close

أزمة بنج الأسنان تعود للواجهة… احتكار الإنتاج يكشف خللًا بنيويًا في سوق الدواء المصري

يف تتكرر الأزمة منذ 2017 رغم تشغيل خطوط إنتاج جديدة واستثمارات بالملايين، بينما يحتكر الإنتاج مصنع واحد ويتحكم في التوزيع تطبيق واحد، وتغيب الشفافية تمامًا حول الكميات المتاحة.
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

تجددت خلال الأشهر الأخيرة أزمة نقص المخدر الموضعي المستخدم في عيادات طب الأسنان بمصر، ذلك المستحضر الحيوي الذي لا غنى عنه لإجراء أبسط أنواع العلاج والعمليات الجراحية. ورغم أن الأزمة ليست وليدة اليوم، فإنها عادت لتفرض نفسها مجددًا على الساحة الطبية، بعد سلسلة من الأزمات المتكررة التي شهدتها السنوات الأخيرة دون أن تنجح أي جهة في وضع حل جذري أو دائم لها.

في الوقت الذي تبدو فيه الأزمة، ظاهريًا، مجرد مشكلة توريد دوائي تفاقمت بفعل توقف الاستيراد وضعف الإنتاج المحلي، فإن أطباء الأسنان يرون أنها أبعد من ذلك بكثير. فبينما تؤكد الهيئة المصرية للدواء أن النقص “مؤقت” وقد جرى احتواؤه مؤخرًا عبر توفير كميات للنقابة العامة لأطباء الأسنان لتتولى توزيعها على العيادات، يعتبر الأطباء الذين تحدثنا إليهم، أن ما يحدث يعكس خللًا هيكليًا متكررًا في إدارة ملف الدواء في مصر، وخاصة ما يتعلق بـ”بنج الأسنان”، إلى جانب غياب سياسة واضحة تضمن استقرار توافر المستحضرات الطبية الأساسية دون انقطاع.

وفي سياق التحركات الرسمية لمعالجة الأزمة، أعلنت وزارة قطاع الأعمال العام في 29 أكتوبر الماضي، عن عقد اجتماع موسّع ترأسه الوزير المهندس محمد شيمي، بحضور الدكتور إيهاب هيكل نقيب أطباء الأسنان، ومشاركة قيادات الشركة القابضة للأدوية وشركة الإسكندرية للأدوية، أكبر منتج لمخدر الأسنان في مصر والشرق الأوسط.

وبحسب بيان الوزارة، ناقش الاجتماع آليات تطوير منظومة إنتاج أدوية ومستلزمات طب الأسنان وضمان تأمين احتياجات السوق المحلي منها بجودة وكفاءة مرتفعة، من خلال تعزيز التعاون بين النقابة والشركات التابعة للوزارة. وأكد الوزير خلال اللقاء أن الدولة تولي قطاع الدواء والمستلزمات الطبية أولوية قصوى، باعتباره قطاعًا استراتيجيًا يرتبط مباشرة بصحة المواطن. كما شدّد على أن الوزارة تعمل على تحديث خطوط الإنتاج وتوطين التكنولوجيا الحديثة لضمان توفير منتجات آمنة وفعالة تلبي احتياجات السوق المحلي بأسعار مناسبة.

من جانبها، كانت نقابة أطباء الأسنان أعلنت رسميًا عن تفاقم أزمة نقص المخدر الموضعي، ووصفتها بأنها تمس منتجًا استراتيجيًا لا غنى عنه في تقديم الرعاية الصحية للمواطنين. وأوضحت النقابة في بيانها أن دورها يقتصر على تنظيم عملية التوزيع بين الشركات المنتجة والمستوردة والأطباء من خلال تطبيق إلكتروني خاص بها، لضمان وصول المنتج بطريقة منظمة وعادلة.

وكشف البيان أن الأزمة الراهنة نتجت عن توقف الاستيراد وارتفاع الأسعار العالمية، إلى جانب عزوف بعض المستوردين عن التوريد بسبب فروق التسعير الرسمية، فضلًا عن مشكلات في خطوط إنتاج الشركات القومية وضعف الطاقة الإنتاجية المحلية التي لا تغطي سوى نحو 10% من احتياجات السوق. وأشارت النقابة إلى أن سعر المخدر المستورد شهد ارتفاعًا غير مسبوق في السوق السوداء، حيث تجاوز سعره الجبري بأكثر من ألف جنيه، مما أدى إلى اضطراب واضح في توازن السوق.

وأكدت النقابة أنها خاطبت رسميًا كلًا من هيئة الدواء المصرية ووزارة قطاع الأعمال العام، مطالبة بتقديم تسهيلات عاجلة لاستئناف عمليات الاستيراد وضمان توفير المنتج محليًا بصورة مستقرة ومنتظمة.

 

نوصي للقراءة: نقص الأدوية يضاعف معاناة مرضى السرطان والفشل الكلوي

حل مؤقت للأزمة وليست المرة الأولى

تكررت أزمة نقص بنج الأسنان خلال السنوات الأخيرة، إذ تعود بدايتها إلى عام 2017، نتيجة توقف جزئي في الاستيراد وتراجع الإنتاج المحلي. في ذلك الوقت، توقفت الشركة الإسبانية الموردة عن تزويد السوق المصري بالكميات الكافية لتغطية احتياجاته، في حين كانت شركة واحدة فقط مقرها الإسكندرية تتولى إنتاج المخدر محليًا، ما تسبب في نقص واسع داخل عيادات الأسنان على مستوى الجمهورية.

ورغم الإجراءات التي اتخذتها وزارة قطاع الأعمال العام وشركات الأدوية التابعة لها لمعالجة الأزمة في أكثر من مناسبة، فإنها عادت لتتجدد في أعوام لاحقة، أبرزها في 2022 ثم خلال الأشهر الأخيرة، بسبب أعطال فنية في خطوط الإنتاج وتزامنها مع ضعف المخزون الاستراتيجي وتأخر عمليات الاستيراد.

يوضح الدكتور إيهاب هيكل، نقيب أطباء الأسنان في مصر، في حديث إلى زاوية ثالثة أن الأزمة الأخيرة تم احتواؤها فعليًا، ولا توجد أزمة حالية بالمعنى الكامل، سوى أن الكميات المتوافرة في السوق محدودة نسبيًا. مشيرًا إلى أن النقص الأخير كان طارئًا ومؤقتًا، ونتج عن دخول الماكينات الخاصة بالشركة المنتجة في صيانة دورية لم يُخطط مسبقًا لتأثيرها على حجم الإنتاج، ما أدى إلى تراجع مؤقت في المعروض.

وعن تكرار الأزمة خلال السنوات الأخيرة واحتمالية تجدد الأزمة في المستقبل، يؤكد هيكل أن نظام التوزيع الإلكتروني الجديد الذي تطبقه النقابة ساهم في تنظيم صرف البنج للأطباء بعدالة وشفافية أكبر، معتبرًا أن ما حدث مؤخرًا هو خلل إداري محدود من جانب الشركة المنتجة وهيئة الدواء، تم التعامل معه سريعًا. وأضاف أن وزير قطاع الأعمال العام اتخذ بالفعل إجراءات تضمن عدم تكرار الأزمة مستقبلًا من خلال خطة لتحديث خطوط الإنتاج وضمان استقرار المخزون الاستراتيجي.

من جانبنا، حاولنا التواصل مع هيئة الدواء المصرية للحصول على رد رسمي بشأن الأزمة وخطط الهيئة المستقبلية لضمان عدم تكرارها، إلا أننا لم نتلقَّ ردًا حتى موعد نشر هذا التقرير.

في المقابل يرى الدكتور محمد بدوي، طبيب الأسنان وعضو مجلس النقابة السابق والمرشح السابق لمنصب النقيب، أن أزمة بنج الأسنان في مصر ليست “عارضة” كما تصفها النقابة، بل هي مشكلة مزمنة ممتدة منذ أكثر من أربع سنوات، تظهر وتختفي بشكل دوري دون حلول جذرية.

ويوضح بدوي في حديثه لـ”زاوية ثالثة” أن ما شهدته السوق مؤخرًا من تقييد في كميات الشراء واشتراطات غير معتادة، مثل إلزام الطبيب بشراء عبوة من النوع الأقل استخدامًا مقابل الحصول على عبوتين من النوع الأكثر استخدامًا “لا يحدث إلا في أوقات الأزمات، وهو مؤشر واضح على وجود نقص حقيقي في المعروض.”

ويرجع بدوي الأزمة الحالية إلى احتكار إنتاج المخدر الموضعي لشركة واحدة والذي لا يكفي إنتاجها العرض والطلب في ظل توقف الاستيراد نتيجة خلل في منظومة التسعير وعدم مواكبتها لتغيرات سعر الدولار، موضحًا أن المستوردين يتكبدون خسائر عندما تظل الأسعار الجبرية المثبتة على العبوات أقل من تكلفة الاستيراد الفعلية.

 

نوصي للقراءة: من الاحتراق الوظيفي إلى الهجرة.. لماذا يترك الأطباء النفسيون مصر؟

التوزيع الإلكتروني سوء إدارة واستخدام

بينما يؤكد نقيب أطباء الأسنان انتهاء الأزمة، وأن التطبيق الإلكتروني ساهم بشكل جيد في توزيع بنج الأسنان على الأطباء بصورة عادلة ومنتظمة، يرى الدكتور خالد عبد الباسط عضو مجلس النقابة العامة للأسنان، أن التطبيق الإلكتروني المشار إليه ساهم في تفاقم الأزمة لا حلها.

في حديثه لـ”زاوية ثالثة”، يقول عضو مجلس نقابة أطباء الأسنان، إن شركة داف تُعد الوكيل المعتمد للنقابة لتوزيع بنج الأسنان بشكل عادل للأطباء عبر منظومة التطبيق الإلكتروني، وفقًا للعقد المبرم بين النقابة العامة والشركة المصرية لتجارة الأدوية التابعة لهيئة الشراء الموحد، لكن المنظومة الإلكترونية تشهد سوء إدارة واستخدام أدى إلى خلل واضح في عملية التوزيع، مشيرًا إلى أن كميات من البنج تُباع خارج التطبيق، ما تسبب في تفاقم الأزمة، خاصة في ظل غياب مخزون استراتيجي تعتمد عليه الشركة وقت توقف توريد “الإسكندرية للأدوية”، المنتج المحلي الرئيسي للبنج في مصر.

ويتساءل عبد الباسط: “موقف البنج المستورد معلوم للجميع منذ شهور، فهل ننتظر حتى ينعدم توافره تمامًا ثم نبدأ بالتواصل مع المصانع المحلية لزيادة الإنتاج؟ هل يجب أن ننتظر حتى يصل سعر العبوة في السوق السوداء إلى 2000 جنيه لنتحرك نحو حل جذري يمنع تكرار الأزمة؟”.

في المقابل ينتقد عضو النقابة البيان الأخير الصادر عن النقابة العامة بشأن أزمة البنج، موضحًا أنه تم نشره دون عرضه على مجلس النقابة أو مراجعته، وأن المعلومات التي تضمنها، خاصة ما يتعلق بـ”تصدير 80 % من المنتج المحلي”، غير مؤكدة حتى الآن. مشددًا على ضرورة إتاحة شراء البنج داخل التطبيق وخارجه في الوقت نفسه، نظرًا لكونه منتجًا دوائيًا استراتيجيًا لا يجوز ربط توافره بنظام إلكتروني قد يتعرض للأعطال أو التحديثات.

ويشير كذلك إلى أن زيادة رسوم الشحن التي يتحملها الأطباء دون حصولهم على الخصومات المعتادة التي تمنحها شركات الشحن للمؤسسات الصغيرة، إلى جانب الرسوم الإضافية لخدمات الـ (e-services) التي تُحسب بنسبة مرتفعة تقدر بالآلاف على عمليات الشراء عبر التطبيق، تمثل عبئًا ماليًا إضافيًا على الأطباء، في حين تستفيد الشركات الوسيطة من الامتيازات دون أن ينعكس ذلك على المستهلكين أو حل الأزمة بشكل فعّال.

من جهته يشير طبيب الأسنان محمد بدوي إلى أن شركة “داف للحلول الرقمية“، المتعاقدة مع نقابة أطباء الأسنان لتوزيع البنج عبر التطبيق الإلكتروني، أصبحت تتحكم فعليًا في عملية التوزيع داخل السوق، بما يشبه “الاحتكار”، مضيفًا أن النظام الحالي لم يحقق العدالة في إتاحة المنتج للأطباء، بل خلق “أزمات متكررة وتفاوتًا في الحصص”. كما تساءل عن مصير الكميات التي كان يفترض توزيعها عبر التطبيق:”إذا كانت الحصة التي حصلت عليها الشركة لم تصل إلى الأطباء كما هو مفترض، فإلى أين ذهبت هذه الكميات؟”

تولت شركة داف للخدمات الرقمية، دوراً محوريّاً في منظومة توزيع مخدّر الأسنان (البنج) عبر التطبيق الإلكتروني لنقابة أطباء الأسنان، كجزء من عملية الرقمنة الشاملة لسلسلة التوريد الدوائي. وفي مسار أوسع، أبرمت الشركة بروتوكول تعاون مع (GS1 Egypt) لإطلاق مشروع تتبّع الأدوية في مصر، ما يعكس دورها كمزوّد تقني في الإمداد الطبي وتنظيم السوق. 

في المقابل أثار التحول إلى التوزيع الإلكتروني للمخدر الموضعي للأسنان عبر هذه المنصّة يُثير عدة تساؤلات: حول الشفافية في الحصص المُوزّعة، قدرة النظام على مواجهة الأعطال أو انقطاع الإنتاج، ومدى تمكّن الأطباء من الوصول العادل للمنتج دون التباس أو ضغط على الكمية.

 

نوصي للقراءة: الرواتب، الهجرة، والدستور: لماذا حققت النيابة مع ممثل الأطباء؟


غياب الشفافية أحد أطراف الأزمة

بالرغم من إعلان شركة الإسكندرية للأدوية، المسؤولة عن نحو 80% من الإنتاج المحلي، عن تشغيل خط إنتاج جديد في عام 2023، بتكلفة استثمارية تبلغ 45 مليون جنيه، بهدف زيادة الطاقة الإنتاجية للشركة بشكل كبير لتلبية احتياجات السوق المحلية وتوفير كميات للتصدير، فإن الأزمة تجددت سريعًا، ما أثار تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء توقف الإنتاج وندرة المعروض في السوق.

يوضح الدكتور محمد بدوي، طبيب الأسنان، أن خط الإنتاج الجديد لم يمضِ عليه سوى عام واحد قبل أن يتوقف فجأة “بحجة الصيانة الدورية”، معتبرًا أن هذا التوقف “غير مبرر ومن غير المنطقي أن يحدث في منشأة حيوية بهذا الحجم”. ويرى أن استمرار الأزمات ناتج عن “غياب الشفافية في العقد المبرم بين النقابة وشركة التوزيع”، مضيفًا: “أي تدخل في السوق يجب أن يكون رقابيًا لحماية المصلحة العامة، لا بهدف السيطرة والربح. أما حين يتحول التدخل إلى أداة لمصالح خاصة، فستظل الأزمات تتكرر بشكل مفتعل”.

من جانبه، يؤكد محمود فؤاد، مدير جمعية الحق في الدواء، أن مشكلة البنج المحلي “قديمة متجددة” ترتبط بالأساس باضطرابات خطوط الإنتاج داخل شركة الإسكندرية للأدوية خلال السنوات الخمس الماضية، بسبب مشكلات الصيانة ونقص المواد الخام. ويضيف أن هذه الاضطرابات تخلق دومًا سوقًا سوداء يستفيد منها الوسطاء، بينما تتحمل النقابات والأطباء والمريض عبء الأزمة.

ومع كل أزمة، تلجأ هيئة الدواء المصرية إلى تنظيم التوزيع عبر النقابات الفرعية، بحيث يحصل كل طبيب على عدد محدود من العبوات، وهو ما يصفه فؤاد بأنه “حل مؤقت يفتح الباب للاستغلال”. ومع تراجع الإمدادات المحلية، يلجأ الأطباء إلى البدائل المستوردة مثل البنج الألباني أو الفرنسي، وهي أغلى ثمنًا وأقل جودة في بعض الأحيان، ما يرفع تكلفة الخدمة الطبية ويزيد معاناة المريض.

ويشير فؤاد إلى أن غياب قاعدة بيانات دقيقة تحدد حجم الاستهلاك المحلي من البنج ومعدل الإنتاج الفعلي “يجعل الجهات التنظيمية تتفاجأ بالأزمة بدلًا من توقعها”، مؤكدًا ضرورة تحديث البنية التحتية لشركات قطاع الأعمال وتوفير مخزون استراتيجي فعلي لضمان استقرار الإمدادات.

ويختتم حديثه بالتنبيه إلى أن غياب البنج في عيادات الأسنان “لا يعني تعطيل العمل فقط، بل هو معاناة مباشرة للمريض الذي يُحرم من العلاج، وقد يتحول الأمر إلى ما يشبه التعذيب الإنساني غير المقصود.”

في النهاية، رغم الانفراجة المؤقتة في أزمة المخدر الموضعي لأطباء الأسنان،  لكنها كشفت عن خلل بنيوي في إدارة سوق الدواء في مصر، حيث تتكرر الأزمات الدوائية دون خطة استباقية أو آليات إنذار مبكر، ويظل الحل دومًا في حدود “الاحتواء المؤقت” لا الإصلاح الجذري والخطط المستقبلة لتلافي الأزمة.

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search