close

صفقة الغاز كورقة ضغط.. كيف سترد القاهرة على تهديدات نتنياهو؟

خلفيات الصفقة الأكبر في تاريخ العلاقات المصرية الإسرائيلية، وأسباب التوتر المتصاعد من سيناء إلى ليفياثان.
Picture of رشا عمار

رشا عمار

في خطوة اعتبرها مراقبون مرحلة جديدة من الضغط على القاهرة للقبول بمخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء، روجت صحف تابعة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، أخبار تفيد بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أصدر تعليمات بعدم المضي قدمًا في تنفيذ صفقة الغاز الضخمة الموقعة مع مصر، قبل نحو شهر بقيمة نحو 35 مليار دولار لتوريد 130 مليار متر مكعب حتى عام 2040، من دون موافقته الشخصية، وذلك بهدف ربط تنفيذ الاتفاق بشروط وضمانات جديدة من مصر، بناءً على ادعاءات بأن القاهرة خالفت معاهدة كامب ديفيد عبر تعزيزات عسكرية في سيناء.

من جانبها اعتبرت القاهرة تصريحات نتنياهو تفتقر إلى “الواقعية”، وجاء الرد حاد على لسان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان، الذي أكد أن ما أعلنه نتنياهو يفتقر إلى الواقعية السياسية والاقتصادية، مؤكدًا أن القاهرة لا ترى في تلك التهديدات خطراً على أمنها أو استقرارها في قطاع الطاقة. وقال رشوان في تصريحات متلفزة: “أنصحه أن يلغي الصفقة إن كان قادرًا على تحمّل عواقبها الاقتصادية”، في إشارة واضحة إلى أن الكلفة السياسية والمالية ستقع بالأساس على الجانب الإسرائيلي.

مصر كذلك جددت تأكيدها أنها لن تخضع لأي ضغوط إسرائيلية، سواء في ملف الطاقة أو قضايا غزة والحدود، ووصفت هذه التهديدات بأنها أوراق ضغط سياسي تستهدف النيل من الموقف المصري الثابت تجاه قضية فلسطين ورفض تهجير الفلسطينيين. وأشارت تصريحات رسمية إلى امتلاك مصر القدرة على حماية أمنها القومي واقتصادها، وأن خسارة الصفقة ستكون بالأساس من نصيب إسرائيل.

وفي السياق كشف مصدران، أحدهما دبلوماسي والآخر أمني، لـ”زاوية ثالثة” أن القاهرة لا تلتفت كثيرًا إلى تصريحات نتنياهو بشأن تجميد اتفاق الغاز، وتعتبرها استعراضًا موجّهًا للرأي العام داخل دولة الاحتلال ومحاولة للتغطية على فشل تل أبيب في بلوغ أهدافها في قطاع غزة، وعلى رأسها مشروع تهجير الفلسطينيين. وأكد المصدران أن مصر تضع خطًا أحمر واضحًا يتمثل في رفضها القاطع لأي سيناريو يفضي إلى التهجير، فيما عدا ذلك فهي مستعدة للتعامل مع مختلف المستجدات بحكم ما تمتلكه من بدائل وخيارات استراتيجية في قطاع الطاقة وفي ملفاتها الإقليمية الأوسع.

المصدر الدبلوماسي شدد على أن القاهرة ستفعل خيارات الرد مع الأفعال وليس مع التصريحات، موضحًا أن بلاده قادرة على حماية مواردها وضمان بدائل آمنة، إذ تمضي في تنفيذ اتفاقيات أوسع لتسييل الغاز وتصديره بما يحفظ مصالحها، أما على صعيد العلاقات الثنائية، فقد وصفها المصدران بأنها “الأكثر توترًا منذ سنوات”، مؤكدين أنه لا نية لدى القاهرة في الوقت الحالي للعودة إلى مستوى تبادل السفراء. وفي الوقت نفسه، شددا على أن مصر ما تزال تفضل الخيار الدبلوماسي في معالجة كافة الملفات الخارجية، لكنها تبقى مستعدة لاستخدام كل ما يلزم من أدوات للحفاظ على أمنها القومي وصون مقدراتها الاستراتيجية.

وفي وقت سابق، أشارت تقارير إلى أن الجيش المصري عزز وجوده العسكري في شمال شرق سيناء، ورفع من مستوى الجاهزية الميدانية من خلال نشر دبابات ومدرعات إضافية في محيط معبر رفح والمناطق المجاورة له، الامر الذي يثير قلق تل أبيب، ويعتقد مراقبون أن هذا التحرك العسكري، وإن كان يحمل طابعًا دفاعيًا، إلا أنه يحمل في طياته رسالة واضحة مفادها أن القاهرة لن تسمح بأي اختراق أمني أو تهديد مباشر يأتي من الجنوب الفلسطيني، خاصة مع تزايد الحديث في الإعلام الإسرائيلي عن “ممرات آمنة” أو مناطق عازلة على تخوم غزة، يمكن استغلالها لإجبار الفلسطينيين على النزوح إلى سيناء.

ووفقًا لمصادر رسمية وخبراء عسكريين، فإن الجيش المصري نشر في سيناء نحو 88 كتيبة عسكرية، تضم ما يقرب من 42 ألف جندي، إلى جانب 3 فرق عسكرية كاملة، وأكثر من 1500 دبابة ومدرعة، بالإضافة إلى مشاريع لتطوير المطارات العسكرية وتوسيع ممراتها، وتعزيز شبكات الدفاع الجوي والأرصفة البحرية على البحرين المتوسط والأحمر. ويقارن مراقبون هذه الأرقام بما تنص عليه اتفاقية السلام، والتي تحدد الحد الأقصى للقوات المصرية في المنطقة بنحو 50 كتيبة و22 ألف جندي فقط، ما يوضح حجم الفجوة بين الواقع الحالي والترتيبات الأمنية الأصلية التي وضعت لضمان توازن دقيق في شبه الجزيرة ذات الأهمية الاستراتيجية.

 

نوصي للقراءة: غاز إسرائيل في مصر.. الصفقة الأضخم منذ عقود

ما طبيعة الصفقة محل الجدل؟

في السابع من أغسطس الماضي، أعلنت تل أبيب عن إبرام “أكبر صفقة غاز في تاريخها” مع القاهرة، بقيمة 35 مليار دولار، لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي حتى عام 2040، أو حتى استيفاء الكميات المنصوص عليها في العقد، وفق ما كشفه وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين.

الصفقة، التي وُقّعت بين شركات إسرائيلية أبرزها “نيو ميد”، الشريكة في حقل ليفياثان العملاق، والجانب المصري، لا تمثل مجرد اتفاق اقتصادي، بل تُعيد رسم خريطة الاعتماد المتبادل بين دولتين ترتبطان بعلاقات سياسية معقدة وذاكرة شعبية متوترة، فهي تضاعف ثلاث مرات حجم التصدير الذي بدأ عام 2019 (60 مليار متر مكعب آنذاك)، ما يجعل مصر الوجهة الأكبر للغاز الإسرائيلي في المنطقة.

تطور صفقات الغاز بين مصر وإسرائيل

وزير الطاقة الإسرائيلي لم يُخفِ حينها دلالات الصفقة، واعتبرها “خبرًا هامًا من الناحية الأمنية والسياسية، كما هو من الناحية الاقتصادية”، مؤكّدًا أنها ترسخ مكانة بلاده كـ”قوة إقليمية رائدة في مجال الطاقة يعتمد عليها جيرانها ويحتاجون إليها”. وبحسب قوله، ستجلب الصفقة مليارات الدولارات إلى خزينة إسرائيل، وتوفر فرص عمل، وتُعزز اقتصادها.

ومن جهته يؤكد كريم العمدة، -أستاذ الاقتصاد السياسي-، أنه في حال إلغاء الصفقة، الخاسر الأكبر سيكون الجانب الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن الاتفاقية، التي تصل قيمتها إلى نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز و35 مليار دولار حتى عام 2040، تعد تعديلًا موسعًا للاتفاقية الأصلية الموقعة عام 2019، وليست اتفاقية جديدة.

ويشرح العمدة أن السبب الرئيسي لإتمام الاتفاقية هو وجود خط أنابيب مباشر بين مصر وإسرائيل ينقل الغاز من حقل “ليفياثان” الإسرائيلي في البحر المتوسط مباشرة إلى الأراضي المصرية، ما يجعل مصر المشتري الوحيد المتاح للغاز الإسرائيلي، ويضيف أن مصر بدورها تحتاج إلى الغاز لتغطية العجز بين الإنتاج والاستهلاك، والذي قد يستمر لمدة عامين، مشيرًا إلى أن البديل سيكون استيراد الغاز المسال بأسعار مرتفعة جدًا تتراوح بين 10 و15 دولارًا للمليون وحدة حرارية.

ويشير العمدة إلى أن الصفقة تحقق لمصر فائدتين أساسيتين، إذ تغطي الجزء الأكبر للاستهلاك المحلي للمنازل والمصانع والصناعة المتأخرة، بينما يمكن توجيه الفائض إلى محطتي الإسالة في إدكو ودمياط لتصديره بأسعار أعلى، بما يدر عوائد إضافية. ويضيف أن الوضع يتحسن تدريجيًا مع زيادة الإنتاج المصري ودخول حقول قبرصية جديدة على خط الإنتاج وربطها بحقل “ظهر”، ما يجعل مصانع الإسالة تعمل بكامل طاقتها بحلول عام 2026.

ويؤكد العمدة أن إسرائيل هي الأكثر تضررًا من أي توقف محتمل للاتفاقية، حيث أن الشركة الأمريكية “شيفرون”، المالكة لـ55% من الحقل، أنفقت مبالغ ضخمة على عمليات التنقيب والاستخراج، وتضغط على الجانب الإسرائيلي لتسويق الغاز وبيعه، مشيرًا إلى أن مصر تمتلك بدائل عدة، منها أربع حاملات عملاقة لإعادة تسييل الغاز الطبيعي، وفائض محتمل في الشتاء القادم، ما يمنحها مرونة أكبر في إدارة الاتفاقية، بينما تظل إسرائيل مجبرة على التنفيذ.

 

نوصي للقراءة: الاقتصاد يتجاوز السياسة: نمو غير مسبوق في التجارة بين القاهرة وتل أبيب


كيف تبدلت خريطة الغاز في شرق المتوسط؟

قبل أقل من عقد، كانت مصر تُبشَّر بأنها على وشك أن تصبح قوة إقليمية صاعدة في مجال الطاقة، بعد اكتشاف حقل “ظهر” العملاق في عام 2015، والذي وُصف وقتها بأنه “تحول استراتيجي” في مستقبل البلاد الاقتصادي. ومع بداية الإنتاج في أواخر 2017، اتجهت القاهرة إلى تصدير الفوائض، وعقدت سلسلة من الاتفاقات لتسييل الغاز لصالح دول الجوار، بما في ذلك إسرائيل، التي رأت في البنية التحتية المصرية فرصة ثمينة لتجاوز عوائق التصدير.

لكن هذا المشهد بدأ في التبدل تدريجيًا مع تعقيدات الداخل وتغير معادلة الطاقة إقليميًا. بحلول 2023، بدأ إنتاج “ظهر” في التراجع، نتيجة ما وصفته تقارير فنية بنقص في الضخّ وانخفاض معدلات الاكتشافات الجديدة، مقابل ارتفاع في الطلب المحلي بسبب الزيادة السكانية ونمو الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. في المقابل، كانت إسرائيل تُسرّع خطواتها في تطوير حقولها البحرية، خاصة “ليفياثان” و”تمار”، اللذين أصبحا معًا مركز الثقل في خارطة الغاز الإسرائيلي.

ومع اتفاق 2018 بين شركة “ديليك” الإسرائيلية وشركة “دولفينوس” المصرية الخاصة، بدأت مصر في استيراد الغاز من إسرائيل بهدف إعادة تسييله وتصديره لأوروبا. في حينها، رُوّج للصفقة باعتبارها جزءًا من استراتيجية تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، لكن الواقع أن بعض الكميات كانت تُستخدم لتغطية العجز المحلي، في وقت كان فيه الحديث الرسمي يُركّز فقط على التصدير والربحية.

اليوم، ومع اشتداد أزمة الطاقة داخليًا في مصر، وظهور مؤشرات على انكماش إيرادات التصدير، أعاد الاتفاق الأخير تسليط الضوء على مفارقة لافتة: مصر، التي كانت من أوائل دول المنطقة اكتشافًا للغاز، تجد نفسها مضطرة للاعتماد على الغاز الإسرائيلي لتأمين احتياجاتها الأساسية. أما إسرائيل، فتحولت من مشترٍ للغاز المصري في العقد الماضي إلى المصدر الأساسي له الآن، في قلب علاقة اقتصادية معقّدة تتجاوز الاقتصاد لتدخل في عمق توازنات القوة والسياسة في شرق المتوسط.

تشير الأرقام إلى أن الغاز الطبيعي الإسرائيلي يمثل العمود الفقري لصادرات إسرائيل إلى مصر، بلغت صادرات غاز البترول وحدها 2.13 مليار دولار في عام 2023، ما يعادل 95% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى مصر. وتُعد هذه النسبة انعكاسًا لاعتماد مصر المتزايد على الغاز الإسرائيلي، خاصة في ظل التراجع الملحوظ في الإنتاج المحلي. فقد انخفض إنتاج مصر من الغاز بنسبة 15% بين يناير ويوليو 2024، ما دفع القاهرة إلى تكثيف وارداتها، التي بلغت 4.84 مليار متر مكعب خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بـ4.24 مليار متر مكعب في نفس الفترة من العام السابق.

ويصل حجم إنتاج مصر من الغاز إلى نحو 5 مليارات قدم مكعب حالياً، وتستورد من إسرائيل نحو مليار قدم مكعب يوميا، في حين يتراوح الاستهلاك بين 6.7 إلى 6.8 مليار قدم مكعب يوميا. هذا الاعتماد يتجاوز، وفق مراقبون الجانب الاقتصادي، ليطال الجوانب الاستراتيجية والأمنية، حيث أن صفقة الغاز الموقعة في 2020 بقيمة 15 مليار دولار مع شركات مثل “ديليك دريلينج” و”شيفرون” لم تكن مجرد صفقة طاقة بل جزء من مسار إقليمي أوسع لتعزيز التعاون بين تل أبيب وعدة عواصم عربية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن القاهرة شهدت تراجعًا ملحوظًا في إنتاجها المحلي من الغاز الطبيعي خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، حيث انخفض الإنتاج إلى نحو 30.19 مليار متر مكعب مقارنة بـ35.5 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها من عام 2023، بنسبة تراجع تقارب 15%. يرجع هذا الانخفاض بشكل رئيسي إلى استنزاف الحقول البحرية الكبرى مثل حقل “ظهر”، إضافة إلى تباطؤ عمليات التنقيب عن حقول جديدة وتأخر مشروعات التطوير المخطط لها، مثل حقل “ريفين”، والتي من المتوقع أن تدخل الخدمة بعد عام 2025.

أظهرت بيانات أكثر تفصيلًا تراجعًا سنويًا في إنتاج الغاز بنسبة 17%، حيث انخفض من 59.29 مليار متر مكعب عام 2023 إلى 49.37 مليار متر مكعب عام 2024. وبلغ التراجع في حوض البحر المتوسط وحده، الذي يمثل 72.8% من الإنتاج المصري، نحو 18%، مما أثر بشكل مباشر على قدرة مصر على تلبية الطلب المحلي. إذ يحتاج السوق المحلي 6.2 مليار قدم مكعب يوميًا، بينما لا يتجاوز الإنتاج 4.6 مليار. أدى ذلك إلى تحول مصر إلى مستورد صافٍ للغاز المسال لأول مرة منذ عام 2018، حيث استوردت 2.8 مليون طن خلال عام 2024، بينما تراجعت صادراتها من الغاز المسال بنسبة 84% إلى 0.54 مليون طن.

ساهم هذا التراجع في تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء المتكررة، نظرًا لاعتماد 60% من المزيج الكهربائي المصري على الغاز الطبيعي، لتعويض النقص، زادت مصر اعتمادها على الواردات الإسرائيلية، حيث بلغت الكميات المستوردة من إسرائيل نحو مليار قدم مكعب يوميًا مع توقعات بارتفاعها إلى 1.07 مليار قدم مكعب يوميًا بحلول يناير 2025. يُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى عام 2027، وفقًا للخطط الحالية لسد الفجوة بين العرض والطلب.

ما دلالات حديث نتنياهو؟

تقول -مديرة المركز الأوروبي الشمال إفريقي للأبحاث-، سارة كيرة في حديث إلى زاوية ثالثة إن التعاون بين مصر وإسرائيل في قطاع الغاز بدأ على مستوى الشركات من خلال عقود تجارية، دون أي التزام سياسي مباشر، موضحة أن كل العقود كانت تجارية بحتة، وأن أي تصور عن تدخل سياسي أو تحكم مباشر كان غير دقيق.

وتضيف: “بعد عام 2011، ومع البدء في ترسيم الحدود للتنقيب عن الغاز، كانت مصر على وعي بأن المنطقة ستشهد صراعات محتدمة حول الغاز، خاصة مع وجود أطراف دولية تسعى لإنشاء أنابيب متعددة لتصدير الغاز إلى أوروبا، ومن هنا، جاء تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط كآلية لضبط الملف بشكل محكم ولضمان عدم خروج الأمور عن السيطرة.” مشيرة إلى أن المنتدى لم يكن مجرد اجتماع سياسي، بل أداة لإدارة الموارد المكتشفة، حيث يمكن لكل طرف العمل على الحقول التي اكتشفها. مصر اكتشفت ثلاثة حقول، كان أهمها حقل “ظهر”، بينما اكتشفت إسرائيل خمسة حقول، لذلك تم وضع كل الأمور تحت إدارة المنتدى لضمان التوازن ومنع أي استغلال مباشر من طرف لآخر.

وتوضح الباحثة المعنية بالشأن الإقليمي والدولي أن العقود التجارية الموقعة ضمن المنتدى تمنح الدولة السيادية الحق في تعديل البنود أو إلغائها عند الضرورة، مع مراعاة شروط الطرفين، وهو ما يسمح بإدارة الملف بمرونة دون الإضرار بمصالح أي طرف.

وتلفت إلى أن الوضع الحالي يتمثل في بيع الغاز لإسرائيل بأسعار منخفضة نسبيًا لتسهيل التصدير إلى أوروبا، ما يضمن لمصر دخلًا بالدولار دون الإضرار بعقودها مع السوق الأوروبية، كما يتيح لها دعم الاستهلاك المحلي عند الحاجة، مؤكدة أن أي توقف طويل للغاز من شأنه أن يضر بإسرائيل أكثر من مصر، لعدم امتلاكها بنية تحتية مرنة لتسهيل التصدير من دون المخزون المخطط له، بينما مصر عملت على تأمين إمداداتها من مصادر بديلة، بما في ذلك قطر وإيران ضمن ترتيبات خاصة لم تُصرح رسميًا، لضمان استقرار الإمدادات المحلية وتوفير العملة الأجنبية.

إلى ذلك تشير سارة إلى أن العقود طويلة الأجل تمتد حتى عام 2040، وتتيح لإسرائيل التصدير من الفوائض فقط بعد تلبية احتياجات السوق المحلي، ما يجعل مصر ليست في أولوية التصدير أحيانًا. وتوضح أنه في يونيو 2025 أوقفت وزارة الطاقة الإسرائيلية حقول “ليفياثان” و”كاريش” بحجة التوتر الأمني مع إيران، ما أدى إلى قطع الصادرات إلى مصر والأردن بشكل فوري، ثم أعلنت لاحقًا عن تصدير الغاز من الفوائض فقط بعد تلبية احتياجات السوق المحلي، وهو ما وضع مصر في آخر الأولويات.

في الوقت ذاته تؤكد سارة أن أي انقطاع محتمل للغاز يحمل تداعيات مباشرة على مصر، من بينها تأثيره على الكهرباء والاستقرار الاجتماعي، إذ تعتمد الدولة بشكل كبير على الغاز لتوليد الكهرباء، ويؤدي توقفه إلى انقطاعات واضطرار الدولة لشراء وقود طارئ، كما يؤدي إلى نزيف العملة الصعبة لتعويض العجز، حيث اضطرت مصر لاستيراد نحو 60 شحنة غاز مسال في 2025 بتكلفة تقارب ثلاثة مليارات دولار، إلى جانب مشتريات المازوت، بالإضافة إلى تأثيره السلبي على الصناعات كثيفة الاستهلاك للغاز مثل الأسمدة والبتروكيماويات، وتراجع سمعة مصر كمركز للطاقة الإقليمية بسبب تحول محطات الإسالة في إدكو ودمياط من مصدر إلى مستورد.

كذلك تشير مديرة المركز الأوروبي الشمال إفريقي للأبحاث إلى أن أي توقف طويل أو إنهاء للعقود الطويلة المدى سيكون مكلفًا لإسرائيل اقتصاديًا ودبلوماسيًا، لأنها تعتمد على تصدير الغاز عبر بنية تحتية محدودة، وما دون ذلك يزيد تكلفة التأمين والتمويل لمشاريع الغاز لديها. لذلك، فإن التهديد الأكثر احتمالًا وفق سارة هو وقف متكرر قصير الأجل أكثر من الانقطاع الدائم، حيث يظل الملف أداة ضغط واستراتيجية سياسية، إلا أن إدارة مصر الذكية للعقود والتنسيق عبر المنتدى وضعت حدودًا واضحة لحماية مصالحها المحلية والإقليمية، مع الحفاظ على استقرار التصدير إلى أوروبا وتحقيق دخل بالدولار دون الإضرار بالاستقرار الداخلي.

 

نوصي للقراءة: توتر متصاعد: ما حدود التصعيد المحتمل بين مصر والاحتلال الإسرائيلي؟


لماذا تكبل حكومتنا يديها؟

في حديث سابق إلى زاوية ثالثة وصف -الخبير الاقتصادي ورئيس مجلس أمناء حزب التحالف الشعبي-، زهدي الشامي الصفقة بأنها “كارثة استراتيجية جديدة” و”تكبيل طويل الأمد لقرار مصر في مجال الطاقة”، معتبرًا أنها تمثل استمرارًا لسياسات خاطئة أدت إلى وضع البلاد تحت رحمة الغاز الإسرائيلي.

وقال الشامي إن السلطة الحاكمة كان يفترض بها أن تتعلم من أخطائها السابقة، حين وقّعت قبل سنوات صفقة لاستيراد الغاز من إسرائيل بقيمة 15 مليار دولار، ثم تم رفعها لاحقًا إلى 20 مليار، بدلاً من الاستثمار في تطوير حقول الغاز المصرية وتحقيق الاكتفاء الذاتي. موضحًا أن: “المفارقة أن هذه الحقول الإسرائيلية، التي نصدر منها اليوم، تقع جغرافيًا أقرب إلى المياه المصرية، وهناك شكوك مشروعة بأنها تحتوي على غاز مصري تمت السيطرة عليه بفعل غياب الحسم في ترسيم الحدود البحرية في وقت مبكر”.

وانتقد الشامي ما وصفه بـ”التناقض الصارخ” في السياسات، موضحًا أن اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي يقيد قدرتها على اتخاذ مواقف حازمة تجاه ما سماه “العدوان والبلطجة الإسرائيلية”، حيث يمكن لإسرائيل استخدام هذا الاعتماد كورقة ضغط سياسية واقتصادية في أوقات الأزمات. ويضيف: “بدلاً من أن تخطط الحكومة لإنهاء هذا الوضع المهين وإصلاح سياساتها في مجال الطاقة، نجدها اليوم توسع نطاق الاعتماد على نفس المصدر، وبصفقة أكبر بكثير، لتصل إلى 35 مليار دولار وتمتد حتى 2040″، معتبرًا أن ذلك “يرهن جزءًا من الأمن القومي المصري لاعتبارات السوق الإسرائيلية”.

واعتبر الخبير الاقتصادي أن الخطوة ليست مجرد اتفاق تجاري، بل “إعادة صياغة لعلاقات القوة بين القاهرة وتل أبيب على أسس تجعل الأخيرة شريكًا إجباريًا في معادلة الطاقة المصرية”. ووجه تساؤلات حادة: “ما معنى أن نربط احتياجاتنا من الطاقة بمصدر واحد في دولة تحتل أرضًا عربية وتخوض حربًا مستمرة على حدودنا؟ وأي منطق يجعلنا نضاعف الاعتماد بدل أن نبحث عن بدائل؟”

وقال: “إن ما يحدث ليس مجرد خطأ في التقدير، بل جريمة كبرى بحق مصر وأمنها القومي، لأنها تضعنا في وضع التابع لا الشريك، وتلزمنا بسياسات قد تتعارض يومًا مع مصالحنا الوطنية. إنه عبث سياسي واقتصادي سيدفع المصريون ثمنه لعقود قادمة”.

تاريخ اتفاقيات الغاز بين مصر وإسرائيل

شهدت علاقات الغاز بين مصر وإسرائيل تطورات كبيرة وتحولات نوعية بين 2005 و2025، وتحولت خلالها مصر من مصدر للغاز إلى إسرائيل إلى مستورد رئيسي منه، مع توقيع عدة اتفاقيات استراتيجية أثارت جدلًا داخليًا وإقليميًا.

البداية في عام 2005، وقعت مصر عبر الشركة القابضة للغاز اتفاقية مدتها 20 عامًا لتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز الطبيعي لإسرائيل وبسعر تراوح بين 0.70 و1.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية (أقل من سعر التكلفة). بدأ التنفيذ الفعلي للتصدير في فبراير 2008 عبر خط العريش–عسقلان، هذه الاتفاقية أثارت احتجاجات شعبية وقضائية واسعة في مصر بسبب الشروط التسعيرية وغياب الشفافية، واستمرت حتى الثورة المصرية عام 2011.

وعقب الثورة، تعرض خط الأنابيب لهجمات متكررة، وفاقم ذلك الأزمة بين البلدين، لتنتهي الاتفاقية رسمياً في 2012 بقرار من الجانب المصري على خلفية الظروف الأمنية والنزاعات على الأسعار، وتوقفت صادرات الغاز المصري لإسرائيل تمامًا.

في 2018، تغير المشهد جذرياً عندما وقعت القاهرة اتفاقية مع شركات إسرائيلية (ديليك/نوبل إنرجي) لاستيراد الغاز من حقلي “تمار” و”ليفياثان” بقيمة 15 مليار دولار ولمدة 10 سنوات. وفي يناير 2020 دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ وبدأ ضخ الغاز الإسرائيلي للسوق المصرية، بهدف تسييله في مصر وإعادة تصديره للأسواق الأوروبية والآسيوية واستغلال البنية التحتية المصرية.

في أغسطس 2025 تم توقيع أكبر صفقة في تاريخ العلاقات، تقضي بتوريد 130 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي حتى عام 2040 بقيمة 35 مليار دولار، مع ترتيبات لزيادة الكميات عبر خطوط جديدة ودعم طموحات مصر كمركز إقليمي للطاقة. كما وقعت مصر اتفاقيات ثلاثية مع إسرائيل والاتحاد الأوروبي في 2022 لتصدير الغاز الإسرائيلي للأوروبيين بعد تسييله في مصر.

بهذا، يبلغ حجم العلاقات في قطاع الغاز بين مصر وإسرائيل ذروته في 2025 من حيث الكمية والقيمة، مع تحول مصر إلى مستورد وشريك إقليمي حيوي في تجارة الغاز الإسرائيلي.

وأخيرًا، رغم محاولات إسرائيل توظيف الصفقة كورقة ضغط لفرض أجندتها السياسية، يبقى الموقف المصري راسخًا في رفض أي سيناريو لتهجير الفلسطينيين، مع تمسكه بخيارات بديلة في قطاع الطاقة تتيح له إدارة الملف بمرونة أكبر. وبين المصالح الاقتصادية والحسابات الاستراتيجية، يتضح أن معركة الغاز في المنطقة لن تكون مجرد أرقام أو عقود، بل امتدادًا لصراع طويل على النفوذ والهوية والسيادة.

 

 

 

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search