخابات المقبلة، أجاب نحو 60% بـ”لا أعرف” أو “غير مهتم”، فيما قدم 40% فقط إجابات محددة، أغلبها حول نوفمبر 2025. المفاجأة أن بعض الإجابات جاءت ساخرة أو غير دقيقة، ما يعكس حالة من الاستهزاء أو الانفصال عن العملية السياسية. هذا الغياب في الوعي، حتى بتاريخ استحقاق دستوري، يكشف ضعفًا في جهود التوعية الرسمية والإعلامية، ويشير إلى أن المشاركة، إن حدثت، ستأتي غالبًا بدافع الضغوط لا الوعي.

وتستعد مصر لإجراء انتخابات مجلس النواب في نوفمبر المقبل، وهي الاستحقاق الدستوري الأهم لتشكيل المجلس النيابي لفترة جديدة تمتد خمس سنوات. تنص المادة 106 من الدستور المصري على ضرورة إجراء الانتخابات قبل انتهاء مدة المجلس الحالي بستين يوماً على الأقل، مما يجعل نوفمبر 2025 الموعد النهائي لإجرائها. فيما تشهد الساحة السياسية حاليًا حالة من الترقب الشديد والتحضيرات المكثفة من قبل جميع الأطراف، حيث تم تحديد مواعيد تقديم طلبات الترشح في أكتوبر المقبل يليها فترة الدعاية والاقتراع. ومن جانبها تؤكد الهيئة الوطنية للانتخابات على تنظيم العملية الانتخابية بدقة وفقاً للقانون والدستور.

ويبلغ عدد نواب الشيوخ وفقا للنظام الحالي 300 عضو، تم انتخاب ثلثيهم بالاقتراع العام السرى المباشر، نصفهم بالقائمة المغلقة و النصف الآخر  بالنظام الفردي، وعين رئيس الجمهورية الثلث الباقي، أما مجلس النواب فعدد مقاعده 596 مقعدا، تم انتخابهم وفقا لتقسيم الدوائر لـ 4 دوائر بنظام القائمة المغلقة المطلقة و143 دائرة بالنظام الفردي، وعدد المقاعد المخصصة لنوابه 448 مقعدًا، بجانب 120 مقعدًا للقوائم و28 مقعدًا يتم تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية.

بدأت العديد من الأحزاب التحضيرات مبكرًا، بتحديد قوائم مرشحيها وفحصهم، بالإضافة إلى تطوير برامجها الانتخابية ، تعمل الأحزاب في ضوء ذلك  على تعزيز تواصلها مع الشباب والنساء كشرائح أساسية في التصويت، إلى جانب تجهيز فرق للدعاية والاتصال الجماهيري، وبينما تنشط أحزاب الموالاة في الاستعداد للانتخابات بنهج تحالفات سياسية لتحقيق أكبر تغطية جغرافية وانتخابية، من خلال القائمة المغلقة المطلقة، تبقى الأحزاب المستقلة والمرشحون الفرديون يسعون لتعزيز حضورهم من خلال الحملات على الأرض ووسائل التواصل الاجتماعي.

تُعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في مصر، أول استحقاق تشريعي لا يخضع للإشراف القضائي الكامل منذ عقود، وذلك بسبب انتهاء المهلة الدستورية التي نصت على إلزامية الإشراف القضائي على الانتخابات لمدة عشر سنوات فقط من تاريخ العمل بدستور 2014. وبموجب المادة 210 من الدستور، كان يُشترط أن يُشرف أحد أعضاء الهيئات القضائية على كل صندوق انتخابي، ضمانًا لنزاهة العملية، إلا أن هذه المادة وضعت سقفًا زمنيًا لهذا الإشراف ينتهي في عام 2024، ما يعني أن أي انتخابات تُجرى بعد هذا التاريخ لن تكون خاضعة لهذا النوع من الرقابة القضائية المباشرة.

غياب الإشراف القضائي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والقانونية، إذ عبّرت بعض الأحزاب وقوى المجتمع المدني عن مخاوفها من تأثير ذلك على شفافية ونزاهة الانتخابات، في ظل ضعف ثقة بعض المواطنين في قدرة الأجهزة الإدارية وحدها على إدارة العملية الانتخابية دون انحياز أو تدخل. 

في المقابل، ترى أطراف أخرى أن هناك ضرورة لوضع بدائل فعالة، مثل تعزيز دور الهيئة الوطنية للانتخابات وتوسيع صلاحيات المراقبة المجتمعية والدولية، لضمان استمرار النزاهة.

 ويعكس هذا التحول تحديًا مؤسسيًا حقيقيًا أمام الدولة المصرية، يتطلب معالجة تشريعية عاجلة أو تعديلًا دستوريًا إذا تقرر الإبقاء على الإشراف القضائي مستقبلاً.

وعن توقعاته للبرلمان المقبل، يقول طلعت خليل إنه من المرجح أن يكون سيئًا مثل سابقه، إذ ستؤدي القائمة المطلقة المغلقة إلى إدخال نواب مرضي عنهم من قبل الأجهزة، وهو ما يكرس وضعًا صعبًا. لكنه أكد أن المعارضة ستخوض الانتخابات في دوائر عديدة على المقاعد الفردية، مراهنة على وعي رجل الشارع ونزوله لاختيار ممثلي المعارضة. 

وأوضح أن أحزاب الموالاة تتصارع فيما بينها على تقسيم المقاعد البرلمانية كغنيمة، لا بدافع خدمة المواطنين أو الوطن.

وشدد على أن المعارضة تأمل عبر المشاركة في الانتخابات أن تستعيد ثقة الشارع وتحاول التغيير من الداخل. لكنه لفت في الوقت ذاته إلى أن استطلاعات الرأي تكشف عزوف المواطنين، إذ إن الغالبية لا يعرفون موعد الانتخابات البرلمانية أو لا يهتمون به، نتيجة لفقدان الثقة في البرلمان كمؤسسة تشريعية.

ويحذر من خطورة استمرار هذا الوضع، لأنه يعمّق القطيعة بين الناخبين والمؤسسات المنتخبة، مشيرًا إلى أن فقدان الثقة يعني أن المواطن لن يهتم بالنزول أو المشاركة، تاركًا الساحة لمن يتم حشدهم بالترهيب أو بالمقابل المادي، متوقعًا حدوث ذلك السيناريو ما لم يحدث تدخل حقيقي.

وفيما يتعلق بنسبة المشاركة، نفى خليل الأرقام الرسمية التي أشارت إلى 17% في انتخابات الشيوخ، مؤكدًا أنها لم تتجاوز 3 إلى 4% في الواقع، معتبرًا أن ما أُعلن لا يعكس الحقيقة. مؤكدًا على أن الحركة المدنية لا تملك خيارًا سوى محاولة التغيير السلمي عبر المشاركة السياسية، على أمل أن تتمكن من استعادة رضا الشارع المصري تدريجيًا.

في أغسطس 2023، طرح “الحوار الوطني” الذي يضم نخبة من الشخصيات العامة وممثلي الأحزاب السياسية، ملف تعديل النظام الانتخابي للنقاش، إلا أن غياب التوافق بين القوى السياسية حال دون التوصل إلى صيغة بديلة تحظى بالإجماع. 

وفي ضوء ذلك، رفع مجلس أمناء الحوار توصيات إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي تتضمن ثلاثة مقترحات للنظام الانتخابي. شملت: الإبقاء على النظام الحالي، أو التحول إلى نظام القائمة النسبية بنسبة 100% في 15 دائرة انتخابية، بشرط ألا يقل عدد المقاعد في كل دائرة عن 40 مقعدًا، أما المقترح الثالث فدعا إلى تبني نظام مختلط يجمع بين القائمة المغلقة المطلقة، والقائمة النسبية، والنظام الفردي بنسب مختلفة، بالرغم من ذلك ستجري الانتخابات المقبلة على نظام القوائم المطلقة والمقاعد الفردية، وهو ما اعتبرته قوى معارضة آلية إقصائية تحد من فرصها في التمثيل الفعلي. ومع ذلك، اختارت الحركة المدنية الديمقراطية هذه المرة خوض السباق الانتخابي دون أن يعلن أي من أحزابها المقاطعة، في تحول لافت عن مواقف سابقة اتسمت بالانسحاب والاعتراض.

قراءة في نسب المشاركة: بين القمة والقاع

تكشف نسب المشاركة في الانتخابات البرلمانية المصرية عن مفارقات لافتة عبر العقود؛ فبينما بلغت ذروتها في انتخابات (2011-2012) بنسبة 54%، وهي الأولى بعد ثورة يناير وفي مناخ انفتاح سياسي نسبي، تراجعت بشكل حاد في انتخابات تالية مثل 2015 (28%) و2020 (29%)، أما انتخابات مجلس الشيوخ في 2020 و2025 فقد سجلت أدنى المستويات، عند حدود 17% فقط.

تاريخ الحياة البرلمانية المصرية بدأ بمحاولات محدودة في القرن التاسع عشر مع إنشاء مجالس استشارية مثل مجلس النواب الاستشاري عام 1866. ومع دستور 1923 دخلت مصر مرحلة أكثر ليبرالية بتأسيس برلمان ثنائي (مجلس النواب ومجلس الشيوخ).

 خلال العهد الملكي عُقدت عشر انتخابات عامة لمجلس النواب، تميزت بسيطرة حزب الوفد في كثير من الدورات، وإن كانت مهددة دومًا بالتدخلات الملكية والبريطانية وحل البرلمان أكثر من مرة، وتعد هذه المرحلة، وفق القراءات التاريخية الأكثر انفتاحًا مقارنة بما تلاها، رغم محدودية القاعدة الانتخابية واقتصارها على فئات اجتماعية معينة.

بعد ثورة 1952، ألغيت التجربة البرلمانية الملكية وحل محلها نظام الحزب الواحد، ففي انتخابات 1964 فاز الاتحاد الاشتراكي العربي بجميع المقاعد تقريبًا في برلمان يضم 350 نائبًا، نصفهم من العمال والفلاحين. ورغم الحديث عن نسب مشاركة مرتفعة (80% وفق تقديرات رسمية غير دقيقة)، فإن غياب التعددية جعل البرلمان مجرد أداة تعبئة سياسية. لاحقًا، مع عهد السادات ثم مبارك، عادت التعددية الشكلية لكن الحزب الوطني الديمقراطي هيمن على البرلمان من 1976 حتى 2010، وسط اتهامات مستمرة بالتزوير، وانخفاض تدريجي في نسب الإقبال حتى وصلت إلى 27% في انتخابات 2010 التي اعتُبرت الأكثر فقدانًا للمصداقية.

جاءت ثورة يناير لتفتح الباب لأول انتخابات حرة نسبيًا في 2011–2012، حيث حقق الإخوان المسلمون فوزًا كبيرًا بنسبة مشاركة 54%. لكن البرلمان لم يدم طويلًا وحُل بقرار قضائي. مع دستور 2014 عاد البرلمان في صيغة أحادية، لكنه افتقد الحيوية السياسية، في انتخابات 2015 و2020، هيمن حزب مستقبل وطن الموالي للسلطة على أغلبية المقاعد، بينما بقيت نسب المشاركة منخفضة. أما مجلس الشيوخ الذي أُعيد إنشاؤه في 2019 فلم يتمكن من جذب الناخبين، إذ سجلت انتخاباته أدنى نسب المشاركة، ما يعكس أزمة متواصلة في ثقة المصريين بالعملية الانتخابية.

ختامًا.. تكشف قراءة المشهد الانتخابي في مصر عن مفارقة متكررة بين الاستحقاق الدستوري من جهة، وضعف ثقة الشارع في جدوى المشاركة من جهة أخرى. 

وبينما تنشط الأحزاب وتستعد القوى السياسية لمعركة نوفمبر المقبل، تبقى غالبية المواطنين إما غير مبالية أو متشككة في نزاهة العملية برمتها، مستندة إلى تجارب سابقة عززت شعور الإقصاء وغياب التمثيل الحقيقي، فيما تبدو الانتخابات المقبلة امتدادًا لأزمة أعمق في علاقة المواطن بالمؤسسات المنتخبة، أزمة تتجاوز صناديق الاقتراع إلى سؤال الثقة في النظام السياسي برمته، وهو ما يجعل مستقبل الحياة البرلمانية مرهونًا بقدرة الدولة والقوى السياسية معًا على استعادة ثقة الشارع وتبديد شعوره بالخذلان.

Search