خلال السنوات الخمس الأخيرة، اتّخذت الدولة المصرية مسارًا اقتصاديًا قائم على تطوير الأصول الصناعية والإنتاجية المملوكة لها بتمويل عام، ثم إسناد إدارتها وتشغيلها إلى مستثمرين محليين أو أجانب تحت مظلة “الشراكة وتحقيق الكفاءة التشغيلية”.
في هذا السياق، أعلنت وزارة قطاع الأعمال العام في بيان رسمي نهاية أكتوبر الماضي عن استقبال وزيرها المهندس محمد شيمي لرئيس مجموعة “أروجلو” التركية القابضة، لبحث فرص التعاون في إدارة وتشغيل عدد من مصانع الغزل والنسيج الجديدة التي أنفقت الدولة مليارات الجنيهات على تطويرها خلال الأعوام الأخيرة.
وأوضح البيان أن اللقاء تناول “نماذج الشراكة الممكنة” بين المجموعة التركية والشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج، مشيرًا إلى قيام وفد فني من المجموعة بزيارة ميدانية إلى شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، أحد أضخم وأقدم المصانع التي شملها مشروع التطوير القومي للغزل والنسيج.
ويرى مراقبون أن لقاء “أروجلو” لم يكن سوى حلقة جديدة في سلسلة متصاعدة من التوجهات الحكومية التي تجمع بين التمويل العام والاستثمار الخاص، حيث تتولى الدولة ضخّ الأموال العامة في عمليات التحديث وإعادة الهيكلة، ثم تفتح الباب أمام مستثمرين محليين أو أجانب لإدارة الأصول المطوّرة.
وبدأت الحكومة المصرية في تطوير شركات الغزل والنسيج بتكلفة 56 مليار جنيه في مراحله الثلاثة، في ديسمبر ٢٠٢٤، ومؤخرًا، بدأت وزارة قطاع الأعمال بالفعل مفاوضات مع شركات أجنبية لتشغيلها. النهج ذاته تكرر في قطاعات أخرى: من الفنادق التاريخية التي أعيد تأهيلها ثم أُسند تشغيلها إلى سلاسل عالمية، إلى الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب التي مثّلت في يوم ما ركيزة الصناعة الوطنية، قبل أن يُعاد هيكلتها وتفقد الدولة السيطرة عليها تدريجيًا.
نوصي للقراءة: هل تخدعنا مؤشرات التعافي؟ ما تكشفه أرقام التعداد الاقتصادي السادس عن هشاشة النمو في مصر

تطوير أم خصخصة؟
تأتي خطة الدولة لإسناد بعض المصانع والشركات العامة إلى مستثمرين من القطاعين المحلي والأجنبي، بعد عمليات تطوير شرعت الحكومة في تنفيذها بتكلفة بلغت مليارات الجنيهات، في إطار ما تصفه بـ”إعادة هيكلة قطاع الغزل والنسيج“. فخلال السنوات الأخيرة، شهدت شركات الغزل الحكومية عمليات تحديث شاملة للمنشآت والماكينات والبنية التحتية، أعقبها بدء خطوات فعلية لطرح بعض تلك الكيانات أمام الشراكة الاستثمارية أو التشغيل بنظام الإدارة المشتركة.
ففي مدينة المحلة الكبرى، افتتحت الحكومة المصرية في يوليو 2024، مصنع “غزل 1” الذي وصفه المسؤولين بالأكبر في الشرق الأوسط، على مساحة نحو 62 ألف متر مربع بطاقة إنتاجية تصل إلى 30 طنًا يوميًا من الغزل الرفيع،وقد بلغت التكلفة الإنشائية للمصنع حوالي 780 مليون جنيه، وفقًا لبيانات رسمية صادرة عن وزارة قطاع الأعمال العام في ديسمبر 2024، بينما وصلت تكلفة المعدات والماكينات إلى حوالي 2 مليار جنيه، ليصبح الإجمالي نحو 2.78 مليار جنيه.
يأتي المشروع، وفق البيانات الرسمية، ضمن خطة تطوير شاملة تضم 65 موقعًا صناعيًا على مستوى الجمهورية، باستثمارات إجمالية تصل إلى 56 مليار جنيه، تم تمويلها من خلال قروض ميسرة من البنوك المصرية ودعم حكومي مباشر، ونفذت شركة “جاما للإنشاءات” الأعمال الإنشائية، بينما تولت “ريتر” توريد وتركيب المعدات.
وبحسب رئيس الوزراء في تصريحات سابقة، فإن المرحلة الأولى شملت مصانع (غزل 4، و1،) وتحضير النسيج 1، ومحطة توليد الكهرباء، وتتضمن الثانية عددًا من المصانع بالمحلة الكبرى ومدن أخري، هى كفر الدوار، ودمياط، والمنصورة، والمنيا، وحلوان، لافتا إلى أنه من المقرر الانتهاء منها بحلول منتصف عام 2025، والمرحلة الثالثة والأخيرة بنهايته، أو بداية 2026 على الأكثر. وأشار رئيس الوزراء إلى أن التكلفة الاجمالية لتنفيذ مراحل التطوير الثلاث تتعدي الـ 56 مليار جنيه، منها 22 مليارا تكلفة المنشآت، بالإضافة إلى 640 مليون يورو تكلفة الماكينات والمعدات.
وفي كفر الدوار، أُعيد تأهيل شركة مصر لغزل وكِتّان كفر الدوار بتكلفة تقارب 600 مليون جنيه ضمن البرنامج القومي لتحديث صناعة الغزل والنسيج، وشملت الأعمال تجديد البنية التحتية والماكينات وإعادة هيكلة العمالة. وأشارت الوزارة إلى أن المرحلة التالية من الخطة تستهدف جذب مستثمرين محليين وأجانب لتشغيل وإدارة المصنع بما يحقق ما تصفه بـ”الاستدامة التشغيلية”.
ومن صناعة الغزل إلى قطاعات الاتصالات والبنوك والبتروكيماويات والأدوية والتعدين والبترول والغاز والسياحة والمطارات والعقارات، تسعى الحكومة المصرية إلى تطوير وتجهيز شركات القطاع العام لطرحها أمام المستثمرين وفقًا لما جاء في اجتماع رئاسة مجلس الوزراء المصري في 5 أكتوبر الماضي.
ويعلّق حسن البربري – الباحث العمالي والاقتصادي-، على هذا التوجّه، بأن الدولة في السنوات الأخيرة، وبالأخص خلال الخمس سنوات الماضية، وإن كانت قد أنفقت مليارات الجنيهات على تطوير بعض المصانع والشركات، فإن الاتجاه المتسارع نحو إسناد إدارتها أو تشغيلها لمستثمرين من الخارج يعكس انتقال الدولة من دور “المنتِج والمشغّل” إلى “المطوّر والمسهّل”، ما يعتبره البربري يتخطى كونه مجرد تطوير للإنتاج أو تحديث للمعدات، بل يأتي في إطار عملية خصخصة مقنّعة لا يُصرَّح بها صراحة، وإنما تُقدَّم تحت عناوين مثل: شراكة مع القطاع الخاص، أو إدارة مشتركة، أو مسؤولية مشتركة.”
ويتابع البربري في حديثه إلى زاوية ثالثة أن وزراء قطاع الأعمال العام المتعاقبين، أعلنوا عن خطة تطوير ضخمة قُدرت بالمليارات إذ قدرت بــ 21 مليار جنيه في المرحلة الأولى، ومن ثم تحدّثت عن إشراك صناديق استثمارية وبنوك متخصصة في إدارة شركات كبرى مثل غزل المحلة وكفر الدوار، وذلك ضمن ما سمّته “شراكة مع القطاع الخاص في الإدارة والتسويق”؛ وهو ما ورد صراحة في بيان رسمي صادر عن الوزارة”.
ويشير البربري إلى أن النهج ذاته تكرر في قطاعات أخرى، مثل البتروكيماويات، حيث طرحت الحكومة حصصًا من شركات أبو قير للأسمدة والإسكندرية للزيوت المعدنية (أموك) وموبكو في البورصة ضمن برنامج “الأطروحات الحكومية”. ففي 2023 أعلنت وزارة المالية أن الهدف هو توسيع قاعدة الملكية وجذب استثمارات أجنبية، وهو التعبير الذي صار يتكرر على لسان كبار المسؤولين في الحكومة، من رئيس الوزراء إلى وزراء الاستثمار والمالية والعمل وغيرهم”، يضيف البربري “لكن فعليًا، هذه الطروحات أدت إلى نقل نسب من السيطرة إلى صناديق استثمار خليجية وسعودية”.
وفي قطاع الزيوت والصابون، يلفت البربري إلى أن الوزارة دمجت شركتي طنطا للزيوت مع الإسكندرية للزيوت بدعوى إعادة الهيكلة، “لكن النتيجة كانت الاستغناء عن نحو 30% من العمالة في الشركتين.” ويضيف: “وفق بيانات وزارة قطاع الأعمال، تم دمج أو إغلاق نحو 50 شركة خلال عام 2023، وتخفيض عدد العمالة في قطاع الغزل والنسيج وحده. فمثلًا، شركة غزل المحلة التي كانت توظف أكثر من 20 ألف عامل، انخفض عددهم إلى النصف تقريبًا”.
ويتابع: “تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024 أشار إلى انخفاض خسائر شركات قطاع الأعمال بعد تنفيذ خطة التطوير، لكن عندما دققنا في الأرقام وجدنا أن هذا الانخفاض تحقق ببساطة لأن الدولة دمجت الشركات وقلّصت العمالة، أي قلّصت بند الأجور في الموازنة، وليس لأن الشركات تحسّن أداؤها فعلاً”.
نوصي للقراءة: هل تملك مصر خطة للتخارج من شراكة صندوق النقد؟

تراجع الشركات المملوكة للدولة
أظهر تقرير حديث صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري تحت عنوان متابعة تنفيذ “سياسة ملكية الدولة للأصول”، التقرير الثالث، الصادر في أغسطس 2025، تراجعًا ملحوظًا في عدد الشركات المملوكة للدولة خلال عام واحد، إذ انخفضت من 709 شركات في أغسطس 2024 إلى 561 شركة في أغسطس 2025، بنسبة انخفاض بلغت نحو 20.9%، من دون أن يوضح التقرير ما إذا كان هذا التراجع ناجمًا عن عمليات بيع أو دمج أو إعادة هيكلة.
وأشار التقرير إلى ارتفاع عدد الجهات المالكة لهذه الشركات من 33 جهة إلى 45 جهة خلال الفترة نفسها، ما يشير إلى التوسع في خريطة الملكية وإعادة توزيع الأصول. كما سجّل قطاع الأعمال العام التراجع الأكبر بين القطاعات، إذ انخفض عدد شركاته من 317 إلى 146 شركة فقط، أي بنسبة تقارب 26%، نتيجة ما وصفه التقرير بـ«عمليات الدمج ونقل التبعية وطرح الحصص الاستثمارية»، بينما ارتفعت نسبة الشركات التي تحقق أرباحًا من 54% إلى 65%، في إشارة إلى تحسّن جزئي في الأداء المالي لبعض الكيانات الباقية.
في السياق، يرى حسن البربري، أن هذه السياسات قد تحقق انفراجًا ماليًا مؤقتًا للحكومة، من خلال تخفيف الضغط على الموازنة العامة وسداد جزء من الديون، لكنها على المدى البعيد تُضعف السيطرة الوطنية على قطاعات صناعية استراتيجية، مثل الغزل والنسيج والحديد والصلب. ويضيف: “تجربة خصخصة الحديد والصلب خير مثال، فقد فقدت الدولة واحدة من ركائزها الصناعية”.
ويقول البربري إن :”الاستثمار العام الذي ضخّته الدولة خلال السنوات الماضية لم يكن من أجل التنمية الصناعية الحقيقية، بل كان تمهيدًا لخصخصة تدريجية تُقدَّم في ثوب جديد. فهي لا تُسمّى خصخصة الآن، بل أطروحات أو شراكات، لكن في الجوهر هي نقل للسيطرة والثروة من القطاع العام إلى رأس المال الخاص، المحلي والخليجي على حدّ سواء. وهذا يعني أن الدولة تبيع من أجل سد عجزها المالي، لكنها تفقد في المقابل العمود الفقري لأي اقتصاد وطني قائم على الصناعة.”

من المصانع إلى الفنادق… شروط النقد الدولي
من المصانع إلى الفنادق، انتهجت الحكومة المصرية النهج نفسه في التطوير ومن ثم إسناد تشغيلها إلى شركات خاصة ومستثمرين، ففي ديسمبر عام 2023، أعلنت مجموعة طلعت مصطفى القابضة عبر شركتها التابعة “آيكون” (ICON) عن توقيع اتفاقية للاستحواذ على حصة أغلبية تبلغ 39% قبل أن ترتفع إلى 51% في فبراير 2024، في محفظة تضم سبعة فنادق تاريخية مملوكة للدولة، من خلال الشركة القابضة للسياحة والفنادق (إيجوث). وشملت الصفقة فنادق ماريوت مينا هاوس بالقاهرة، وكتراكت أسوان، وونتر بالاس الأقصر، وموفنبيك أسوان، وسيسيل الإسكندرية، وفنتيدج، والجزيرة (ماريوت).
وقبل طرح هذه الفنادق إلى الاستثمار عملت الدولة على تطويرها ، فعلى سبيل المثال وبلغت تكاليف تطوير تطوير فندق ماريوت مينا هاوس بقيمة 150 مليون جنيه مصرى تقريبا. كما تم تطوير فندق كتراكت أسوان في عام 2008، واستمرت أعمال التطوير والتجديد لمدة ثلاث سنوات، بتكلفة تتراوح بين 300 و400 مليون جنيه، إذ أكد حينها على عبدالعزيز، رئيس الشركة القابضة للسياحة والسينما، بأن الشركة تمتلك أصولا لا تقدر بثمن بسبب أنها تاريخية وأثرية، مؤكدا أن الشركة لن تبيع فندق كتراكت فى أسوان حتى ولو بـ10 مليارات دولار.
من جهته يرى كريم العمدة -أستاذ الاقتصاد السياسي-، أن مشاركة القطاع الخاص وزيادة نسبته في الاقتصاد كانت دومًا أحد الشروط الأساسية في برامج الإصلاح الهيكلي التي يراقبها صندوق النقد الدولي عن كثب، إذ يرتبط صرف الشرائح الجديدة من القروض عادة بخطوات عملية مثل طرح حصص من الشركات الحكومية في البورصة أو جذب مستثمرين استراتيجيين وماليين لتلك الكيانات.
ويضيف في حديثه إلى زاوية ثالثة أن الحكومة تسعى من خلال هذا النهج إلى تقليص وجودها المباشر في النشاط الاقتصادي، بعدما أثبتت التجربة أن الإدارة الحكومية للقطاعات الإنتاجية لم تكن ناجحة، في ظل تفشي البيروقراطية وارتفاع معدلات الفساد وضعف الكفاءة الإدارية، ما أدى إلى خسائر متراكمة في عدد من الشركات العامة. لذلك، أصبح الاتجاه السائد هو إشراك القطاع الخاص في الإدارة والتشغيل، لا سيما في القطاعات الخدمية مثل الفنادق، حيث تركز الدولة على دور “الشريك الإداري” أكثر من كونها منتجًا مباشرًا. مشيرًا إلى أن المستثمر يحصل على نسبة في الأرباح بينما النسبة الأكبر تكون للدولة صاحبة الأصول.
وفي السياق، يوضح محمد رمضان، الباحث في الملف الاقتصادي بـ”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” أن إسناد إدارة بعض المصانع والشركات إلى مستثمرين أجانب يأتي في إطار ارتباط الحكومة المصرية بشروط صندوق النقد الدولي، والحاجة إلى التعامل مع ملف الديون المتراكمة. فـ”إشراك القطاع الخاص” بشكل أوسع في الاقتصاد يُعدّ أحد البنود الرئيسية في اتفاقات الصندوق مع الحكومة.
ويضيف رمضان، في حديثه إلى زاوية ثالثة، إن مصطلح “إشراك القطاع الخاص” أصبح محوريًا في الخطاب الاقتصادي الرسمي، إذ يعني عمليًا تخارج الدولة تدريجيًا من إدارة عدد من الأصول والقطاعات الإنتاجية، وفتح المجال أمام الشركات الخاصة لتولي هذه المهام، وهو ما يُعد جزءًا من تنفيذ متطلبات صندوق النقد الدولي.
ويشير الباحث إلى أن الدولة بدأت بالفعل في تنفيذ هذا النهج منذ إصدار “وثيقة ملكية الدولة”، التي رسمت خريطة طريق لتقليص حضورها في بعض القطاعات، مقابل إتاحة مساحة أوسع للقطاع الخاص المحلي والأجنبي. غير أن هذا التوجه –بحسب رمضان– قد لا يكون الخيار الأمثل أو الأكثر فاعلية؛ إذ يمكن للحكومة بدلاً من التخارج الكامل أن تستفيد من خبرات القطاع الخاص من خلال دمج الكفاءات المتخصصة داخل الهياكل الحكومية، بما يسمح بنقل المعرفة وتحسين الإدارة دون التفريط في السيطرة على الأصول الوطنية.
ويضيف رمضان أن التوسع في إسناد إدارة الأصول العامة لشركات خاصة يعكس رغبة الحكومة في تحقيق متطلبات صندوق النقد الدولي بأسرع الطرق الممكنة، لكن ذلك يتم أحيانًا دون دراسة كافية للحلول البديلة التي قد تكون أكثر استدامة، وتوازن بين الكفاءة الاقتصادية والمصلحة الوطنية على المدى الطويل.
بينما تراهن الحكومة المصرية على جلب مزيد من الاستثمارات بدعوى رفع الكفاءة وإشراك القطاع الخاص، يحذّر بعض الخبراء من أن اتباع شروط صندوق النقد الدولي وإفساح المجال للمستثمرين والقطاع الخاص في الثروات الانتاجية والصناعية قد يحويل الأصول العامة إلى مصدر مؤقت للسيولة المالية دون تحقيق تنمية إنتاجية مستدامة. وبين خطاب “الشراكة” وواقع “التخارج”، تبقى الأسئلة: هل يمكن إنقاذ الاقتصاد الوطني عبر تقليص دوره؟ أم أن الحل الحقيقي يبدأ باستغلال ثرواته وتنميتها وتعزيز الشفافية.