close

من المنع من السفر إلى “المنع من العمل”.. كيف يُخنق المجتمع المدني بالقانون؟

بعد إغلاق قضية المجتمع المدني رقم 173 لسنة 2013، تواجه منظمات المجتمع المدني في مصر عراقيل جديدة.. 11 شهرًا لتفعيل حساب بنكي، ورفض مشروعات بلا أسباب، وموافقات أمنية غير معلنة. مديرو الجمعيات يحذرون: البيروقراطية أصبحت السجن الجديد للعمل الأهلي.
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

تواجه منظمات المجتمع المدني في مصر منذ عام 2011، موجة متصاعدة من القيود والإجراءات التعسفية، اختلفت في حدّتها وتنوّعت أدواتها، لكنها اشتركت جميعًا في هدف واحد: تقليص دور هذه المنظمات وتحجيم تأثيرها في المجال العام.

تصاعدت بشكل واضح مع القضية رقم 173 لسنة 2013، المعروفة إعلاميًا بقضية “التمويل الأجنبي”، والتي استمرت تداعياتها لما يقارب 13 عامًا. وأسفرت عن فرض قرارات بالمنع من السفر بحق عدد من المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان، إلى جانب التحفّظ على أرصدتهم البنكية، فضلًا عن حبس بعضهم على ذمة التحقيقات. 

وذلك قبل أن تقرر السلطات المصرية غلق القضية في مارس 2024 بعد 13 عامًا من الملاحقة والمنع، إذ قرر قاضي التحقيق في القضية بأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية بحق خمس منظمات حقوقية، فيما قرر رفع حظر السفر وتجميد الأصول الصادر بحق موظفي هذه المنظمات.

ومع مرور الوقت، لم تتوقف الضغوط عند حدود الملاحقات القضائية، لكنها  امتدت إلى تعطيل عمل المؤسسات نفسها، من خلال رفض أو تأخير الموافقات الأمنية والإدارية اللازمة لتنفيذ مشروعاتها، رغم التزامها بالإجراءات المنصوص عليها في قانون تنظيم العمل الأهلي. وهو ما أدى فعليًا إلى تقويض قدرة هذه المنظمات على الاستمرار، وأضعف دورها في تقديم الخدمات والدفاع عن الحقوق، في سياق قانوني وإداري يتسم بالغموض والتقييد.

وبدأت عدد من الجمعيات والمؤسسات الأهلية خلال العامين الأخيرين في التسجيل، تطبيقًا لقانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي الصادر عام 2019، والذي وصفه حقوقيون بأنه قانون تعسفي يفرض قيودًا واسعة على عمل المجتمع المدني.

ورغم هذه الانتقادات، شرعت هذه المؤسسات في اتخاذ خطوات التأسيس والتوفيق القانوني، سعيًا لاستمرار عملها بشكل رسمي وتجنب الملاحقات القانونية، غير أن هذه المحاولات اصطدمت بإجراءات إدارية معقدة، تمثلت في تأخير تفعيل الحسابات البنكية، واشتراط الحصول على موافقات مسبقة لتنفيذ الأنشطة، إلى جانب رفض أو تعطيل عدد من المشروعات دون إبداء أسباب واضحة وفقًا لما رصدته زاوية ثالثة خلال إعداد هذا التقرير، ما انعكس سلبًا على قدرتها على ممارسة دورها المجتمعي والحقوقي بفعالية.

 

نوصي للقراءة: إغلاق قضيّة منظّمات المجتمع المدنيّ بعد 13 عامًا: هل ودّعنا الملاحقة؟

عراقيل منذ التأسيس

بموجب قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019، تلتزم جميع الجمعيات والمؤسسات الأهلية بالتسجيل لدى وزارة التضامن الاجتماعي، مع تقديم المستندات والأوراق القانونية المطلوبة. وينص القانون على تطبيق ما يُعرف بـ”مبدأ الرد الصامت”، إذ يُعد طلب التسجيل مقبولًا ضمنيًا حال عدم رد الجهة الإدارية خلال مدة 60 يومًا من تاريخ تقديم الإخطار، ما لم تُصدر الوزارة اعتراضًا مكتوبًا خلال هذه المهلة.

عن تجربة مؤسسة حرية الفكر والتعبير عن عراقبل التأسيس، يقول محمد عبد السلام، المدير التنفيذي:” إن المؤسسة سجّلت كيانها كمؤسسة أهلية في يوليو 2023، لكنها استغرقت نحو 11 شهرًا، حتى مايو 2025، فقط لتفعيل حسابها البنكي.

ويوضح في حديثه لــ”زاوية ثالثة”:”كان هذا أول عائق كبير نواجهه. لدينا أوراق رسمية وموافقة من وزارة التضامن الاجتماعي على تفعيل الحساب، لكن البنوك الخاصة كانت ترفض. في كل مرة يطلبون استفسارات متكررة: ما مصادر التمويل؟ ما مجالات النشاط؟ من القائمين عليه؟ نرسل المستندات ثم يُعاد طلبها مرة أخرى بصيغ مختلفة.”

يضيف عبد السلام:” أن أحد البنوك اشترط تعديل خطاب وزارة التضامن لإضافة نص يفيد بأن الوزارة لا تشترط الحصول على ترخيص لجمع المال من أجل تفعيل الحساب، متسائلًا عن علاقة تفعيل حساب مؤسسة أهلية بإجراءات جمع التبرعات، التي تخص الجمعيات الخيرية فقط.”

ويشير المدير التنفيذي في حديثه إلى أن موظفًا في أحد البنوك أوضح لهم، بصورة غير مباشرة، أن قرار تفعيل الحساب لا يتوقف على إدارة البنك وحدها، وإنما يتطلب موافقات من جهات خارجية، ما فُهِم منه وجود تدخل من جهات أمنية أو تنفيذية.

وبعد سلسلة من المكاتبات والاتصالات، وتدخل شخصيات عامة، جرى تفعيل الحساب بعد 11 شهر. إلا أن المؤسسة واجهت مرحلة جديدة من التعقيدات عند التقدم بأوراق منحة خارجية لتنفيذ مشروع مع إحدى الجهات الشريكة.

يشترط قانون الجمعيات لسنة 2019 في مصر أن تُسجَّل جميع الجمعيات بموجب أحكامه، بما في ذلك الجمعيات التي كانت مسجَّلة مسبقًا، وإلا فإنها تكون عرضة للحل. وبحسب منظمة العفو الدولية فإن بعض المؤسسات قامت بالتسجيل للحصول على قدر من الحماية من مضايقات الأجهزة الأمنية أو للحفاظ على أهليتها للحصول على التمويل، في حين أفادت جمعيات أخرى بأنها شعرت بأنه لا خيار أمامها بسبب العقوبات المترتبة على عدم الامتثال.  وأوضحت العفو الدولية أن لديها معلومات متوفرة تفيد بأن السلطات لم تقم حتى اليوم بحل أي جمعية بسبب عدم تسجيلها. واختارت بعض الجمعيات المسجَّلة كمكاتب محاماة أو كشركات غير ربحية عدم التسجيل، خشية أن تؤدي قيود القانون إلى الحد من عملها.

وأشارت العفو الدولية في تقريرها إلى أنه بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، لا يجوز أبدًا إلزام الجمعيات بالتسجيل ضمن إطار قانوني محدد أو تجريمها بسبب افتقارها إلى الوضع القانوني. يتعين على الدول أن تكفل الحق في حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها للمجموعات المسجّلة، بغض النظر عن الإطار القانوني الذي تختاره، وكذلك للمجموعات غير المسجَّلة.

في تقريرها أيضًا ذكرت المنظمة، أن الجمعيات المستقلة في مصر  تواجه قيودًا شديدة تفرضها الدولة على حقها في السعي للحصول على موارد، وتلقيها واستخدامها، بما في ذلك الموارد المالية، سواء من مصادر محلية أو أجنبية أو دولية. وحتى بعد التسجيل، لا يمكن للجمعيات فتح أو تفعيل حسابات مصرفية دون خطاب من الوحدة المركزية للجمعيات والعمل الأهلي، وفي بعض الحالات، ترفض المصارف أو تؤخر فتح الحسابات إلى حين حصولها على موافقات “أمنية” منفصلة، مما أدى في عدة حالات موثقة إلى تأخيرات تراوحت بين ثلاثة و15 شهرًا، الأمر الذي شلَّ قدرة الجمعيات على دفع رواتب الموظفين أو سداد الإيجارات أو تنفيذ الأنشطة.

 

عراقيل 

يفرض القانون ولائحته التنفيذية قيودًا إضافية، إذ يُلزم الجمعيات والمؤسسات بإخطار الوزارة بتلقي أي أموال، سواء من مصادر محلية أو أجنبية. ويمنح الجهاز الإداري المختص مهلة تصل إلى 60 يومًا لمراجعة التمويل وإبداء الاعتراض عليه، وخلال هذه الفترة يُحظر على المؤسسة التصرف في الأموال أو استخدامها. وفي حال انقضاء المهلة دون صدور قرار بالرفض، تُعد الموافقة قائمة بحكم القانون، غير أن هذه الآلية العملية كثيرًا ما تُستخدم، بحسب منظمات حقوقية، كأداة لتعطيل الأنشطة وتأخير تنفيذ المشروعات.

يستكمل المدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير حديثه: “قدّمنا عقد المنحة والميزانية والأنشطة واللوائح الداخلية، لكن الموظفين رفضوا الاستلام، واشترطوا فتح حساب فرعي قبل الحصول على الموافقة، رغم أن هذا الشرط غير منصوص عليه في القانون”. وبعد فتح الحساب الفرعي، طُلب إجراء تفتيش من وزارة التضامن، ثم تأخر التفتيش بحجة نقص الموظفين.

ويتابع أن النقاش تصاعد إلى حد التهديد بإبلاغ “أمن الدولة” بزعم أن المؤسسة “مشاغبة”، قبل أن تُجرى عملية التفتيش أخيرًا، ويتم استلام أوراق المنحة في نهاية يوليو، بعد نحو شهرين من المحاولات. 

ورغم ذلك، فوجئت المؤسسة بطلبات “استيفاء أوراق” متكررة دون توضيح، ثم تكررت الإجراءات نفسها عند التقدم بمنحة ثانية في أغسطس. وبعد تسليم الأوراق للوزارة في أكتوبر، حصلت المؤسسة على رأي مكتوب من مديرية التضامن بالقاهرة يفيد بعدم الممانعة من قبول المنحتين، لالتزام المؤسسة بالقانون ولائحتها الأساسية، غير أن وزارة التضامن أخطرت المؤسسة في نهاية نوفمبر بعدم الموافقة على المنحتين، دون إبداء أي أسباب،  يقول عبد السلام.

ويوضح عبد السلام أن مؤسسة حرية الفكر والتعبير تقدمت بتظلم إداري باعتبار الرفض غير مسبب وتعسفي. مشيرًا إلى أنه “منذ حصول المؤسسة على الترخيص قبل عامين ونصف، لم تحصل على جنيه واحد لتمويل أنشطتها وتتحمل نفقات المقر والمصاريف الأساسية بجهود ذاتية، رغم أن المؤسسة تضم فريقًا من العمل  نحو 16 شخصًا”. واصفًا ما يحدث بأنه تدخلات أمنية وإجراءات غير قانونية تعرقل عمل المجتمع المدني، وتحرم مؤسسات مرخصة منذ سنوات من أي تمويل.

بموجب قانون الجمعيات لسنة 2019، يتعيّن كذلك على الجمعيات الحصول على موافقة مسبقة قبل تلقي أي تمويل أجنبي، ويجوز للوحدة المركزية للجمعيات والعمل الأهلي الاعتراض في غضون 60 يومًا دون تقديم مسوغات واضحة وقانونية، ما يمنح الدولة فعليًا حق النقض في ما يخص الموارد الخارجية. إلا أن الجمعيات التي تتلقى تمويلًا دون الحصول على الموافقة المسبقة تتعرض خطر تعليق الأنشطة أو الحل، بينما يواجه موظفوها أو مديروها خطر التعرض لعقوبات مالية- بحسب منظمة العفو الدولية.

 

نوصي للقراءة: كيف واجهت الحكومة المصرية توصيات المراجعة الدورية الشاملة؟


فخ الـ 60 يوم ثم الرفض بدون أسباب

في السياق يقول شريف جمال، – المدير التنفيذي لمؤسسة قضايا المرأة-، إن آلية التعامل مع مشروعات منظمات المجتمع المدني داخل وزارة التضامن الاجتماعي تشهد تعقيدات إجرائية تُفرغ النص القانوني من مضمونه، وعلى رأسها تفسير مدة الـ60 يوم عمل المنصوص عليها للبت في طلبات المشروعات.

ويوضح جمال في حديثه لـ “زاوية ثالثة”، أن المشروعات تُقدَّم أولًا إلى الإدارة التابعة لها المؤسسة، ثم تُرفع إلى المديرية، ومنها إلى وزارة التضامن، مشيرًا إلى أن بداية احتساب الـ60 يوم عمل لا تكون من تاريخ تسليم المشروع والحصول على رقم وارد، وإنما من تاريخ وصوله فعليًا إلى الوزارة، وهو تاريخ غير معلوم بالنسبة للمؤسسات.

ويضيف:”أحيانًا يُقال لنا بعد أربعة أو خمسة أشهر إن المشروع لم يصل بعد إلى الوزارة، وفي مرات أخرى يصل خلال أيام أو أسبوع. هذه المدة تخضع لتقديرات إدارية متعددة، وكل مستوى إداري يمكنه تعطيل الملف بحجة المراجعة أو الانتظار. 

ويشير المدير التنفيذي لقضايا المرأة، إلى أن هذا التفسير يُعد أول أوجه التعطيل، بينما يتمثل الوجه الثاني في إعادة احتساب مدة الـ60 يوم عمل من جديد كلما أرسلت الوزارة استفسارًا للمؤسسة، على أن تبدأ المدة مرة أخرى بعد وصول الرد، وهو ما قد يتكرر عدة مرات.

 ويوضح أن هذه الاستفسارات قد تكون شكلية أو تتعلق بمعلومات واردة بالفعل في أوراق المشروع، مثل جنسية الجهة المانحة أو مقرها، أو تكون نتيجة أخطاء إدارية داخل الوزارة، كخلط أوراق مشروعين معًا، ثم تحميل المؤسسة مسؤولية إعادة الترتيب وإعادة التقديم.ويرى أن هذه الآلية أدت إلى امتداد فترات الانتظار من عدة أشهر قد تصل إلى عام، مؤكدًا أن المشروعات التي يُفترض البت فيها خلال 60 يومًا لا تُحسم فعليًا خلال هذه المدة.

وفي سياق آخر، يوضح جمال أن مؤسسة قضايا المرأة تعتمد في ميزانيتها على هذه المشروعات، وأن تأخير الموافقات يهدد استقرار المؤسسة واستمرار العاملين بها، ويؤدي إلى تسرب الكفاءات نتيجة غياب الاستقرار المالي والوظيفي.ويوضح المؤسسة تواجه رفض مشروعات دون إبداء أسباب، رغم أن الجهة المانحة نفسها سبق الموافقة عليها في مشروعات سابقة، وعلى الرغم من أن طبيعة المشروعات لم تتغير.

ويؤكد المدير التنفيذي لقضايا المرأة  أن غياب التسبيب في قرارات الرفض يمثل معضلة قانونية، إذ يحرم المؤسسة من حقها في الطعن أو تصحيح أي أخطاء محتملة، مشيرًا إلى أن الطعون المقدمة على قرارات الرفض لا يتم الرد عليها في كثير من الأحيان.

ويلفت إلى أن هذه السياسيات تؤثر مباشرة على النساء المستفيدات من خدمات المؤسسة، خاصة النساء غير القادرات والمعنفات والمطلقات والأرامل، اللواتي يحصلن على دعم قانوني ونفسي واجتماعي مجاني، بما في ذلك رفع القضايا، والاستشارات، واستخراج الأوراق الثبوتية، والدعم في الحصول على خدمات الحماية الاجتماعية- يقول جمال.

ويوضح أن تعطيل المشروعات ينعكس سلبًا على استمرار هذه الخدمات، وقد يُبقي النساء في بيئات عنيفة، وهو ما قد يصل في بعض الحالات إلى تهديد حياتهن.كما يشير إلى أن تأثير التعطيل يمتد إلى عمل المؤسسة في رفع الوعي والتأثير في السياسات العامة، مستشهدًا بتجربة المؤسسة في الواحات البحرية، التي بدأت منذ عامي 2021–2022 بالتنسيق مع جهات حكومية، مؤكدًا أن رفض المشروعات الجديدة يهدد استدامة هذا العمل. مؤكدًا أن  منظمات المجتمع المدني المستقلة ليست في عداء مع الدولة، لكنها تحتاج إلى مساحات حقيقية للعمل، والاستماع إلى أصواتها باعتبارها شريكًا يطرح مشكلات وحلولًا، لا مجرد جهة يجب تقييدها أو إسكاتها.

في السياق يقول نجاد البرعي، – المحامي الحقوقي-، إن الأزمة التي تواجه منظمات المجتمع المدني في مصر لا تتعلق بإجراءات التأسيس أو التسجيل، مؤكدًا أن هذه الإجراءات “تسير في الغالب بسرعة ولا تمثل المشكلة الأساسية”.

ويوضح البرعي في حديثه لـ” زاوية ثالثة” أنه رصد حالتين لمؤسستين على الأقل لمشروعات تم رفضها، مشيرًا إلى أن هذا النمط يتكرر مع جمعيات أخرى، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة قرارات الرفض وأسبابها.

ويضيف: “القانون منظم للمسألة، ويمنح الجمعية حق التظلم من قرار الرفض أمام وزارة التضامن الاجتماعي، كما يتيح لها الطعن أمام مجلس الدولة. هذا المسار القانوني متاح ومعروف، لكن الأزمة تكمن في أن قرارات رفض المشروعات تصدر في كثير من الأحيان دون إبداء أسباب، في مخالفة صريحة للقانون”. ويضيف البرعي: “حتى نحن العاملين في المجال لا نعرف لماذا تم الرفض، وبالتالي لا نعرف كيف نتجنب السبب في المرة التالية”.

ويؤكد المحامي الحقوقي  أن القانون يُلزم الجهة الإدارية بتسبيب قرار الرفض، ويعتبر أن الامتناع عن ذكر الأسباب يُعد مخالفة صريحة للقانون، ويقوض الحق في التظلم والطعن القضائي. مشيرًا إلى أن هذه الممارسات تمثل أحد الأسباب الجوهرية لأزمة المجتمع المدني المستمرة منذ عام 2013 تقريبًا، موضحًا أن المنح الخارجية يُعد عصب العمل الأهلي في الأساس.

يضيف البرعي أن المجتمع المدني يعتمد على التبرعات، سواء الداخلية أو الخارجية، لكن التبرعات المحلية تواجه عقبات متعددة، من بينها محدودية الحوافز الضريبية، حيث تراجع الخصم الضريبي المخصص للتبرعات، إلى جانب الثقافة السائدة التي تفضل التبرع للأعمال الخيرية التقليدية، مثل بناء دور العبادة أو المستشفيات، على دعم منظمات حقوق الإنسان أو العمل الثقافي. إلى جانب هذا الواقع يجعل المنح الخارجية هدفًا رئيسيًا للعديد من الجمعيات، وإذا أُغلِق هذا الباب أيضًا، فستُشل قدرة هذه المنظمات على العمل، حتى دون صدور قرار رسمي بإغلاقها.

وختم بالقول إن المنح ليس مسألة ثانوية، بل قضية محورية تتعلق ببقاء المجتمع المدني وقدرته على أداء أدواره في مجالات حقوق الإنسان، والعمل الثقافي والفني، وهي مجالات لا تحظى بدعم مجتمعي واسع من حيث التبرعات المحلية.

نزيف المجتمع المدني

ترى نفين عبيد، – رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة الجديدة-، أن العراقيل التي تواجه المجتمع المدني في مصر ليست داخلية فقط ولا تبدأ من مرحلة الموافقات على المشروعات، بينما ترى أنها متراكمة “من أول الطريق”، سواء على مستوى التمنح أو التعامل مع الجهات الوطنية المعنية بمتابعة المشروعات والموافقة عليها.

وتوضح نيفين في حديثها لزاوية ثالثة أن إحدى الإشكاليات الرئيسية تتمثل في تراجع المنح الدولية، نتيجة صعود التيارات اليمينية المحافظة في عدد من الدول المانحة، إلى جانب توجه بعض الجهات المانحة إلى إعطاء الأولوية لدعم خطط الحكومة وسياساتها، على حساب منظمات المجتمع المدني التي تقدم أطروحات بديلة أو مراجعات نقدية للسياسات العامة.

وتضيف أن حجم المنح المتاحة تقلّص بشكل كبير، ليصل في كثير من الأحيان إلى “حد الكفاف”، بما لا يسمح للمشروعات بتحقيق قدر كافٍ من الاستدامة أو التراكم المؤسسي. وتؤكد عبيد أن هذا التراجع يؤثر بشكل مباشر على قدرة المنظمات على التخطيط طويل الأمد.

وتشير رئيسة مجلس أمناء المرأة الجديدة إلى أن جميع المشروعات التي نفذتها مؤسسة المرأة الجديدة حصلت سابقًا على موافقات من وزارة التضامن الاجتماعي، لكنها لفتت إلى أن مستقبل المشروعات القادمة لا يزال غير واضح، قائلة: “سنجرّب ونرى ما سيكون عليه الوضع مع المشروعات الجديدة، لكن المسيرة ليست سلسة، لا مع المانحين، ولا مع حجم المنح، وربما لن تكون سلسة أيضًا مع الجهات الوطنية المعنية بالمتابعة والموافقة”.

وتعرب نيفين عن أملها في الحصول على موافقات لبعض المشروعات الجاري التقدم بها حاليًا. وحول تقييمها لمستقبل المجتمع المدني في مصر، تقول عبيد إنه “في حالة سيئة جدًا”، مشيرة إلى وجود نزيف مستمر في الكوادر الشابة والمدربة على العمل المدني، والدراسات البحثية، والكتابة النقدية.

وتضيف أن الفرص المتاحة داخل منظمات المجتمع المدني لم تعد قادرة على مواكبة ارتفاع تكاليف المعيشة، خاصة بالنسبة للكوادر النسوية الشابة التي تعتمد على نفسها اقتصاديًا بشكل كامل، وهو ما يؤدي إلى خسارة بشرية ومهنية كبيرة يصعب تعويضها.

وتشير إلى أن عدد المنظمات ذات الطابع الحقوقي أو المرتبطة بأجندة حقوق الإنسان تقلص بشكل حاد، قائلة إن هذه المنظمات “أصبحت تُعد على أصابع اليد الواحدة”، في ظل انحسار المجال العام وتراجع المساحات المتاحة للعمل المدني المستقل.

واعتبرت أن هذا الانحسار ينعكس بشكل مباشر على المجتمع ككل، موضحة أن سيادة صوت واحد في تفسير السياسات العامة تحرم المواطنين من الاطلاع على بدائل ورؤى مختلفة، وتدفع نحو مزيد من الإحباط والاكتئاب والتراجع العام. وختمت بالقول إن المواطن بات منشغلًا فقط بتأمين متطلبات المعيشة الأساسية، في ظل تراجع الأمل والقدرة على الحلم، وهو ما يمثل خسارة مجتمعية شاملة.

في ورقة بعنوان “اللي الأمن يقوله يتعمل”: تقييد حرية تكوين الجمعيات المستقلة أو الانضمام إليها في مصر لمنظمة العفو الدولية، ذكرت أنه على الرغم من إغلاق السلطات المصرية للقضية 173 لسنة 2011، لتُنهي بذلك 13 عامًا من تحقيقاتٍ لا أساس لها بشأن الجمعيات، بالإضافة إلى إلغاء قرارات تجميد الأصول وقرارات المنع من السفر المفروضة على مدافعين عن حقوق الإنسان. لا تزال الأحكام المُقيِّدة لقانون الجمعيات، الصادر عام 2019، والتدخلات المستمرة لقطاع الأمن الوطني، تحدُّ بشدة من أنشطة الجمعيات المستقلة، ومن تمويلها وتسجيلها، مما يقوِّض الحق في حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها.

 وأوضحت الورقة أن قانون الجمعيات لسنة 2019، يتعارض مع القانون الدولي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. إذ يمنح وزارة التضامن الاجتماعي صلاحيات للتدخل في عمل الجمعيات، في أنشطتها وحصولها على تمويل، كما يمنح السلطات الحق في حل الجمعيات دون قرار قضائي، بالإضافة إلى فرض قيود تعسفية أخرى. والواقع أن القانون يُسهِّل استغلاله ومنع أو معاقبة انتهاكات حقوق الإنسان ومساءلة المسؤولين. 

كما أوضحت أن القانون يُقوِّض  قدرة الجمعيات على التعاون مع كيانات محلية أو إقليمية أو أجنبية، بما في ذلك المنظمات الدولية، ويُعامل الأفراد وممثلي الجمعيات كمشتبه بهم أصلًا، ويفرض عليهم غرامات باهظة ومفرطة على مخالفة بنود القانون.

وحددت الورقة التي نشرتها العفو الدولية 22 حالة تمت دراستها من منظمة العفو الدولية، وخلصت  إلى أن السلطات فرضت قيودًا على سير عمل جمعيات مدنية تعمل في مجالات شتى، من بينها حقوق الإنسان، والتنمية الاجتماعية، والإعلام، والحقوق الرقمية. وشملت هذه القيود التدخل في تعيين أعضاء مجالس الإدارة، وكذلك تحديد أنشطتها، والحصول على تمويل.

وبحسب العفو الدولية، يحظر قانون الجمعيات لسنة 2019 على السلطات رفض تسجيل جمعيات مستقلة لحقوق الإنسان استنادًا إلى أسباب مبهمة، ومن الأمثلة بصرف النظر عن الجمعيات في “تنمية المجتمع”، وحظر أنشطة المجتمع المدني باعتبارها السلطات أنها “تخل بالأمن القومي”أو “النظام العام” أو “الآداب العامة”.

منذ عام 2011، تواجه منظمات المجتمع المدني في مصر، شبكة معقدة من القيود القانونية والإدارية والتدخلات الأمنية، تجعل من ممارسة العمل الحقوقي والخدماتي تحديًا يوميًا. على الرغم من محاولات المؤسسات الالتزام بالقوانين الرسمية وتسجيل أنشطتها، إلا أن العراقيل المستمرة في تفعيل الحسابات البنكية، وتأخير الموافقات على المشروعات، ورفضها أحيانًا دون أسباب واضحة، ما يقوّض بشكل كبير قدرة هذه المنظمات على الاستمرار وتقديم خدماتها للمجتمع.

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search