"رابعة"والجماهير المجرمة

278


تحل الذكري الرابعة علي حدث فارق في تاريخ جرائم الإبادة السياسية ، والتي بدأت بفض اعتصامي رابعة والنهضة وفتحت باب جديد لمرحلة أعلي و أشد من القمع وإستباحة الدماء والحقوق والحريات , والقضاء علي كل مكتسب يناير ، وإنحدرت معها حالة السلم الاجتماعي وخَلقت حالة من الهوس الجماهيري والهلاوس الجماعية أصابت فئات جماهيرية مختلفة , ولكن مع تدني الاوضاع الاجتماعية وتراجع الشعبية السياسي للسلطة من جراء الفشل الاداري الحكومي( اقتصادي وامني ) , ومع اقتراب تجديد الاقتراع الصوري للانتخابت الرئاسية ,تستمر حالة الركود العام واللا حراك المقاوم في المشهد السياسي الثوري ، وعوضا عن اللجوء إلي التفكيك والتحليل للتجربة المنصرمة والخروج برؤى نقدية متنوعة تثري الحياة السياسية الفكرية ويتشكل من خلالها رسم محدث مرحلي وإستراتيجي, بعيدا عن السقوط في الاخطاء البديهية والاستراتيجية المعتادة، ولكن الوضع علي النقيض تماما ، حيث اصبح المشهد في الوعي الجمعي للتيارات السياسية مجرد ذكريات نستجعها ومهاترات جدلية عقيمة ونمط متكرر ومطابق لنفس ما حدث وقيل الأعوام اسابقة !

وهذا الوضع  يثير حافظتي علي الدوام مع كل حدث إستذكاري ، ولكن تبقى النقطة الملحوظة و المشتركة بين أغلب التيارات المدنية والإسلامية تكمن حول الإتفاق في توجيه اللوم الزائد للشعب والجماهير وهيمنة خطاب الإنسلاخ من سلوك ومواقف الجماهير الساكتة والمؤيدة للقمع والإقصاء الدموي , وتبلورت أسباب التراجع والهزيمة الثورية في الشعب الذي أصبح الواجهه الرئيسية التي تتلقي  اللعنات وتستقبل وابل من أسهم السخط والتعالي، وإلصاق كامل المسئولية علي عاتقهم ، سواء كان الخطاب مباشر او ضمني ، ولذلك أردت أن أفرد نقد يعبر عن طبيعة الجماهير وبديهيات التعامل معهم من منور نفسي وإجتماعي .


إستهلال عن الخطاب للجمهور :


أرى آن الخطاب السياسي المعارض لا يملك متن محدد لمخاطبة الجماهير أو القدرة علي إستمالة وعيها وأعتقد أن ذلك بسبب ضبابية فهم طبيعة عقلية الجماهير , وأعتبر أن حمل الجماهير علي الثورية وإجبارها علي مخالفة طبيعتها المحافظة التي تميل الي الاستقرار وتنزع إلي الخضوع للقوة , من الطفولية والاندفاعية العاطفية، فوحدة الجماهير يحكمها شعور اللاوعي وهي خاضعة وراثيا لعوامل حفظ البقاء ، ومظاهر الانتفاضات والتمرد تعتبر شك عارض لحياتهم ولها نسق آخر وارتباطات سببية من جدل الواقع ، وحتي رغبات الغيير تاريخاً في أغلبها تتوقف عند حد سطحي ولا تصل للجذور، وهذا الموقف الذي يتجاهل ويتغافل موقع الجماهير وطبيعة تفكيرها يترتب عليه نقد ساذج , يساوي انتقاد الشعب بمثل انتقاد رجال السياسة والمهتمين بالشأن العام ،وإعتبارهم علي درجة الوعي الشخصي المماثل لأهل الشأن ،ويطلق حكم عام علي مواقف وافعال الجماهير بالإجرامية دون الإستناد لمنهج في النقد والفهم  وهذا الوصف وإن كان يصح ظاهرياً علي مشاهد  الجرائم والتحريض الشعبي والتأييد لكل أعمال الجرم لكنه موقف غير مترابط بالوقائع  والأحداث وطبيعة الصراع السياسي والمصالح , فالجميع يعتبر الشعوب هدف إستثماري للربح وأغلب الخطابات تتعاطي مع العدد للنفع لا للغاية , ونجد كم هائل من الشعارات التي تمجد الجماهير " الشعب هو القائد والمعلم " إما عند وجود الأزمة والهزيمة يصبح جهل الشعوب وهم أنفسهم العائق الوحيد, ومن هذا المنطلق أردت أن ألفت النظر إلي ضرورة فهم وادراك طبيعة وخصائص الجماهير حتي يتسني وضع حكم وتحليل مناسب يستثمر في ادوات رفع حظر الوعي المجتمعي.




حول سمات وخصائص الجماهير وبواعث سلوكها :


وبالقليل من الإطناب بهدف التوضيح , نجد أن القانون والقيم الاخلاية والدينية تمثل عوامل ضغط إجتماعي ، تكون به رادع وحاجز أمام الفرد لكبح نازع العدوانية ،علي ذلك نجد أن الافراد الذين يرتكبون أفعال إجرامية يعون أنهم مذنبون، أما اختيارات الجماهير وحتي الافعال التي توصف قانونياً بالاجرامية او قيميا باللا أخلاقية ، نجد أنهم لا يشعرون بأي ذنب بل علي العكس يتفاخروا بمواقفهم ! ونجد أيضا أن الميول الأخلاقية في المجتمع طبيعية , فقيم التراحم والتعاطف والشهامة والأمانة والصدق هي المثل العليا للشعب ,ولكن كيف يتناقض ذلك مع حالة ما بعد 30 يونيو !،هل تحول المجتمع إلي النقيض فجأة ! بالطبع هذا غير وارد , ولذلك وجب أن نلتفت إلي الجانب النفسي للجماهير, ونجد أن العامل المؤثر علي توجه الجماهير وسلوكها يكمن في قوة التحريض وحجمه ومدى تأثيره ، ومن أبرز سمات الجماهير شدة الميل للعواطف والمشاعر ، فنجد حالة الهوس العام بتاييد الفض والقتل نابعة من شعور الواجب ومحاربة الارهاب إعتقاد إختيار الصواب وبالطبع ذلك يعبر عن مدى أثر نجاح الخطاب التحريضي , ويقول لوبون في سيكولوجية الجماهير" إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة ،بطولية او جبانة وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات،ولكنها سوف تكون دائما قوية ومهيمنة علي نفوس الجماهير الي درجة ان غريزة حب البقاء تزول امامها ".


وطبيعة البشر أنهم يصارعون من أجل البقاء وذلك يجعل الطابع المسير هو الحاجة للاستقرار والطمأنينة ولذلك نجد ان من أهم الخصائص العامة لدي المجتمع "انعدام روح النقد والشك " و العجز عن الاحتكام للعقل والمنطق ولذلك نجد الجماهير أكثر قابلية لتصديق أي شئ ساذج ، اذ يكون الخطاب العاطفي الاكثر إستيعاب لهم ولذلك يكون خطاب تملق الشعوب هو الاسلوب الخطابي الاكثر شيوعا وزيعاً ، وينتج عن كل تلك السمات التعصب والاستبداد الجماهيري لكل خطاب يخالف طبيعتهم ولا نعجب إذا انجراف الفرد لافعال عدوانية تحت تأثير قوة العدد والكثرة.




التحكم بلجماهير وحوسلتها (تحويل الانسان لأداة) :


ولأن المنتصر هو الذي يحظي بالكتلة الحرجة " الجماهير " تنعم النظم البيروقراطية بالحظ الأوفر والقدرة العملية , لما تمتاز به فعالية  تنميط وتبويب المجتمع وتدخل الدولة في كل شؤون ونشاطات الافراد وبالتالي المقدرة علي خلق وتشكيل الوعي الجمعي وإضفاء الشرعية علي السلطة بشعارات القانون والوطن والدين وهذا النظام الذي يعتمد علي الانضباط المؤسسي ( إداريين .. موظفين .. جنود ) تم تحويله من السلطات الشمولية والإستبدادية إلي اداة مجردة من تحديد الفعل الأخلاقي وغير الأخلاقي ، وفصل الحقيقة عن القيمة بتعبير " المسيري " ، وينطلق نهج التحليل الإجتماعي لسلوك المواطنين المشاركين ( موظفين وجنود ) في ارتكاب أفعال الجرم والابادة اللا أخلاقي (مثل النموذج النازي) ، من رفض ارجاع الجرم علي الميول المرضية والشاذة ، واذا فكيف شاركت المؤسسات الالمانية في عمليات الإبادة وكيف يتحول اناس طبيعيون سلوكياً إلي أساس للفعل الغير الاخلاقي من قتل وابادة !!



وفي الاجابة النقدية للنظام البيروقراطي الحداثي يُسرد تحقق ثلاث شروط لقتل الوازع الانساني الاخلاقي وفصله عن الواقع , وهذكر الشروط وهربطها بالنظام البيروقراطي المصري :


تفويض استخدام العنف من خلال الاوامر الصادرة عن جهات رسمية قانونية .

تنميط العمل المؤسسي عبر ممارسات نظامية والتوزيع الجيد للادوار.

تجريد ضحايا العنف من الصفات الانسانية والصاق بعض التعريفات ( ايدولوجي .. وبتكون حالة من التصنيف كـ " إطلاق لفظ " خونة وعملاء .. ارهابيين " ) .


وطبعا تخضع تلك الشروط  لمبدأ عام يُمثل الفضيلة الوحيدة التي تجعل البعد عن التقييم الاخلاقي للافعال أمر سليم , فـعندما تكون شعارات الانضباط المؤسسي توجه الجمع نحو الاخلاص التام للمؤسسة ونجاحها فوق أي إعتبار وذلك الضبط والتنميط للأفراد داخل الهيكل البيروقراطي الذي يلوح بـ روح الولاء والتضحية بالنفس وانكار الذات كـ فضيلة أخلاقية اجبة وبذلك تلغي اي قرار وحكم اخلاقي آخر , وذلك مثل ما عبر عنه ماكس ڤايبر : " شرف الموظف في قدرته علي تنفيذ أوامر السلطات العليا بكل إخلاص كما لو كانت الاوامر تتوافق وقناعته العقلية ولا يختلف الامر اذا وجد الاوامر غير سليمة وذلك أعلي درجات الانضباط الاخلاقي وإنكار الذات  !" ..




الارتباط الواقعي بين طبيعة الجماهير وبين النظام البيروقراطي العسكري :


ولذلك تكون العقلية الادارية هي نفسها التي لجأت لحل ازمة ما بعد ٣-٧ بالقتل العنيف واخضاع مؤسسات الدولة لـ قواعد انضباط صارمة دون اي إصغاء لصوت الضمير الأخلاقي , وذلك بعد عملية مركبة اشتملت شرعية الحكومة في التفويض من اجل الفض والقتل واستطاعت بجهازها الاعلامي تصنيف الاخر ( ارهابيين ) بالاضافة الي مساعدة من ضحايا الفض أنفسهم ومن بعض السلوك الفردي , وذلك يوضح أن تلك المؤسسات بكل المصريين المشاركين بها لم يميلوا بانفسهم للسلوك المريض والاجرامي بل فصل عنهم انسانيتهم وذواتهم لا يسمح ولا يستطاع بأن يحكموا علي الاجراءات بـ أخلاقية او غير اخلاقية, واذعنت ضمائرهم الي مجرد ترس اداتي في آلة ضخمة تحدد المصلحة الاخلاقية والفضيلة العامة , وتبقى الجماهير ضحية السيطرة من القوي الذي يتلاعب بفهمه لطبيعة الجماهير سيكولوجيا وإجتماعياً .





________________________________________________________________




مصادر :




* سيكولوجية الجماهير (غوستاف لوبون)




*الحداثة والهولوكوست (زيجمونت باومان)


تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك