عن حكاية "علي" الكاذبة الصادقة!

574


ألتقيت به أول مرة أمام الجامعة التي أدرس فيها، فلف أنتباهي عندما رأيته يشاور بإشارة لاتدع مجالاً للشك بأنه جائع ويريد أن يأكل، فأستوقفتني هذه الإشارة؛ التي هرعت إليه على أثرها، فلم يخب ظني عندما اعتقدت أول ما عينيّ وقعت عليه بأنه لم يتجاوز عامه العاشر، بعد أن أكده عندما سألته عن أسمه وسنه، فأجاب عليّ: بأن أسمه علي، وسنه عشر سنوات، ثم أسترسلت في توجيه الأسئلة إليه، والتي كانت من قبيل الآتي:( أنت بتروح المدرسة ولا لأ، أبوك وأمك فين، تحب تاكل ايه) وغيرها من الأسئلة التي لم تسعفني الذاكرة حتى أسطرها في هذه السطور. 


فكانت إجاباته للوهلة الأولى توحي أنها صادقة بل أن صدقها كان من الطبيعي أن يجعل أي شخص يسعها (يمصمص شفايفه) ويتمتم بعبارة (لاحول ولا قوة إلا بالله) لاسيما وأنها مصبوغة بالبلاهة وبراءة الأطفال ويتضح ذلك جيداً عندما قال ليّ عندما سألته عن أمه: (أنا أمي بتعمل زيي) بعد أن أخبرني في بداية إجاباته على أن والده أصيب في حادثة سير لأنه يعمل سائق وأنه ينبغي عليه هو وأمه أن يقوما بذلك حتي يستطيعا إطعام أخواته الأربعة الذي يعتبر هو خامسهم وأكبرهم، وتبلورت بلاهته بصورة كبيرة عندما أخبرني بعد أن عرضت عليه العزومة على (سندوتشات فول وفلافل) - نظراً لسعرها الزهيد المتلائم مع قوتي المحدود- بأنه لا يحبها بل يحب (الجبنة الشيدر)! 


بعد أنا غادرت المكان لم أتخي إني سأراه مرة أخرى يشاور نفس الإشارة في نفس المكان ولكن هذه المرة ليست ليّ بل لزميلات في الجامعة حاولت أن أشيح وجهي عن إشارته ولكن إخفاق قلبي المتزايد جعلني أعود إليه مهرولاً بعد أن بعدت عنه بعدة خطوات، فعرضت عليه العزومة مرة أخرى في أحد المطاعم القريبة من الجامعة، ولكنه رفض الإتيان معي مرة أخري، فبادلته السلام؛ وأنصرفت في ذات الوقت الذي ذهبت فيه الفتيات إلى سيدة تبيع (مناديل) تجلس على حذوه على بعد منه بعدة خطوات، لم أكترث كثيراً بما كان يدور بين هؤلاء الفتيات وبين هذه السيدة في هذا الوقت؛ رغم معرفتي به – في الغالب- عندما رأيت "علي" في المرة الثالثة. 


ففي المرة الثالثة؛ وجدته جالساً على الأرض ممدداً رجليه، ولاحظت آثار كدمات في رجليه، وعندما سألته عن ما أصابه، قال ليّ أنه وجد 50 جنية على الأرض وعندما ذهب ليأخذها ليبحث عن صاحبها ليعطيها له، وجد من يعرقله على الأسفلت ويعتدي عليه بالضرب، ويقول أنه صاحب هذه النقود، فبغض النظر عن مدى صدق نية "علي" إلا إن الأعتداء عليه أثارَ السُخط داخلي، وودت أن أعوضه عن الأعتداء عليه ولكن الوجهة التي كنت أنا وزميلي الذي كان يسير معي إليها كانت في الأنتظار، فقولت له:( أستنى أنا رايح مشوار سريع وجاي ليك أوعى مشي أنا هجبلك حاجة حلوة). 


 ولكن - بعد دقائق- عدت إلى المكان الذي كان يجلس فيه فلم أجده، ولكن وجدت السيدة (بائعة المناديل) فذهبت إليها أسألها عليه؛ فقالت ليّ أنه ذهب ولا تعلم أين ذهب، ثم أردفت حديثها قائلة أنه ينتمي إلى (الغجر) وأن والده هو الذي قام بتسريحه بعد أن لقنه ما يقوله لأستعطاف الناس، وأن والده لا يسرحه هو فقط بل يسرح أمه وأخواته، وأن كل ما يدعيه هذا الطفل محض تخرصات، وإن كانت كلماته متمترسة وراء الإدعاء بالصدق، فتلقين والده له على قدر كبير من الحبكة، بل أن هناك أقران له في نفس سنه وينتمون أيضاً إلى (الغجر) كانوا يجلسون مكانه، ولكن تم القبض عيهم وإيداعهم الإصلاحية، ثم قالت بأن هناك العديد من الزملاء والزميلات يذهبون إليها ليسألونها عن أهل هؤلاء الأطفال. 


لم تنزل كلمات هذه السيدة على رأسي كالمطرقة لأني في البداية كنت أعلم أن حكاية "علي" قد تكون كلها كاذبة، ولكن كان عندي من حسن الظن في طفولته البريئة بأنه سيقول الحقيقة خاصة بعدما قولت له –أثناء ما كان يسرد حكايته- في أول مرة ألتقيته فيها نصاً (أوعك تكون بتضحك عليا) ولكن من الواضح أن البراءة التي في داخله سلبت منه مثلما سُلبت آثارها منه على صعيد مظهره الخارجي. 


كما إني لم أشعر بلحظة بالخديعة أو بالزعل من "علي" بل إني لو رأيته مرة أخرى سأذهبت إليه وسأصافحه، ولكني مستاء من الظروف الأقتصادية والإجتماعية التي آلت بطفل في عامه العاشر إلى مخادع وكذاب حتى يظفر بجنية أو بلقمة، "فعلي" الذي نشأ تحت وطأة فقر مدقع ليس على الصعيد الأقتصادي أو الأجتماعي فقط بل على المستوى الأخلاقي أيضاً، من الطبيعي أن يكون هذا وضعه، حيث أنه لم يجد من ينصحه ويوجهه إلى الصواب، فوالده وفقاً لما حكته لي السيدة (بائعة المناديل) هو الذي يقوم بتسريحه فأين الأسرة التي تضم الطفل في كنفها وتعلمه قيمة العمل والصدق والأخلاق الحميدة، بل أن والده نفسه قد يكون وُلد في ذات الظروف المضنية، لذا فلن أتزحزح قيد أنملة عن تعاطفي معه وتامني معه، مع رجائي أن تكون الإصلاحية التي يودع فيها أقرانه أسم على مسمى؛ فتم تعليم الأطفال فيها القيم الحميدة ومعاملاتهم على أنهم ضحايا للمجتمع في مسيس الحاجة إلى يد حانية تأخذ بأيديهم وليست مجرد مكان لقضاء عقوبة أو ملاذ للمجتمع من تسولهم. 


فحتى لو أفترضت أن حكاية "علي" برُمتها كاذبة وأنه ليس له ولا أب أو أم، ولاحتى أسمه "علي"، وأنه طفل لن يختلف حاله عن أحوال الأطفال الذين كانوا في فيلم (العفاريت) كما قالي لي أستاذي في الصحافة - أي أن هناك مَعلمة أومَعلم يستخدمهم في جلب الاموال عن طريق الشحاذة- عندما رأينا أطفال يفعلون كما يفعل "علي" لن أفقد تعاطفي معه لأن وضعه في هذه الحالة سيكون أنكى وأضل سبيل. 


فإن كانت حكاية "علي" كاذبة وصنيعة ذهن من قام بتسريحه وأستخدمه للظفر بالنقود، فإن الحكاية الأصلية وهي حكاية أطفال ولدوا في براثن ظروف مضنية تنتهك حقوقهم وتسلب طفولتهم وتؤول بهم إلى متسولين صادقة صدق براءة الذئب من دم أبن يعقوب (عليه السلام).

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك