close

من يملك كورنيش النيل.. الدولة أم الشعب؟

في ظل تسارع الحكومة لطرح أراضي كورنيش النيل في مزادات استثمارية، يكشف هذا التقرير كيف تُنزع الملكيات العامة وتُهدم المسارح وتُحجب الضفة عن المصريين، وسط غياب الشفافية وتضارب المصالح بين التنمية والحق في المدينة

بسنت نور الدين

في أغسطس الماضي، وجّه رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، بسرعة إجراء حصر شامل ودقيق للأراضي الفضاء غير المستغلة المطلة على كورنيش النيل، وتقييمها ووضع خطة واضحة لاستغلالها الاستثماري بما يحقق عائدًا اقتصاديًا مستدامًا للدولة، وذلك ضمن استراتيجية الحكومة لتعظيم الاستفادة من الأصول العامة، من خلال إدارة احترافية وشراكات مع القطاع الخاص.

واستعرض مجلس الوزراء الحصر المبدئي للأراضي الواقعة على كورنيش النيل في أحياء الساحل، وروض الفرج، وبولاق أبو العلا، وغرب القاهرة، ودار السلام، والمعصرة، وحلوان، والتبين، متناولًا تفاصيل مواقعها ومساحاتها، وجهات ولايتها، والمخططات التفصيلية المعتمدة لها، والوضع القانوني لكل قطعة، تمهيدًا لإعدادها كفرص استثمارية متكاملة قابلة للطرح.

وأكد مدبولي أن الحكومة تستهدف تعظيم القيمة المضافة من الأصول غير المستغلة، سواء عبر مشروعات تطوير عمراني أو استثمارات سياحية وخدمية، بما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني ويعزز موارد الخزانة العامة.

هذا القرار أعاد إلى الواجهة قضية أراضي طرح النهر، إذ كانت إدارة مشروعات أراضي القوات المسلحة قد أصدرت، في أكتوبر من العام الماضي، خطابات رسمية بناءً على توجيهات عليا، تقضي بعدم تجديد عقود حق الانتفاع لكافة أراضي النهر الممتدة من شبرا إلى حلوان. وشمل القرار منشآت عدة منها: كلية السياحة والفنادق، المسرح العائم، نادي شرطة المسطحات المائية، حديقة أم كلثوم، ونوادٍ أخرى، موضحة أن هذه الأراضي مملوكة للدولة، وكانت مخصصة للانتفاع المؤقت، مع التشديد على ضرورة إخلائها فورًا.

ورغم هذا التوجه، صرّح وزير الموارد المائية والري، هاني سويلم، في 20 سبتمبر من العام الماضي، باستمرار التعاون بين الوزارة وجهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة بشأن إصدار التراخيص الخاصة بأراضي طرح النهر من شبرا الخيمة حتى حلوان، مع الالتزام بالاشتراطات القانونية المعمول بها، مشيرًا إلى أن التعاون بين الجهات المعنية أدى إلى إزالة العديد من حالات الردم المخالفة في تلك المسافة.

وفي السياق ذاته، تلقت وزارة الثقافة بتاريخ 28 سبتمبر من العام الماضي كتابًا رسميًا برقم 14/527413 من جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، يتضمن قرار إلغاء وعدم تجديد عقود الانتفاع بجميع أراضي طرح النهر الواقعة ضمن المنطقة المقرر تطويرها لإنشاء مستشفيات قصر العيني بجزيرة الروضة، ومن ضمنها المسرح العائم “فاطمة رشدي” التابع للبيت الفني للمسرح. وطالب الخطاب، الموقّع من اللواء أركان حرب محمد مصطفى رضوان، باتخاذ ما يلزم لنقل كافة متعلقات المسرح خلال أسبوع من تاريخه، وتسليم الأرض للجنة المشتركة من وزارة الموارد المائية والري والجهاز العسكري، مع سداد المستحقات المالية للدولة حتى تاريخ 30 سبتمبر.

وفي أكتوبر الماضي، تقدّمت النائبة البرلمانية ضحى عاصي، عضو لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب، بطلب إحاطة إلى رئيس الوزراء ووزراء الثقافة والتعليم العالي والتنمية المحلية والموارد المائية والري، بشأن إزالة المسرح العائم في منيل الروضة. كما طالبت بكشف مصير عدد من المسارح الأخرى، مثل مسرح السلام الحديث ومسرح المتروبول، سواء تمهيدًا للبيع أو الإيجار.

وفي ظل غياب التصريحات الرسمية وتجاهل التغطية الإعلامية، تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، خلال أغسطس الجاري، صورًا لهدم مسرح فاطمة رشدي، المعروف باسم “المسرح العائم”، والذي يُعد من أبرز معالم التراث المسرحي في مصر، والمسرح الوحيد العائم على نهر النيل في إفريقيا والشرق الأوسط. ويرجع تاريخ إنشائه إلى ستينيات القرن الماضي، ويضم خشبتين للعروض: الكبرى تسع 480 مشاهدًا، والصغرى 250 متفرجًا، وقد أُعيد افتتاحه عقب تطويره في عام 2019.

ويُعرّف القانون رقم 147 لسنة 2021 الخاص بالموارد المائية والري “أراضي طرح النهر” بأنها الأراضي أو الجزر التي يغيّر النهر مجراها أو ينكشف عنها، سواء داخل حدود حرم النهر أو خارجه. ووفقًا للقانون، يمتد حرم النهر حتى 80 مترًا خارج خطي التهذيب من جانبي النهر، وكذلك 80 مترًا داخل الجزر من خط التهذيب، وذلك في المسافة من خلف خزان أسوان وحتى المصب، باستثناء المناطق ذات خطوط التنظيم المعتمدة، حيث يُعد الكورنيش العام هو حد الحرم.

 

نوصي للقراءة: استثمار أراضي النيل: هل يُدفع التعليم والثقافة ثمنًا للتطوير؟

طرح أراضي الكورنيش في مزادات استثمارية

في أول تحرك رسمي عقب توجيهات رئيس الوزراء، أعلنت إدارة الاستثمار بمحافظة المنيا عن طرح فرصة استثمارية جديدة، تتمثل في قطعة أرض محاطة بسور، تقع بجوار كوبري النيل عند مدخل شارع الكورنيش بمدينة المنيا. وأوضحت الإدارة أن الأرض صالحة لإقامة أنشطة رياضية وترفيهية وتجارية، مؤكدة أن الاستثمار سيتم وفق نظام حق الانتفاع، بهدف جذب مستثمرين جادين، وتوفير فرص استثمارية آمنة تحقق عائدًا اقتصاديًا مناسبًا.

وكان السفير نادر سعد، المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء، قد أعلن في السادس من أبريل 2023 عن طرح عدد من الأصول المطلة على نهر النيل، داخل نطاق محافظتي القاهرة والجيزة، للاستثمار. وتشمل هذه الأصول أراضي ومباني تابعة لجهات حكومية لم تنتقل بعد إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وقد نُقل عدد منها إلى صندوق مصر السيادي، في إطار جهود الدولة لزيادة الطاقة الفندقية، تلبيةً لطلب المستثمرين على هذا النوع من المشروعات.

وفي هذا السياق، أعربت الخبيرة في التخطيط الاستراتيجي والتسويق الدولي، سالي صلاح، عن قلقها مما وصفته بـ”أكبر عملية إعادة توزيع لملكية أراضي كورنيش النيل في تاريخ مصر”، مشيرة إلى أن ما يجري يتجاوز كونه تطويرًا عمرانيًا، ليصل إلى حد الطرح الشامل للواجهة النيلية في مزادات استثمارية، تمتد من القاهرة والجيزة والقليوبية حتى المحافظات الساحلية.

وأوضحت في بوست على فيسبوك أن صلاحيات وزارة الموارد المائية والري، التي كانت الجهة الرسمية المعنية بإدارة أراضي الكورنيش، جرى سحبها مؤخرًا وتحويلها إلى جهتين رئيسيتين: الشركة الوطنية لحماية الشواطئ والمسطحات المائية التابعة للقوات المسلحة، التي تتولى عمليات البيع وتحصيل العوائد، وصندوق مصر السيادي، الذي يمتلك حاليًا الأراضي ذات الطبيعة السياحية والفندقية.

وأضافت أن الأراضي المعروضة، والتي تقدر قيمتها الرسمية بعشرات المليارات من الدولارات وربما تتجاوز ذلك وفقًا لبعض التقديرات، تشمل مساحات واسعة في مناطق مثل روض الفرج، بولاق أبو العلا، دار السلام، حلوان، والمعصرة، فضلًا عن أراضٍ ساحلية في مواقع استراتيجية مثل رأس الحكمة، رأس شقير، ورأس بناس.

وبحسب صلاح، فقد خرجت الاجتماعات الحكومية الأخيرة، برئاسة مصطفى مدبولي، بتوجيهات واضحة للإسراع في عمليات الحصر والتقييم والطرح، دون إعلان عن خطة تنموية متكاملة، أو إشراك للرأي العام في صياغة القرارات. وأشارت إلى أن المشروعات المقترحة تتركز حول مطاعم وكافيهات وأبراج سكنية وفنادق، بما يكرّس تحويل الكورنيش من فضاء عام مفتوح إلى استثمارات مغلقة لا تُتاح للمواطنين.

وانتقدت الخبيرة ما اعتبرته “تهيئة مسبقة للصفقة”، مشيرة إلى اقتلاع مساحات خضراء وردم أجزاء من نهر النيل، لتنفيذ مشروعات مثل “ممشى أهل مصر”، الذي حجب رؤية النهر لمسافة تقدر بنحو 40 كيلومترًا، محولًا الواجهة النيلية إلى منشآت تجارية مستأجرة. ووصفت هذه الخطوات بأنها تمثل مخالفة للدستور والقانون، خاصة في ظل ما تواجهه البلاد من أزمة مائية بسبب سد النهضة.

كما ربطت صلاح هذه السياسات بواقع الدين العام، الذي ارتفع – وفق قولها – من نحو 65 مليار دولار إلى 160 مليار دولار خلال سنوات قليلة، على الرغم من العوائد الناتجة عن صفقات كبرى مثل رأس الحكمة. وأكدت أن بيع الأصول العامة لسداد جزء من الديون لم يوقف تضخم الدين، ولم ينعكس إيجابيًا على حياة المواطنين أو مستويات معيشتهم.

وقدّمت نماذج لمنشآت ثقافية وخدمية، قالت إنها عرضة للهدم أو الإزالة ضمن هذه الخطة، ومنها: المسرح العائم، نادي أعضاء هيئة التدريس، كلية السياحة والفنادق، نادي القضاة، حديقة أم كلثوم، ومسرح فاطمة رشدي، معتبرة أن ما يجري يُفضي إلى تفريغ النيل من هويته المعمارية والثقافية.

واختتمت تصريحاتها بالقول إن ما يحدث يمثل “بيعًا للتاريخ والحاضر والمستقبل”، مشيرة إلى أن ضفاف النيل، التي لطالما كانت فضاءً عامًا مجانيًا لكل المصريين، تتحول تدريجيًا إلى واجهة استثمارية مغلقة، تُدار بمنطق “التسريع في البيع والتصفية” بدلًا من أن تستند إلى رؤية لبناء الدولة أو تنمية الاقتصاد الإنتاجي.

وكان جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، المنشأ بالقرار الجمهوري رقم 531 لسنة 1981، قد أعلن في عام 2023، عن طرح قطع أراضي على ضفاف النيل “طرح النهر”، لاستغلالها في أنشطة سياحية، بالمزاد العلني، في الثانية عشر من ظهر يوم 20 مارس 2023 ، بمقر الجهاز في مدينة نصر، مبينًا أن الأراضي تقع بمواقع مختلفة داخل القاهرة والجيزة بمناطق (جزيرة الزمالك، والمعادي، وجزيرة المنيل، ومصر القديمة، وطرة، ودار السلام، والمعصرة، وإمبابة)، وأنها تصلح كمراسي سياحية عائمة ومطاعم وكافيتريات.

وسبق أن نشر الجهاز، إعلانًا في مجموعة من الصحف الحكومية، في 20 ديسمبر 2022، طرح فيه قطع أراضي مميزة على ضفاف النيل، للمزاد العلني، بنظام الانتفاع السنوي، متضمنًا (الزمالك، والعجوزة، والدقي، وجاردن سيتي، والمنيل، والمعادي، والمعصرة، والمنيب، وإمبابة، والوراق).

 

نوصي للقراءة: موانئ مصر بيد منافسها: كيف تمددت الإمارات من السخنة إلى بورسعيد؟


فقدان الفضاءات العامة المفتوحة

المهندس يحيى الزيني، مؤسس ديوان المعماريين وعضو لجنة شباب المعماريين بجمعية المعماريين المصريين، أكد أن ضفاف الأنهار هي في الأساس فراغات عامة لسكان المدن، ولا ينبغي توجيهها للاستثمار العقاري أو السياحي المكثف، مشددًا على أن الاستخدام الأمثل لها يتمثل في الحدائق والمتنزهات المفتوحة والملاعب العامة، بما يضمن استفادة جميع المواطنين من هذا المورد الطبيعي.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “إن توجه الدولة إلى استغلال هذه الأراضي عبر إنشاء منشآت استثمارية أو تحويلها إلى مطاعم وكافيهات أو أبراج سكنية ليس الاستخدام الأمثل، أي تدخل من هذا النوع يُفقد نهر النيل وظيفته الأساسية كواجهة طبيعية مفتوحة للجميع، والحد الأقصى المقبول هو وجود منشآت خفيفة تخدم المتنزهات والفراغات العامة، دون أن تتحول الضفاف نفسها إلى مشروعات استثمارية مغلقة”.

وفيما يتعلق بقرارات نزع الملكية أو توسعة الطرق على الكورنيش، أوضح الزيني إن الطرق الموازية للأنهار يجب أن تكون محلية منخفضة السرعة، وأن أي توسعات كبيرة تفصل بين المدينة وموردها الطبيعي تعد توجها غير صحيح عمرانيًا وبيئيًا، مؤكدًا أن استغلال ضفاف النيل في إنشاء طرق سريعة أو استثمارات مغلقة يعمق عزلة السكان عن النهر بدلاً من دمجه في حياتهم اليومية.

ويشير مؤسس ديوان المعماريين، إلى أن الفراغات العامة في مصر شهدت تراجعًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة، موضحًا أن أغلب الحدائق أصبحت محاطة بالأسوار وتحتاج إلى تذاكر دخول، وهو ما يناقض مفهوم الفراغ العام الذي يجب أن يظل مفتوحًا ومجانيًا. واعتبر أن فرض رسوم على المواطنين يتجاهل كونهم بالفعل يدفعون ضرائب عامة وعقارية يفترض أن تُوجَّه لصيانة وتطوير هذه المساحات.

وينتقد الزيني الاتجاه المتزايد لتحويل الأراضي العامة إلى أندية خاصة أو مشروعات استثمارية بفكرة “حق الانتفاع”، معتبرًا أن هذه الرؤية تحرم المواطنين من حقهم في الطبيعة وتعيد إنتاج نموذج النخبوية العمرانية، حيث تُحجب الأنهار والبحار خلف أسوار النوادي والكافيهات، مؤكدًا على أن الضفاف النهرية يجب أن تبقى فضاءات عامة مفتوحة، تعكس العدالة العمرانية وتخدم جميع الفئات الاجتماعية، معتبرًا أن أي رؤية خلاف ذلك تُختزل في مجرد نظرة استثمارية قصيرة المدى لا تحقق المصلحة العامة.

فيما يؤكد الدكتور عباس الزعفراني، عميد كلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، أن استغلال الأراضي والعقارات المطلة على كورنيش النيل يجب أن يتم وفق رؤية متوازنة تحفظ حق الدولة في الاستثمار دون أن تحرم المواطنين من حقهم التاريخي في الوصول إلى النيل والاستمتاع به.

ويوضح الزعفراني أن كلية التخطيط العمراني أعدّت منذ سنوات مشروعًا لتخطيط ضفاف النيل في القاهرة الكبرى، كان هدفه الأساسي ضمان وجود فراغات عامة مفتوحة على النيل، بحيث لا تقل نسبة المساحات المتاحة للجمهور عن 25% من طول الكورنيش.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “هذه المساحات ينبغي أن تكون مفتوحة ومجانية للجميع، مع إمكانية توفير خدمات مدفوعة اختيارية مثل المطاعم والكافيهات، لكن دون أن تتحول الرؤية إلى امتياز طبقي يحرم الشرائح غير القادرة من التمتع بالنيل”.

ويشدد الزعفراني على أن أي أنشطة استثمارية على النيل يجب ألا تحجب الرؤية، موضحًا أن منسوب الشارع أعلى من سطح المياه بثلاثة إلى خمسة أمتار، وهو ما يسمح بتشييد أنشطة خدمية منخفضة الارتفاع تحافظ على المشهد البصري للنهر. وأكد أن حجب الرؤية سواء عن المارة على الكورنيش أو عن سكان العمارات المطلة على النيل يمثل إضرارًا بحقوق المواطنين الذين دفعوا قيمة “الإطلالة” ضمن أسعار وحداتهم السكنية.

وفيما يتعلق بشكل الاستثمار الأمثل، يعتبر الزعفراني أن الفنادق تأتي في المرتبة الأولى نظرًا لعائدها الاقتصادي المرتفع والمستدام، يليها المباني الإدارية الكبرى التي تمنح الشركات العالمية قيمة إضافية بفضل موقعها على النيل، أما الاستثمار العقاري في صورة أبراج سكنية أو كمبوندات فيرى أنه ليس الأفضل، لأنه يدر عائدًا سريعًا من البيع ثم يتوقف، على عكس الفنادق والمكاتب التي تحقق عائدًا سنويًا مستمرًا.

كما يدعو عميد كلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، إلى تخصيص مساحات خضراء وحدائق عامة على ضفاف النيل لتعزيز القيمة الجمالية وزيادة الاستفادة السياحية، مؤكدًا أن هذه المساحات الخضراء تجعل من الإطلالة على النيل أكثر قيمة، وتخدم في الوقت نفسه المواطنين والسائحين على حد سواء. وأوضح أن وجود مطاعم وكافيهات في الطوابق الأرضية أو داخل الحدائق يعد إضافة طبيعية تدعم النشاط السياحي والخدمات الفندقية والإدارية.

ويختم الزعفراني حديثه معنا بالتأكيد على أن النموذج الأمثل هو الذي يوازن بين الاستثمار السياحي والإداري من ناحية، وحق المواطنين في الوصول المفتوح إلى النيل من ناحية أخرى، مشددًا على أن “الكورنيش يجب أن يبقى ملكًا عامًا للجميع، وأن تظل الرؤية البصرية للنهر متاحة دون قيود أو حجب”.

 

نوصي للقراءة: نزيف الهيئات الاقتصادية المصرية: الحكومة تدعم الخسائر وتُهمِل الإصلاح

تحقيق التوازن 

يجب أن تقوم أي خطة لاستغلال أراضي كورنيش النيل على تحقيق التوازن بين متطلبات الاستثمار وحق المواطنين في الانتفاع العام بالنيل، بحسب الدكتور علاء العسكري، أستاذ التأمين والعلوم الاكتوارية بجامعة الأزهر، والذي يشدد على أن النهر ليس مجرد مصدر للمياه، بل هو أيضًا مورد طبيعي للتنزه والاستمتاع البصري يجب أن يبقى متاحًا للجميع دون قيود مالية أو اجتماعية.

ويوضح العسكري أن فرض رسوم على دخول بعض المساحات المطلة على النيل قد يكون مقبولًا بشكل مرحلي إذا كان يهدف إلى تمويل خدمات أو صيانة، لكنه لا ينبغي أن يكون قاعدة عامة تحرم المواطنين من حقوقهم الاجتماعية، مؤكدًا ضرورة تخصيص مساحات مفتوحة مجانية بالكامل تتيح لكل الفئات التمتع بالكورنيش، على غرار ما يحدث في الشواطئ العامة التي تُترك بلا مقابل إلى جانب الشواطئ السياحية المدفوعة.

يقول لـ “زاوية ثالثة”: “الاستثمار حول النيل لا يجب أن يُختزل في أنشطة استهلاكية مثل الكافيهات والمطاعم والفنادق العائمة أو المشروعات العقارية السكنية، لافتًا إلى أن هذه الأنشطة تحقق عوائد سريعة ومؤقتة، لكنها لا توفر قيمة اقتصادية مضافة على المدى الطويل”، منتقدًا الاعتماد على هذا النوع من الاستثمار بوصفه “استسهالًا” لا يخدم الاستراتيجية الاقتصادية للدولة.

ويبيّن العسكري أن الأراضي المعروفة بـ”طرح النهر” هي في الأصل ملكية عامة للدولة، يمنع البناء عليها أو استغلالها إلا في أضيق الحدود، لتظل مفتوحة أمام المواطنين، معتبرًا أن النموذج الأمثل يتمثل في حصر الاستثمار العقاري والخدمي في الجهة المقابلة للكورنيش، كما هو الحال في الإسكندرية حيث تبقى الواجهة البحرية عامة بينما تتركز العمارات والأنشطة الاستثمارية في الجهة الداخلية.

ويضيف: “قضية الاستثمار في مصر أوسع من النيل وحده، مشيرًا إلى أن هناك مساحات ضخمة غير مستغلة مثل أسوار الجامعات والوزارات والهيئات الاقتصادية، يمكن أن تحقق عوائد كبيرة إذا أعيد استثمارها على غرار سور نادي الزمالك الذي يمثل نموذجًا ناجحًا في تحقيق دخل ثابت ومستمر”.

ويؤكد العسكري أن مصر بحاجة إلى إعادة ترتيب أولويات الاستثمار، بحيث تُوجَّه الجهود نحو مشروعات تحقق قيمة مضافة حقيقية مثل الصناعة والتكنولوجيا، مع الاستثمار في رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب لتخريج كوادر قادرة على المنافسة عالميًا، كما يضرب مثالًا بصناعة الهواتف الذكية التي تحقق أرباحًا تفوق ميزانيات دول بأكملها، معتبرًا أن امتلاك مصر لشركة تكنولوجية واحدة بهذا الحجم كفيل بحل أزمات الاقتصاد والعملة الصعبة.

وفي ختام تصريحاته لنا، يؤكد أن الرؤية الاقتصادية يجب أن تنتقل من الاستثمار الاستهلاكي قصير المدى إلى الاستثمار الإنتاجي طويل المدى، بما يضمن عوائد مستدامة للدولة ويحافظ في الوقت نفسه على الحقوق الاجتماعية للمواطنين في الموارد الطبيعية العامة مثل النيل.

وبالتزامن مع توجيهات رئيس الحكومة أعلنت الهيئة المصرية العامة للمساحة، أنها ستقوم بعرض ونشر الكشوف والخرائط المشتملة على البيانات والتعويضات المقدرة لعدد من الممتلكات الخاصة بمشروع تطوير وتوسعة الطريق الدائري بنطاق محافظة القاهرة، ابتداءً من كورنيش النيل حتى الأوتوستراد، خلال الفترة من 1 حتى 30 سبتمبر 2025.

وجاء  إعلان الهيئة تطبيقًا لقرار المنفعة العامة رقم 4505 لسنة 2022 والمنشور بالجريدة الرسمية بالعدد 50 (ج) مكرر بتاريخ 18-12-2022 والذي يقضي باعتبار مشروع تطوير وتوسعة الطريق الدائري ابتداءً من كورنيش النيل حتى الأوتوستراد والذي يتضمن حوض خارج الزمام بدون أحواض ناحية أثر النبي – مصر القديمة – محافظة القاهرة كمرحلة ثانية من المشروع الذي يأخذ رقم 444 طرق، من أعمال المنفعة العامة، وطبقًا للمادة السابعة وتعديلاتها من القانون 10 لسنة 1990 بشأن نزع الملكية للمنفعة العامة وتعديلاته بالقانون 24 لسنة 2018، و187 لسنة 2020.

 

صورة من إعلان الهيئة المصرية العامة للمساحة

 

نوصي للقراءة: خصخصة الصحة: مستثمر يفوز.. حكومة تربح ومواطنون خارج اللعبة

أزمة غياب الشفافية

وحول قضية أراضي طرح النهر وتوجيهات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بحصر الأراضي غير المستغلة على كورنيش النيل وطرحها للاستثمار، ترى النائبة البرلمانية الدكتورة/ مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، أن الأزمة الأساسية تكمن في غياب الشفافية، موضحة أن هناك العديد من التساؤلات المفتوحة دون إجابة، من بينها: من سيستفيد من هذه الأراضي؟ وأين ستذهب عوائد استثمارها؟ وكيف سيتم توجيهها؟

وفي أكتوبر العام الماضي، تقدمت النائبة مها عبد الناصر،  بطلب إحاطة بشأن القرار الخاص بسحب جميع أراضي طرح نهر النيل التابعة للدولة بنظام حق الإنتفاع من منطقة شبرا وحتى منطقة حلوان وإخلاء ما عليها من منشآت.

وتعليقًا على ذلك توضح لـ”زاوية ثالثة”: “سبق أن تقدمت بطلب إحاطة بخصوص بعض المناطق بجوار القصر العيني، والتي كانت تضم كلية السياحة والفنادق والمسرح العائم، المسرح العائم أزيل بالفعل بينما لم أتلق ردًا رسميًا بشأن مصير كلية السياحة والفنادق، وكل من غياب المعلومات الدقيقة وعدم إعلان الإجراءات بشفافية يثيران مخاوف المواطنين ويفتحان باب القلق بشأن ما يتم على أرض الواقع”.

وفيما يتعلق بقرارات نزع الملكية المتسارعة على كورنيش النيل، لفتت النائبة إلى وجود توسع واضح في قرارات النزع، مشيرة إلى أن هذه الإجراءات تقترن بمشكلات أخرى تخص التعويضات، سواء من حيث تأخر صرفها أو عدم عدالتها، الأمر الذي يترك شكاوى من المتضررين بعدم قدرتهم على شراء عقارات بديلة بالمبالغ التي يحصلون عليها.

وحول ما أُثير عن إمكانية شمول خطة الاستثمار لأراضٍ يمتد نطاقها خارج القاهرة، قالت عبد الناصر إنها لا تملك معلومات مؤكدة بهذا الشأن، مؤكدة أن غياب الرؤية الواضحة يحول دون قدرة المواطنين على إبداء موقف محدد.

كما أوضحت أن غالبية الأراضي المطروحة على النيل هي في الأساس أراضٍ تابعة للدولة ووزارة الري سابقًا، وأن الإشكالية ليست في تبعيته لأي جهة حكومية بعينها إنما في كيفية استغلالها، مشددة على أن الاستثمار في هذه الأراضي يجب أن يتم وفق تخطيط عمراني عادل يضمن عدم حرمان المواطنين من حقهم في رؤية النيل والتجول على الكورنيش، على غرار ما حدث مع البحر حين حُجب عن الناس لصالح منشآت سياحية وتجارية.

وتؤكد النائبة البرلمانية على أن المطلوب هو أن تطرح الحكومة خططًا واضحة للرأي العام، تضمن مشاركة المواطنين في فهم ما يجري وحماية حقهم في الفضاء العام، بعيدًا عن استغلال كل مساحة لصالح مشروعات استثمارية مغلقة.

ختامًا، يمكن القول إن ما يجري على كورنيش النيل وأراضي طرح النهر يفتح الباب أمام جدل واسع يتجاوز حدود الاستثمار إلى صميم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، بين العوائد الاقتصادية وحق الناس في الفضاء العام.

 وفي الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة أن الهدف هو تعظيم الاستفادة من الأصول وتحقيق عائد مستدام، يرى خبراء العمران والاقتصاد ونواب البرلمان أن غياب الشفافية، وغياب خطة واضحة توازن بين الاستثمار والعدالة العمرانية، قد يؤدي إلى فقدان المصريين أحد أهم مواردهم الطبيعية والتاريخية. 

وبينما تتسارع وتيرة قرارات النزع والطرح في مزادات استثمارية، تبقى الأسئلة الجوهرية معلّقة: من المستفيد الحقيقي؟ كيف ستدار هذه الموارد؟ وهل سيبقى النيل فضاءً عامًا مفتوحًا، أم يتحول تدريجيًا إلى واجهة استثمارية مغلقة تحجب النهر عن سكانه؟.. كلها أسئلة معلّقة بانتظار إجابات رسمية، قد تحدد مستقبل كورنيش النيل كرمز للذاكرة الجمعية وحق أصيل لكل المصريين.

Search