على بعد أمتار من إحدى اللجان الانتخابية بدائرة مركز سوهاج، جنوب مصر، بدت صفية متحمسة للمشاركة في المارثون الانتخابي الذي جرى الشهر الماضي. ما شجعنا على الحديث معها، سألناها عن المرشح الذي تؤيده، فردت باسمه وقالت إنه رجل خدوم من أبناء قريتها، لكنها لا تعرف إلى أي حزب ينتمي، أو ما هي خلفيته السياسية، وأكدت أنها لا تهتم لهذه الأمور وتكتفي بمعرفة المرشح ورمزه الانتخابي، وأنه قدم لها أو لأحد أفراد أسرتها خدمات في الماضي.
صفية علي، (37 عامًا)، حاصلة على تعليم فني متوسط، لا تعي جيدًا ما تعنيه كلمة “حزب سياسي”، تقول: ” نسمع عن الأحزاب من خلال الإعلانات التي نتابعها في التلفاز، وأحيانًا أرى بعض اللافتات مكتوب عليها أسماء أحزاب مثل (مستقبل مصر/ تقصد مستقبل وطن)، ما نعرفه عن الأحزاب قليل جدًا، في الماضي مثلًا كنا نعرف الحزب الوطني، لكن اليوم كثرت الأحزاب وبالطبع لا نعرف عددها أو أسماءها”.
أثناء حديثنا معها، قطع الحاج سعيد قراءة متعمقة للصحيفة، التي كانت بيديه، وبدا مهتمًا بالحديث، توجهنا إليه، وسألناه عن “مدى فاعلية الأحزاب السياسية في مصر؟ ما أهم حزب من وجهة نظره؟ وكيف يرى المارثون الانتخابي؟”.
ابتسم الرجل الخمسيني ابتسامة من يأسى على ذكرى من ماض بعيد، وقال: “الأحزاب أصبحت أشبه بالدكاكين يا أساتذة”، قالها وهو يشير على بقالة خلفه، واستطرد:” زمان كان لدينا أحزاب، كل حزب لديه مجموعة أفكار مثل حزب الوفد، عُرف إنه ليبرالي مثلًا، وأنه معارض، لم يصبح كذلك الآن، وفي المقابل كان الحزب الوطني الديموقراطي، معروف إنه حزب السلطة لكن كان به كفاءات، لا ننكر ذلك”.
“أما اليوم، هناك عشرات الأحزاب في مصر لا فائدة ولا جدوى منها، بعضها يوزع السلع الغذائية (الزيت والسكر والمكرونة والأرز) وقت الانتخابات، لحصد الأصوات، وبعضها يسعى للتحالف مع جهات بعينها لضمان مقاعد في البرلمان، وبعد انتهاء الانتخابات “لا حس ولا خبر”، يقصد اختفاء الأحزاب نهائيًا مدة الأربع سنوات الفاصلة بين كل دورة انتخابية.
تتقاطع شهادة الحاج سعيد وصفية، مع (100) شهادة أخرى جمعتها زاوية ثالثة، ضمن استبيان أجرته، على مدار الأسابيع الماضية، لقياس مدى فاعلية الأحزاب، واتصالها بالشارع في ضوء انحسار المشاركة الانتخابية إلى أدنى نسبة تاريخيًا، مسجلة 17.1% في انتخابات مجلس الشيوخ التي جرت في أغسطس الماضي، بينما تشهد انتخابات مجلس النواب حالة من الجدل بعد إلغاء ثلثي الدوائر بالمرحلة الأولي التي جرت مطلع نوفمبر الماضي، واستمرار الطعون على المرحلتين الأولى والثانية.
يرى جميع من شاركوا في الاستبيان (عينة 100 شخص من فئات عمرية ومستويات تعليمية مختلفة) تم توزيعها لتغطية أكبر نطاق جغرافي ممكن مع التركيز على المحافظات ذات الكثافة التصويتية العالية مثل القاهرة والإسكندرية والجيزة ومحافظات الصعيد، أن الأحزاب لا تمثلهم ولا تعبر عن مطالبهم، فيما أكد 97% عدم ثقتهم في الأحزاب السياسية، واعتبر 77% من المشاركين أن أداء الأحزاب عمومًا في البرلمان السابق (2020-2025) كان ضعيفًا، وأكد 92.1% منهم أن الأحزاب لا تنافس بشكل فعلي في الانتخابات، لكنها تشارك كديكور سياسي مكمل للعملية الانتخابية.
في مطلع عام 2022، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى إطلاق الحوار الوطني، الذي استهدف جمع مختلف القوى الشعبية والسياسية والحزبية والأكاديمية، في خطوة تهدف إلى استيعاب كافة الرؤى والمقترحات حول القضايا الداخلية بمصر على المستويين السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد تناول الحوار الوطني ملفات عدة، شملت الإصلاح السياسي، دور الأحزاب في الحياة العامة، ودعم المشاركة المجتمعية في صنع القرار.
وشدد الحوار الوطني، آنذاك، على أن الحياة الحزبية الفاعلة تمثل ركيزة أساسية في الجمهورية الجديدة، حيث تعتبر أحد الأدوات الرئيسية لضمان شرعية النظام السياسي واستقراره، وتوفير قنوات للتفاعل المباشر بين الدولة والمواطن. وأكد المشاركون أن تطوير التجربة الحزبية يساهم في بناء مجتمع سياسي واعٍ، قادر على ممارسة دوره الرقابي والمشاركة في صنع القرار، بما يعزز قدرة الدولة على إدارة الأزمات وتحقيق التنمية المستدامة. وأكد أن دعم الأحزاب ليس مجرد إجراء شكلي، بل ضرورة لتعميق المشاركة السياسية، وتمكين الشباب من الانخراط في الحياة العامة، وضمان أن تكون الأحزاب أدوات حقيقية تعكس تطلعات المواطنين وتخدم الصالح العام.
نوصي للقراءة: تقرير سيادي حذر من استياء شعبي.. ماذا وراء حديث الرئيس عن المخالفات الانتخابية؟

كم حزب في مصر؟
يتجاوز عدد الأحزاب المسجلة رسميًا 100 حزب، بينما تكتفي بعض القوائم الرسمية بالإشارة إلى نحو 87 حزبًا فقط، إلا أن مراجعة التراخيص المعتمدة تؤكد أن الرقم الأقرب للدقة هو قرابة مئة حزب حاصل على ترخيص رسمي للعمل في النظام السياسي المصري. وعلى الرغم من هذا الزخم العددي، يظل التمثيل البرلماني محدودًا، حيث لم يتجاوز عدد الأحزاب الممثلة في مجلس النواب قبل انتخابات 2025 نحو 13 حزبًا، في حين بلغ عدد الأحزاب الممثلة في مجلس الشيوخ خلال دورة 2025 نحو 19 حزبًا، وهو ما يكشف فجوة واضحة بين العدد الكبير للأحزاب على الورق، وقدرتها الفعلية على المنافسة والوصول إلى مؤسسات التشريع.
وتظهر الإجابات حالة ارتباك لافتة في معرفة عدد الأحزاب السياسية في مصر، حيث تراوحت التقديرات بين 30 حزبًا وأكثر من 140 حزبًا، بينما فضّل عدد كبير من المشاركين التصريح بعدم المعرفة أو عدم الاهتمام من الأساس. بالرغم من ذلك تكرر ذكر عدد محدود من الأحزاب بوصفها الأبرز في المشهد، على رأسها حزب مستقبل وطن، يليه حماة الوطن، والجبهة الوطنية، والشعب الجمهوري، والوفد. إلا أن اللافت أن هذا الحضور لم يكن مقرونًا بالثقة أو التأييد، بل جاء في أغلب الأحيان في سياق نقدي، باعتبار هذه الأحزاب “أحزاب سلطة” أو الأكثر ظهورًا إعلاميًا فقط، دون أن يعني ذلك اقتناعًا بدورها أو شعورًا بأنها تمثل الشارع المصري.
نوصي للقراءة: عسكرة الأحزاب في مصر: الطريق إلى انتخابات 2025 يمر عبر الأجهزة

الأحزاب في وادي والناس في وادي آخر
تؤشر نتائج الاستبيان عن حالة من الإحباط الواسع إزاء الدور الحالي للأحزاب السياسية في مصر، حيث عبّر قطاع معتبر من المشاركين (87%) عن غياب تصور واضح لفاعلية هذه الأحزاب، مقابل مطالب متكررة بإصلاحات جذرية تمس البنية والتنظيم والمناخ السياسي المحيط بها.
تكشف النتائج عن غياب شبه كامل للانتماء الحزبي بين المشاركين، إذ أكدت الغالبية الساحقة أنها لا تنتمي إلى أي حزب أو كيان سياسي. وحتى بين القلة التي صرّحت بانتماء سابق أو حالي، برز شعور واضح بالانفصال الفعلي عن العمل الحزبي، سواء بسبب عدم الاقتناع بالأداء أو الإحساس بانعدام التأثير الحقيقي. أما الانتماءات التي جرى ذكرها، مثل الوفد، والمصري الديمقراطي، ومستقبل وطن، والعدل، والوسط، والأحرار، والمحافظين، فقد بدت استثناءات محدودة لا تعكس حالة عامة، بقدر ما تؤكد أزمة الانخراط السياسي داخل الأحزاب.
كذلك تبرز الإجابات أن أزمات تكمن في ضعف القيادات والكوادر، إذ طالب المشاركون بإعداد قادة سياسيين حقيقيين، خاصة من الشباب، عبر برامج تدريب جادة وانتخابات داخلية نزيهة، بدلًا من التعيينات أو الزعامات المغلقة. واعتبروا أن غياب القيادات المؤهلة انعكس على الأداء الهش والقدرة المحدودة على طرح بدائل سياسية مقنعة.
كذلك، أظهرت الردود تراجع الصلة بين الأحزاب والشارع، حيث شدد كثيرون على ضرورة النزول إلى المواطنين، وملامسة همومهم اليومية، والاستماع إلى القواعد الحزبية من القرى حتى المحافظات، بدل الاكتفاء بالحضور الإعلامي أو الموسمي. ورأى المشاركون أن الحزب الفاعل هو الذي “ينحاز للمواطن لا للسلطة”، ويجعل الدفاع عن مصالح الناس أولوية حقيقية.
في السياق نفسه، برزت قضية الوعي السياسي كأحد المحاور الأساسية، إذ طالب المشاركون بتكثيف التثقيف السياسي والتوعية الانتخابية، معتبرين أن ضعف الوعي لدى الناخبين والأحزاب معًا أسهم في إفراغ العمل الحزبي من مضمونه. كما دعا البعض إلى ربط الأحزاب بدورها الطبيعي كحلقة وصل بين الدولة والمواطن.
على المستوى الهيكلي، عبّرت الإجابات عن رفض واضح لتضخم عدد الأحزاب دون مضمون، مع دعوات لتقليص العدد ودمج الأحزاب المتقاربة أيديولوجيًا في كيانات أكبر وأكثر تأثيرًا، تمثل التيارات السياسية الرئيسية (يمين، يسار، ليبرالي، ديني). واعتبر المشاركون أن وجود عدد محدود من الأحزاب القوية أفضل من عشرات الكيانات الشكلية.
سياسيًا، ركزت نسبة كبيرة من الردود على غياب المناخ الحر للعمل الحزبي، مطالبة بفتح المجال العام، ورفع القيود الأمنية، ووقف تدخل الأجهزة المختلفة في إدارة أو توجيه الأحزاب، إلى جانب تعديل قوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر التي يرون أنها عززت نفوذ المال السياسي وأضعفت فرص التمثيل الحزبي الحقيقي. كما شددوا على ضرورة إجراء انتخابات محلية نزيهة باعتبارها مدرسة أساسية لتأهيل الكوادر.
يرى الدكتور عمرو هاشم ربيع، – مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية-، أن أزمة الأحزاب السياسية في مصر لا تتعلق بعددها بقدر ما تتعلق بانفصالها الكامل عن الشارع، مشيرًا إلى أن وجود أكثر من 100 حزب مرخّص لا ينعكس بأي شكل على الحياة السياسية الفعلية، لأن هذه الأحزاب تفتقر إلى الرصيد الشعبي الحقيقي.
ويوضح لـ”زاوية ثالثة” أن ما يقرب من 95 إلى 97 في المئة من المصريين يُصنَّفون سياسيًا كمستقلين، وهي ظاهرة سلبية تعكس فشل الأحزاب في جذب العضوية وبناء قواعد اجتماعية، ويرتبط ذلك بشكل مباشر بالنظام الانتخابي القائم على القائمة المطلقة بدلًا من النسبية التي تسمح بتمثيل أكبر، ما يدفع المواطنين للترشح كأفراد بدلًا من الانخراط في العمل الحزبي، بعكس النظم النسبية الحزبية التي تعزز دور الأحزاب.
ويؤكد ربيع أن الأحزاب ترفع شعارات الديمقراطية بينما تفتقدها داخليًا، إذ لا تعقد مؤتمرات عامة منتظمة، ولا تُفعّل هياكلها التنظيمية أو لجانها التنفيذية، وتُدار في كثير من الأحيان بعقلية الزعامة الفردية، وهو ما أفقد حتى الأحزاب التاريخية قدرتها على تقديم نموذج مختلف. كما يربط تراجع الحياة الحزبية بانغلاق المجال العام وتغلغل الأجهزة الأمنية في المجال السياسي، ما خلق مناخًا من التخوف لدى المواطنين من الانضمام للأحزاب، في ظل تصورات سائدة تربط العمل الحزبي بالمراقبة والملاحقة.
وفيما يخص الأحزاب الموصوفة بـ”الكبيرة”، يوضح ربيع أنها ليست كبيرة بحكم قوتها الذاتية أو امتدادها الشعبي، بل لأنها صُنعت بدعم مباشر من السلطة، معتبرًا إياها أذرعًا سياسية لا تملك مقومات الاستمرار دون هذا الدعم. ويخلص إلى أن إصلاح المشهد الحزبي يبدأ بتقليص عدد الأحزاب وإعادة تصنيفها على أساس القضايا والبرامج، متسائلًا: “ليس منطقيًا أن يكون في مصر أكثر من مئة حزب، وكأن لدينا أكثر من مئة قضية كبرى، بينما الواقع يقول إن القضايا الأساسية للدولة لا تتجاوز عددًا محدودًا يمكن أن تتنافس حوله تيارات سياسية واضحة”.
نوصي للقراءة: 70% من الدوائر ملغاة والباقي مشكوك فيه.. ماذا تبقى من انتخابات البرلمان؟

لماذا تراجعت الحياة الحزبية في مصر؟
يجمع أغلب المشاركين على أن تراجع الحياة الحزبية في مصر يعود إلى مجموعة مركبة من الأسباب، في مقدمتها القيود السياسية وغياب المناخ الحر، وضعف الأحزاب نفسها على المستويين التنظيمي والفكري، وغياب البرامج السياسية الجادة، إلى جانب عزوف المواطنين عن المشاركة. كما برزت قضايا المال السياسي، ونظام الانتخابات، والتدخلات الأمنية، ودعم أحزاب بعينها، كعوامل أساسية في إضعاف التنافس الحزبي. واختيار الغالبية لإجابة “جميع ما سبق” يعكس وعيًا بأن الأزمة بنيوية وشاملة، ولا يمكن اختزالها في سبب واحد.
من جهته يرى أكرم إسماعيل، العضو المؤسس لحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، أن عدد كبير الأحزاب التي تشكلت في هذه الفترة هي في جوهرها كيانات مهندسة، ليست أحزابًا حقيقية نابعة من الشارع أو تعبر عن قواعد جماهيرية، بل كيانات مصطنعة بالكامل لخدمة أهداف تضعها السلطة، بينما تؤدي حالة الانغلاق في المجال العام لضعف فاعلية الأحزاب الأخرى.
وفي حديثه مع زاوية ثالثة، يوضح إسماعيل أن النظام السياسي نفسه لا يتيح نشوء أحزاب طبيعية مرتبطة بالجمهور، وبالتالي تصبح رموز الأحزاب أشخاصًا مرتبطين بالنظام مباشرة. ففي التجارب الحزبية الطبيعية، تُنتَج الرموز سياسيًا من النقابات والجامعات والشارع، أما في مصر فهي نتاج هندسة من أعلى، تُمنح الأولوية فيها لمن يملكون الولاء أو ينتمون لشبكات نفوذ قريبة من السلطة.
ويشدد إسماعيل على أن غياب الأحزاب الحقيقية المرتبطة بالجمهور يحوّل المجال السياسي إلى ساحة مغلقة، تُصنع رموزها وفق أهداف محددة مسبقًا، ما يفسر تركز هذه الرموز غالبًا بين الضباط السابقين أو الشخصيات الموالية للنظام مباشرة. محذرًا من أن “ضعف المجتمع والدولة يرتبط بضعف مؤسساتهما. المجتمع القوي هو الذي يمتلك نقابات وأحزابًا وتنظيمات قادرة على التفاوض مع السلطة وإدارة الأزمات دون انفجار، أما المجتمع المحروم من هذه الأدوات فهو معرض للخطر، سواء في استقراره أو في انتقال السلطة داخله”.
ويتابع: “غياب أدوات التنظيم يجعل خطوات الانتقال السياسي في خطر، ويزيد من احتمالات انفجار الغضب الشعبي بسبب الأوضاع الاقتصادية. في المقابل، وجود نقابات وأحزاب قوية يوفر قنوات للتفاوض وحلول سلمية، ويضمن انتقالًا آمنًا ومنظمًا للسلطة”. مؤكدًا على أن منع المجتمع من امتلاك أدواته التنظيمية يبقيه في مهب الريح، كما ظهر في انهيار بعض المجتمعات والدول المجاورة، مضيفًا: “في مصر، غياب هذه الأدوات لا يضعف الأحزاب فحسب، بل يضعف المجتمع والدولة على المدى الطويل”.
الحياة الحزبية في مصر بدأت في مطلع القرن العشرين مع نشأة الأحزاب الوطنية الأولى في سياق مقاومة الاحتلال البريطاني، وكان حزب الوفد، الذي تأسس عام 1918، التعبير الأبرز عن هذه المرحلة، إذ لعب دورًا محوريًا في تعبئة الشارع وربط السياسة بالمطالب الشعبية. وعلى مدار العقود التالية، شهدت الحياة الحزبية فترات مد وجزر؛ فبعد ثورة يوليو 1952 جرى حل الأحزاب وإقامة نظام الحزب الواحد، قبل أن تعود التعددية الحزبية بشكل محدود في سبعينيات القرن الماضي مع سياسة “المنابر” ثم السماح بتأسيس الأحزاب رسميًا. ورغم اتساع عدد الأحزاب منذ ذلك الحين، لا سيما بعد عام 2011، ظل هذا التوسع في معظمه شكليًا، حيث تكاثرت الكيانات الحزبية دون أن يقابلها تطور حقيقي في الدور السياسي أو القدرة على التأثير في الشارع وصناعة القرار.
وتتمحور القوانين المنظمة للعمل الحزبي في مصر بشكل أساسي حول القانون رقم 40 لسنة 1977 بشأن نظام الأحزاب السياسية، المعدل بمرسوم بقانون عام 2011، والذي يؤكد حق المواطنين في تكوين الأحزاب عبر الإخطار، ويضع ضوابط صارمة لتأسيسها (عدم الأساس الديني أو الطبقي أو العسكري)، ويحدد صلاحيات لجنة شؤون الأحزاب، مع وجود دعوات مستمرة لمراجعة وتحديث القانون ليواكب التطورات الدستورية والحاجة لنظام حزبي أكثر فعالية وتعددية، وفق ما تؤكده الدساتير المصرية التي تضمن التعددية الحزبية.
عند سؤال المشاركين عن إمكانية تحسن الحياة الحزبية مستقبلًا، مالت الغالبية إلى إجابة “ربما”، في المقابل، عبّرت نسبة محدودة فقط عن تفاؤل صريح، وغالبًا ما ربطت هذا التفاؤل بحدوث تغييرات جذرية في بنية النظام السياسي وطبيعة العلاقة بين السلطة والأحزاب.
تتكرر في إجابات المشاركين مجموعة واضحة من المطالب، أبرزها فتح المجال العام ورفع القيود الأمنية عن العمل الحزبي، وانحياز الأحزاب للمواطن بدلًا من السلطة، وإعداد قيادات شابة مؤهلة، وطرح برامج سياسية واقعية ووطنية، إلى جانب النزول إلى الشارع والتواصل المباشر مع المواطنين. كما دعا البعض إلى دمج الأحزاب المتشابهة أيديولوجيًا، وإجراء انتخابات داخلية حقيقية، وتقليل عدد الأحزاب، وتكثيف التثقيف السياسي وتنمية الوعي الانتخابي. في المقابل، عبّر عدد غير قليل من المشاركين عن حالة يأس كاملة من جدوى العمل الحزبي.
نوصي للقراءة: التدوير الاقتصادي لرجال مبارك: عودة النخب القديمة في ثوب جديد

قتل عمد للحياة السياسية والمجتمع المدني
بحسب دراسة لمركز كارينغي للدراسات، للباحث المختص بشؤون الشرق الأوسط يزيد صايغ، أفرزت سياسات السلطات المصرية خلال السنوات الماضية، نفورًا واضحًا من أي تنظيم أو نشاط سياسي مستقل، تُرجم إلى هجوم ثلاثي الأبعاد استهدف إفراغ الساحة السياسية المصرية من مضمونها.
الأول ضرب الحياة الحزبية من أساسها، مع الإبقاء في الوقت نفسه على مظهر ديمقراطي شكلي عبر تنظيم انتخابات دورية والحفاظ على صورة برلمانية شكلية. كذلك وصفت المحللة مارينا أوتاوي، تفريغ المجال السياسي كساحة تنافس بين قوى منظّمة تمثل مصالح شرائح المجتمع المختلفة أدى إلى “موت الحياة السياسية”، حيث باتت الأحزاب ضعيفة وفاقدة للوزن. وقد أكدت الهيئة العامة للاستعلامات الحكومية في تقرير عام 2022 أن الأحزاب القديمة السابقة لعام 2013 ما تزال “تصارع بين التطوير والفناء” في ظل “الجمهورية الجديدة”.
في المقابل، برزت أحزاب موالية جديدة دفعتها الأجهزة الأمنية إلى الواجهة، لتلعب الدور الأساسي في إظهار التأييد الشعبي لسياسات السلطة، وفق الدراسة، بخلاف عهد حسني مبارك الذي اعتمد على الحزب الوطني الديمقراطي كأداة مركزية للسيطرة، اعتمد النظام السياسي للرئيس عبد الفتاح السيسي على نموذج أكثر لامركزية عبر إنشاء أحزاب موالية متعددة بعد عام 2013.
وتلفت الدراسة إلى أن “هذه الأحزاب تحولت إلى واجهات مرتبطة بشبكات المحسوبية، فيما تولت الأجهزة الأمنية اختيار المرشحين وتشكيل الكتل البرلمانية بدرجة تحكم أكبر حتى مما كان عليه الوضع في عهد مبارك، وزاد هذا التوجه رسوخًا بعد تعديل تشريعي أنهى الإشراف القضائي على الانتخابات ابتداءً من 2024. النتيجة كانت واضحة في انتخابات 2020، حيث انهار حزب “المصريين الأحرار” الليبرالي، بينما اكتسح حزب “مستقبل وطن” الموالي مقاعد البرلمان ومجلس الشيوخ المُعاد إحياؤه مؤخرًا.”
وتشير الدراسة كذلك إلى أن مؤسسة البرلمان فقدت ما تبقى من دورها كمنصة للاختلاف السياسي السلمي، إذ تقلص دوره أكثر ليصبح مجرد أداة للتصديق على المراسيم الرئاسية ومشاريع القوانين الحكومية، ويوضح الباحث أن “السيطرة على تشكيل الكتل والأحزاب داخل البرلمان كانت الخطوة الأولى، تلاها إفراغه من أي ثقل سياسي. وهكذا، بات البرلمان مجرد واجهة توحي بالانفتاح، بينما يجري تأسيس منصات وأحزاب شكلية من حين لآخر، مثل حزب “الجبهة الوطنية” الذي أُعلن عن تأسيسه في ديسمبر 2024 وسط احتفاء إعلامي باعتباره “علامة على التعافي السياسي”.
وفق الدراسة، امتد النهج نفسه إلى المجتمع المدني، حيث عملت السلطة على إعادة توجيه النشاط الأهلي بما يمتص أي تأثير سياسي محتمل. في البداية ركّزت الحكومة على قمع الجمعيات الإسلامية الخدمية التي اعتُبرت تهديدًا سياسيًا، ثم جاء قانون العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019 ليقنن هذا التوجه، من خلال حصر دور المنظمات في “تنمية المجتمع وفق خطط الدولة واحتياجاتها”.