عندما سقطت أميرة، ذات الاثني عشر عامًا، من الدور الأول، وبدأت تصارع الموت، لم تفكر أسرتها في طلب سيارة الإسعاف. حملها جارهم بسرعة، واستقل أقرب “توكتوك” في محاولة لإنقاذ حياتها. لكنّ هذا لم يكن الحال قبل سنوات، حين كانت سيارة الإسعاف المصرية تُعد الخيار الأقرب والأكثر موثوقية لإنقاذ المرضى، خصوصًا في الحالات الحرجة.
تقول والدتها، أسماء يوسف (42 عامًا) من محافظة سوهاج، في حديثها إلى “زاوية ثالثة”: “في السابق، كانت سيارة الإسعاف ملاذًا آمنًا، وطوق نجاة في الأزمات، لكن الأمور تغيّرت. اليوم، لا نجرؤ على انتظارها، لأنها قد لا تصل في الوقت المناسب، أو قد تأتي دون تجهيزات تُذكر”.
وتضيف: “في حالة أميرة، كان أقرب مستشفى يبعد عشر دقائق فقط، ومع ذلك لم نعتبر الإسعاف خيارًا مطروحًا، بسبب تجارب سابقة تأخرت فيها الاستجابة أكثر من ساعة ونصف. الناس اليوم يتصرفون وفق قاعدة: ‘أنقذ نفسك بنفسك’، لأن الاعتماد على الإسعاف قد يعني الحكم على المريض بالموت البطيء”.
على مدار السنوات الماضية، تُعاني هيئة الإسعاف المصرية من مشكلات هيكلية ومادية مزمنة. ويتفق عدد من السائقين والمسعفين والموظفين الذين تحدثوا إلى “زاوية ثالثة” على تدني الأجور، وطول ساعات العمل، وغياب الإمكانيات الضرورية لتقديم خدمة علاجية عادلة للمرضى.
ويؤكد عاملون أن نسبة كبيرة من سيارات الإسعاف العاملة قد تجاوزت عمرها الافتراضي بعشرات السنين. كما يعمل كثير من المسعفين في ظروف قاسية تفتقر إلى الحد الأدنى من التجهيزات، كأجهزة قياس الضغط أو الأكسجين، وأحيانًا حتى أجهزة الإنعاش القلبي. بعض السيارات، كما أشاروا، لا تحتوي إلا على نقالة، ما يجعل عمل المسعف أشبه بالمجازفة، ويحوّل المريض، بحسب وصفهم، إلى راكب مهدد بالموت.
ولا تقتصر الأزمة على نقص المعدات، بل تمتد إلى نقص الكوادر البشرية. فعدد المسعفين المؤهلين لا يتناسب مع حجم السكان أو عدد البلاغات اليومية، في وقت تُشرف فيه الهيئة على آلاف الحالات كل يوم.
وفقًا لبيانات هيئة الإسعاف المصرية، يضم أسطول الإسعاف حوالي 3300 سيارة حتى أكتوبر 2024، مع خطط لإضافة ألف سيارة جديدة ضمن مبادرة “حياة كريمة”. لكن هذا العدد، رغم زيادته، لا يزال بعيدًا عن تلبية المعايير الدولية، إذ توصي منظمة الصحة العالمية بتوفير سيارة إسعاف لكل 50 ألف نسمة في المناطق الحضرية، مما يعني أن مصر تحتاج إلى حوالي 2080 سيارة إضافية للوصول إلى الحد الأدنى. إلى جانب ذلك يواجه توزيع سيارات الإسعاف في مصر تحديات جغرافية كبيرة تؤثر على كفاءة خدمات الطوارئ. تتركز معظم سيارات الإسعاف في المناطق الحضرية الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية بسبب الكثافة السكانية العالية، بينما تعاني محافظات نائية مثل الوادي الجديد وشمال وجنوب سيناء من نقص ملحوظ في عدد السيارات.
إلى جانب ذلك، تواجه سيارات الإسعاف في مصر تحديات تتعلق بتوفر المعدات الحيوية مثل أجهزة التنفس الاصطناعي وأجهزة مراقبة العلامات الحيوية، خاصة في بعض المناطق، تشير تقارير إلى أن جزءًا من أسطول الإسعاف، قد يفتقر إلى المعدات الطبية المتقدمة، مما يؤثر على جودة الرعاية أثناء نقل المرضى. على الرغم من الجهود المبذولة لتحديث الأسطول، لا تزال هناك حاجة ملحة لتجهيز جميع السيارات بالمعدات اللازمة لضمان استجابة فعالة في حالات الطوارئ.
تأخر الاستجابة: ثمنه الأرواح
تُعلن هيئة الإسعاف أن متوسط زمن الاستجابة للحالات الطارئة هو 8 دقائق، لكن هذا الرقم يتعارض مع الواقع الميداني، تكشف شهادات المواطنين في حديثهم إلى زاوية ثالثة أن تأخر سيارات الإسعاف قد يصل إلى ساعة في المناطق المزدحمة مثل وسط القاهرة أو في المحافظات النائية، في 10 مايو 2025، توفيت الطفلة صوفيا إثر حادث مروري على طريق وادي النطرون – العلمين بسبب تأخر سيارة الإسعاف 25 دقيقة وتغيير مسارها إلى مستشفى أبعد، مما أدى إلى استغراق 50 دقيقة للوصول إلى المستشفى.
وقد أثارت حالة صوفيا غضبًا شعبيًا واسعًا، مع منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب بالعدالة تحت هاشتاج #حق_صوفيا_لازم_يرجع، استجاب وزير الصحة، الدكتور خالد عبد الغفار، بأمر فتح تحقيق عاجل، وأكدت التحقيقات لاحقًا تقصير المسعف.
تشير التقارير إلى أن تأخر سيارات الإسعاف في مصر يرتبط بعدة عوامل، بما في ذلك الازدحام المروري، نقص الكوادر المدربة، وضعف التنسيق بين الجهات. على سبيل المثال، ذكرت هيئة الإسعاف المصرية عام 2021 أن سوء استخدام رقم الطوارئ 123 يؤدي إلى تأخيرات، حيث يتلقى المركز مكالمات غير ضرورية تحرم المصابين من فرص النجاة. كما أن التوزيع غير المتكافئ لسيارات الإسعاف، يزيد من صعوبة الاستجابة السريعة في المناطق النائية.
في قرية “ميت ركاب” بمحافظة الشرقية، توفي كريم علي (29 عامًا) بعد إصابته بأزمة قلبية في منتصف الليل، تقول شقيقته، نجلاء، إلى زاوية ثالثة: “أبلغنا الإسعاف في الثالثة فجرًا، وكانوا يعلمون أن الحالة طارئة، ومع ذلك لم تصل السيارة إلا بعد نحو 40 دقيقة. حينها، كان كريم قد فارق الحياة”. مضيفة: “السيارة جاءت دون طبيب، فقط سائق ومسعف غير مجهز، ليس معه أي أدوات طبية او إسعافات أولية قال لنا: (نأسف.. الحالة خرجت من أيدينا)، تؤكد نجلاء إيمانها بالله وبالقضاء والقدر، في الوقت ذاته تؤكد أن الإسعاف لو كانت مجزة لتمكنت من إنقاذ شقيقها، وتتساءل: هل يتحمل القائمون على المنظومة ذنبه؟
في مدينة مغاغة بمحافظة المنيا، أصيبت فتاة بجرح عميق في فخذها بعد سقوط لوح زجاجي عليها. والدتها، سهام إبراهيم، سردت القصة لـزاوية ثالثة: “اتصلت بالإسعاف أكثر من مرة، دون جدوى. لم يرد علينا أحد. فاضطررنا لنقلها بسيارتنا الخاصة. كانت تنزف طوال الطريق، تابع سهام: “كان من المفترض أن تتوفر نقطة إسعاف قريبة، أو على الأقل آلية تنسيق فعالة. نحن لا نطلب معجزة، فقط حياة كريمة، وخدمة طبية طارئة تحترم الوقت والإنسان”.
في كفر الدوار بمحافظة البحيرة، وقعت إصابة خطيرة داخل أحد المصانع. يقول عماد محروس، وهو عامل هناك، إن زميله تعرض لنزيف شديد في الرأس بعد سقوط أداة معدنية عليه: “اتصلنا بالإسعاف، فاستغرقت نصف ساعة حتى وصلت، وعندما جاءت، لم تكن السيارة مجهزة بأي أدوات طبية. لا كمادات، لا أجهزة، لا إنعاش، نحن الذين اضطررنا لإيقاف النزيف بوسائلنا البدائية”. يتساءل عماد: “ما الفائدة من سيارة لا تحمل أدواتها؟ كيف يمكن أن نسميها ‘إسعافًا’؟ ما رأيته أقرب إلى مركبة نقل خاصة، لا إلى وحدة طوارئ”.
ظروف عمل غير إنسانية
يعاني السائقون والمسعفون أيضًا، يقول أحمد، وهو سائق إسعاف يعمل منذ أكثر من 12 عامًا بمحافظة الشرقية في حديثه مع زاوية ثالثة: “نعمل في ظروف لا يتحملها بشر، ومع ذلك لا أحد يشعر بنا، خلال النوبات الليلية، نتحرك أحيانًا بمفردنا دون وجود مسعف، بسبب العجز في الأطقم الطبية، ونضطر للتعامل مع الحالات بشكل غير آمن، إلى جانب ذلك نتعرض للاعتداءات أحيانًا من أهالي المرضى بسبب تأخر الوصول أو ضعف التجهيزات، ومع ذلك لا يوجد تأمين كافٍ لنا لا جسديًا ولا قانونيًا”.
يضيف أحمد: “السيارات قديمة وبعضها غير صالح للسير لمسافات طويلة، ننفق على السيارة من مالنا الخاص أحيانًا كي نتحرك، ولا يتم صرف بدلات طبيعة العمل بانتظام، لا توجد عدالة في توزيع الحوافز، ولا احترام لمطالبنا بزيادة الأجور أو تخفيف ساعات العمل التي قد تصل إلى 16 ساعة متواصلة أحيانًا.”
من جهته، يؤكد حسام، وهو مسعف يعمل ضمن أحد خطوط الإسعاف السريعة بالقاهرة الكبرى، أن الخدمة تعاني من نقص شديد في الأفراد، ويقول: “نتعامل مع عدد بلاغات يومي يتجاوز قدرتنا، وأحيانًا نُطلب للتدخل في حوادث متزامنة بمواقع متباعدة دون وجود دعم أو تخطيط مسبق، كثير من البلاغات نصل إليها بعد فوات الأوان، ونُفاجأ بتسجيل البلاغ على النظام كـ’تم التعامل معه'”.
ويضيف: “ندفع الثمن كعاملين، سواء باللوم من الأهالي أو بتحميلنا مسؤولية تأخر الاستجابة، رغم أن الخلل من الإدارة وضعف الإمكانيات، ويضيف: “لا نحصل على دورات تدريبية كافية، ولا توجد خطة واضحة لتطوير قدراتنا أو تحسين بيئة العمل، حتى الزي الرسمي والمستلزمات الطبية نشتريها على نفقتنا الخاصة أحيانًا، نحن الحلقة الأضعف في منظومة تعاني من ترهل إداري مزمن”.
أما منى، وهي تعمل في مركز الاتصالات المركزي لهيئة الإسعاف بالقاهرة فتقول في حديثها معنا: “أتلقى يوميًا مئات البلاغات من مواطنين يصرخون طلبًا للمساعدة، نُسجلها ونمررها إلى أقرب وحدة إسعافية، لكن في كثير من الأحيان لا توجد سيارة متاحة، أضطر لتكرار العبارة: ‘سيتم الوصول في أقرب وقت’، وأنا أعلم أن الوقت قد يطول لساعات، أو لن تأتي السيارة أبدًا”.
تتابع منى: “نشعر بالضغط النفسي الهائل، لا لأننا مقصرون، ولكن لأن النظام عاجز عن الاستجابة بالسرعة المطلوبة، البعض يظن أن الخطأ عندنا، لكن الحقيقة أن العجز في الأسطول والكوادر هو السبب الحقيقي. وتضيف: “لا يوجد أي تواصل مباشر مع المسؤولين لتطوير آليات العمل أو تحسين أداء النظام الرقمي،نعمل بأدوات ضعيفة في مواجهة احتياجات ضخمة”.
كذلك، يصف طارق، أحد المسعفين في محافظة أسيوط، طبيعة عمله بـ”المُجهدة نفسيًا وبدنيًا”، ويقول في حديث مع زاوية ثالثة: “نتعامل مع حالات خطيرة في ظروف صعبة، خاصة في المناطق الريفية أو الجبلية حيث الطرق غير ممهدة والسيارات لا تتحمل مشقة السير، نصل أحيانًا بعد فوات الأوان، وتُرمى علينا اللوم من الجميع، رغم أننا نعمل بأقصى طاقتنا”.
يضيف: “أزمة نقص الأفراد مزمنة، وأغلب الزملاء يعانون من الإرهاق والضغط النفسي، خاصة مع ضعف المرتبات وعدم وجود دعم نفسي أو اجتماعي، نحاول قدر الإمكان إنقاذ الأرواح، لكن دون إمكانيات حقيقية. البعض يستقيل والبعض الآخر ينتظر فرصة عمل أفضل، لأن الوضع لا يحتمل الاستمرار.”
الإهمال والبيروقراطية
يقول محمود فؤاد، رئيس المركز المصري للحق في الدواء، إن الإسعاف يُعد في العالم كله “المنقذ الأول للأرواح”، حيث يسبق في أهميته دخول المستشفى نفسه، وهو الأداة الأولى في إنقاذ المصابين والمرضى سواء في الحوادث أو الحالات الطارئة في المنازل، خاصة خلال ساعات الليل. وأضاف أن خدمات الإسعاف تطورت لتشمل نقل المرضى بين المستشفيات، أو البحث عن سرير رعاية، وهذه أصبحت خدمات مدفوعة الأجر.
ويوضح فؤاد في حديثه معنا أن مصر تمتلك حالياً نحو 3300 سيارة إسعاف، وفقًا لما أعلنه وزير الصحة، وهو رقم “ضئيل جدًا” مقارنة بتعداد السكان الذي يزيد على 110 ملايين نسمة، مشددًا على أن هذا الرقم يجب أن يتضاعف على الأقل، وتحدث عن التاريخ الفريد لنشأة الإسعاف في مصر، حيث بدأ بفكرة من طبيب إيطالي يُدعى “فيديو” كان يعيش في القاهرة عام 1902، إبّان انتشار وباء الكوليرا في الإسكندرية، فبدأت فكرة نقل المرضى للمصحات، ومن هنا ظهرت سيارات الإسعاف التي تطورت لاحقًا لتكون جزءًا أساسيًا من النظام الصحي المصري.
وأشار فؤاد إلى أن هيئة الإسعاف أصبحت رسمية في 2009 بعد أن استندت لقانون تم إعداده في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ومن ثم تم تعميمها على مستوى الجمهورية عبر أكثر من 3000 نقطة، ومع تطور الزمن ظهرت سيارات إسعاف أشبه بعيادات متنقلة، مجهزة لنقل المريض بسرعة إلى أقرب مستشفى.
ورغم هذا التطور، فإن المنظومة تواجه عدة تحديات، أبرزها ضعف الكوادر البشرية، حيث لا يُقبل خريجو مدارس التمريض على العمل في الإسعاف، إضافة إلى النقص الحاد في الأطباء المتخصصين، خاصة أن طبيب الإسعاف يجب أن يكون مدربًا على تقديم الإسعافات الأولية كإنعاش القلب أو إذابة الجلطات في أسرع وقت، لأن الوقت هو العامل الفارق في إنقاذ الأرواح.
كما لفت فؤاد إلى العقبة الأهم أمام سيارات الإسعاف، وهي المرور، قائلاً: “أحيانًا تبقى الإسعاف تصرخ في الشارع ولا أحد يفسح لها الطريق. حدث هذا معي شخصيًا عندما كانت والدتي في سيارة الإسعاف، وكنا متوقفين أعلى كوبري المظلات، وحدثت مشادة بيني وبين كمين شرطة كان يعرقل المرور، وعندما تحركت السيارة لم أعد أستطع اللحاق بها”.
وأضاف أن الدولة بدأت تجربة تفعيل الإسعاف المرتبط آليًا بأقرب نقطة إسعافية عبر الحواسيب، مما يُقلص زمن الاستجابة، لكنه أوضح أن التطبيق ما زال بحاجة إلى تطوير. وذكر حادثًا وقع مؤخرًا لطبيب على طريق وادي النطرون، حين استغرق وصوله للمستشفى وقتًا طويلًا، وتوفيت ابنته بسبب تأخير إعادة سيارة الإسعاف إلى مستشفى وادي النطرون بعد أن تم تحويل المصابين لمستشفيات متفرقة، في مخالفة صريحة لبروتوكول الطوارئ، مما أدى إلى إحالة الأمر للنيابة.
ويشير فؤاد إلى أن هناك أيضًا سلوكيات مجتمعية تمثل عبئًا على منظومة الإسعاف، مثل البلاغات الكاذبة أو استخدام الرقم دون طوارئ حقيقية، لكنها تراجعت مع ربط الخطوط بأرقام الهواتف المسجلة بأسماء أصحابها. متحدثًا عن التوزيع الجغرافي الحالي لسيارات الإسعاف، موضحًا أن هناك نقاطًا منتشرة في المحافظات والمدن، ويمكن أن تخدم مدنًا أخرى حسب طبيعة البلاغات. لكنه شدد على ضرورة تطوير هذه السيارات وتجهيزها بطاقم طبي متكامل، وليس مجرد سائق ومساعد.
وقال إن الأزمة تمتد كذلك إلى داخل المستشفيات، حيث تُجبر سيارات الإسعاف أحيانًا على الانتظار طويلًا لحين إيجاد سرير أو صدور تعليمات من الأطباء، رغم أن المفترض أن يكون المستشفى مجهزًا مسبقًا بناءً على البلاغ الطبي، ليتلقى المريض رعاية فورية عند وصوله.
وانتقد فؤاد ما وصفه بـ”الفراغ الطبي” داخل المستشفيات العامة، التي يجب أن تحتوي على أطباء متخصصين في طب الطوارئ، وهو تخصص قائم في دول العالم، لكنه شبه غائب في مصر بسبب نقص الأطباء.
وأشار فؤاد إلى الدور الريادي الذي لعبه مؤسس الإسعاف الرسمي في مصر، ثم الجهود التي قام بها الدكتور هاني جميعه، محافظ الفيوم الحالي، خلال عمله السابق في الدلتا لتطوير خدمات الإسعاف، مستفيدًا من كونه أحد خريجي البرنامج الرئاسي لإعداد القيادات.
وفيما يخص خدمات الإسعاف الخاصة، قال فؤاد إن هناك نحو سبع شركات تابعة للوزارة تقدم خدمات إسعاف مدفوعة للمواطنين، ويتم تسعير هذه الخدمات بالكيلومتر، سواء لنقل طفل إلى حضّانة، أو لنقل مريض من محافظة لأخرى لعدم توافر التخصص المطلوب في محافظته، وهو ما وصفه بأنه “مجحف”، مؤكدًا أن الخدمة الصحية حق لكل مواطن، مؤكدًا على أن هذه المشكلات مجتمعة تستلزم تدخلًا عاجلًا لتطوير المنظومة بشكل شامل، يضمن وصول الإسعاف في الوقت المناسب، وتقديم رعاية طبية كاملة منذ لحظة خروج السيارة وحتى دخول المريض المستشفى.
وخلال احتفالية مرور 123 عامًا على تأسيس مرفق الإسعاف، قبل أسبوع أكد الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء مدبولي أن “الدولة أولت اهتمامًا بالغًا بدعم هيئة الإسعاف لتكون أكثر كفاءة وحداثة”، مشيرًا إلى أن الإسعاف “رمز للتضحية والإنسانية”. كما أعلن عن افتتاح المقر الرئيسي الجديد للهيئة، الذي يضم مركزًا لتلقي البلاغات يعمل على مدار الساعة بتقنيات حديثة، وتطبيق “اسعفني” لتسهيل طلب الخدمة.
رغم التصريحات الرسمية المتفائلة، تظهر البيانات فجوة واضحة بين الوعود وأرض الواقع. مركز التحكم الجديد وتطبيق “اسعفني” خطوات إيجابية، لكنها لا تعالج النقص الحاد في السيارات أو التوزيع غير المتكافئ. كما أن التحقيقات في الحوادث، غالبًا ما تنتهي دون نتائج علنية، مما يُعزز انطباعًا بغياب المساءلة. من الناحية البرلمانية، تركيز النواب على قوانين مثل التأمين الصحي أو إدارة المنشآت الصحية، دون نقاشات مخصصة للإسعاف، يُظهر أولويات متباينة لا تعكس خطورة الأزمة.
الحكومة تُقيد الحق في الصحة: لائحةٌ جديدة تُعيدنا إلى الوراء
انعكاس مصغر لانهيار القطاع الصحي
من جهته يرى الباحث في شؤون الصحة العامة كريم طارق أن أزمة خدمات الإسعاف في مصر لا يمكن فصلها عن السياق الأشمل لانهيار منظومة الرعاية الصحية في البلاد، مؤكدًا أن المشكلة ليست مجرد مسألة تأخير في الاستجابة أو نقص في عدد السيارات، بل أزمة مركبة تتداخل فيها الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والإدارية.
وفي حديث خاص لـزاوية ثالثة، يلفت طارق إلى أن الكثير من الأوراق البحثية والسياسات الصحية لا تركز تفصيلًا على ملف الإسعاف تحديدًا، بل تتناول طب الطوارئ ككل، وهو فرع واسع، يضم بداخله الإسعاف كواحدة من مكوناته”. موضحًا أن: “المشكلة الأساسية أن الطلب على خدمات الإسعاف آخذ في التزايد بشكل كبير نتيجة النمو السكاني والتوسع الحضري، بينما قدرة الدولة على توفير الموارد والخدمات لا تواكب هذا الطلب، ما يشكل فجوة تتسع مع الوقت. هذه الفجوة تُعد خرقًا مباشرًا لنص المادة (18) من الدستور المصري، التي تكفل الحق في الرعاية الصحية لكافة المواطنين، بما في ذلك خدمات الطوارئ”.
وبلغة الأرقام، يشرح طارق حجم الفجوة قائلًا: “في الوقت الراهن، توجد سيارة إسعاف واحدة لكل 43 ألف مواطن تقريبًا، في حين أن المستهدف الرسمي هو سيارة لكل 25 ألفًا، هذا يعني أن هناك نقصًا بنحو 18 ألف مواطن لكل وحدة إسعافية، وهو رقم خطير بكل المقاييس، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن بعض المحافظات تتكدس فيها الكثافة السكانية بشكل غير متوازن”. ويشير الباحث إلى أن “الزيادة في عدد السيارات لا تكفي بمفردها”، مضيفًا: “مع توسع الأسطول، نحتاج أيضًا إلى زيادة أعداد المسعفين والسائقين، وهذا يتطلب ميزانيات جديدة، سواء لتغطية الرواتب أو لتوفير التدريب والتطوير المهني. بعض التقارير الإسبانية، وأخرى محلية من داخل مصر، تحدثت عن حالات فقد فيها مواطنون حياتهم نتيجة تأخر الإسعاف، وكان السبب المباشر ضعف تدريب الطواقم أو غياب المعدات اللازمة”.
ويوضح طارق أن أحد الأبعاد المهمة في هذه الأزمة هو البُعد الطبقي والجغرافي، حيث تختلف جودة الخدمة من منطقة لأخرى: “في المناطق الراقية مثل القاهرة الجديدة أو الشيخ زايد أو أكتوبر، نجد استجابة أسرع وخدمة أفضل نسبيًا، وذلك لعدة أسباب؛ منها سهولة الوصول، ووضوح العناوين، والبنية التحتية الجيدة، فضلًا عن كثافة توزيع السيارات هناك. أما في المناطق الشعبية أو العشوائية، فإن الوضع مختلف تمامًا”.
ويتابع: “هذا التفاوت يفتح بابًا لنقاش أكبر حول عدالة توزيع الخدمات الإسعافية، وهل يعتمد على الكثافة السكانية فعلًا، أم على اعتبارات أخرى غير واضحة؟ أغلب التقارير الإعلامية التي وثّقت تقصيرًا في الاستجابة خرجت من مناطق تمثل الطبقة الوسطى وما دونها، ما يكرّس فجوة طبقية في الحصول على حق أصيل مثل الرعاية الطارئة”. مشددًا على ضرورة التزام الدولة بما يفرضه الدستور، قائلًا: “غياب الشفافية، وضعف الحوكمة، من أبرز معوقات تحسين الخدمة. لا نعرف على وجه التحديد مَن يحاسب ومتى، وغالبًا لا تظهر ردود الأفعال الرسمية إلا بعد تداول قضية ما في الإعلام. وقتها فقط نسمع عن وعود وتحقيقات، ثم لا تلبث الأمور أن تعود لسابق عهدها. الإصلاح الحقيقي يبدأ من إدراك أن خدمات الإسعاف ليست رفاهية، بل خط الدفاع الأول عن حياة المواطن”.
وفقًا لتقرير صادر عن وزارة المالية المصرية، خُصص للقطاع الصحي في الموازنة العامة للدولة لعام 2024/2025 مبلغ 496 مليار جنيه، بزيادة قدرها 99 مليار جنيه عن العام السابق، لدعم الخدمات الصحية، بما في ذلك الخدمات الإسعافية، ورغم هذا التخصيص الكبير، تواجه هيئة الإسعاف المصرية تحديات مستمرة في تلبية احتياجات أسطول يضم حوالي 3000 سيارة، تشمل ارتفاع تكاليف الصيانة والتشغيل، ونقص المعدات الحيوية في بعض السيارات، وضعف التغطية في المناطق النائية، أشار الدكتور عمرو رشيد، رئيس هيئة الإسعاف، إلى أن زيادة أسعار الخدمات غير الطارئة في أكتوبر 2024، بنسبة تصل إلى 40%، تهدف إلى تنظيم الطلب وتقليل الضغط على الأسطول، لكنها لا تمثل سوى 2% من مواردها، مما يعكس الحاجة إلى تمويل إضافي لتحديث الأسطول الطبي والتقني وتحسين كفاءة الخدمات.
في 20 مايو 2024، أقر البرلمان قانونًا يسمح بشراكات القطاع الخاص لإدارة المنشآت الصحية العامة، وصدّق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في 23 يونيو. القانون يستثني خدمات الإسعاف والطوارئ من الخصخصة، لكنه أثار مخاوف منظمة العفو الدولية من أن يؤدي إلى زيادة التكاليف على المواطنين الفقراء، مما قد يؤثر غير مباشر على الوصول إلى خدمات الطوارئ. نقابة الأطباء عارضت القانون بسبب غياب التشاور الكافي، مما يعكس ضعف الإشراف البرلماني على القطاع الصحي. لم يصدر حتى الآن اللائحة التنفيذية للقانون، مما يُعيق تقييم تأثيره على خدمات الإسعاف.
في ظل الضغوط المتزايدة على القطاع الصحي في مصر، تبرز منظومة الإسعاف كجزء حيوي يعكس قدرة الدولة على حماية مواطنيها في لحظات الطوارئ. لكن تكرار حوادث التأخير وسوء الأداء أثار تساؤلات حول فعالية السياسات الحكومية. هذا التقرير يسلط الضوء على التحركات البرلمانية والتصريحات الرسمية التي تناولت هذه الأزمة، مع تقييم مدى جدية هذه الجهود في مواجهة تحديات المنظومة.