أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح الثلاثاء، بدء عملية عسكرية برية واسعة داخل مدينة غزة، لتدخل المواجهة أخطر مراحلها منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، فبعد أسابيع من قصف جوي وبحري لم متواصل، خلّف دمارًا واسعًا وأزمة إنسانية متفاقمة في القطاع، دفعت تل أبيب بقواتها المدرعة ووحدات مشاة إلى أحياء مكتظة بالسكان، في مشهد ينذر بانفجار كارثة إنسانية غير مسبوقة وسط نزوح جماعي ومعاناة متفاقمة لمليوني فلسطيني محاصرين.
رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وصف الاجتياح بأنه بدء “مرحلة حاسمة” في القطاع، مؤكدًا أن العملية العسكرية تهدف إلى القضاء على حركة حماس وتدمير بنيتها التحتية، في حين تواصل إسرائيل عملياتها وفق “أسلوب التوغل التدريجي المصحوب بنيران كثيفة”، مع أولوية لسلامة القوات على السرعة الميدانية، بحد تعبيره.
في المقابل، أصدرت وزارة الخارجية المصرية، الثلاثاء، بيانًا شديد اللهجة، جددت فيه رفض القاهرة لمخططات التهجير القسري ودعت لوقف العمليات العسكرية فورًا، فيما أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استمرار الجهود المصرية السياسية والإنسانية لإدخال المساعدات وتفعيل الوساطة الدولية لتحقيق وقف إطلاق النار.
عربيًا، دعت الخارجية الفلسطينية لتدخل دولي عاجل لوقف ما وصفته بـ”الجريمة الكبرى بحق سكان غزة”، وأكدت حركة حماس أن توسيع الهجمات البرية الإسرائيلية يمثل “فصلًا جديدًا من فصول حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي”، ودعت المنظمات الدولية والعربية إلى التحرك حماية للمدنيين ووقف التصعيد.
وعلى المستوى الدولي أبدى مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان قلقًا متزايدًا بشأن الأدلة على ارتكاب جرائم حرب وعمليات إبادة جماعية بحق المدنيين، مع تكرار مطالبة إسرائيل بوقف فوري للهجوم ونبذ استهداف المدنيين، بينما وجه الاتحاد الأوروبي والأطراف الغربية تحذيرات جديدة من التصعيد وتفاقم الوضع الإنساني الكارثي، وطالبت بفتح الممرات الإنسانية وإتاحة الإغاثة.
نوصي للقراءة: توتر متصاعد: ما حدود التصعيد المحتمل بين مصر والاحتلال الإسرائيلي؟

نزوح قسري بدأ بالفعل!
يقول الدكتور عزام شعث، -أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي-، من غزة في حديث إلى زاوية ثالثة إن “دولة الاحتلال ماضية في عمليتها العسكرية التي وسعتها الثلاثاء بصورة ميدانية وأرغمت عدد كبير من سكان القطاع على النزوح القسري باتجاه وسط وجنوب القطاع، بهدف إعادة السيطرة والاحتلال الفعلي للمدينة وتكريس الوجود العسكري فيها، وبما يضمن تدميرها تدميرًا كاملًا مثلما دمرت في الشهور الأخيرة مدينتي رفح وخان يونس جنوب القطاع، وبلدات شمال القطاع، حتى يتحول القطاع إلى مكان غير قابل للحياة، وفي إطاره تجري عملية تهجير السكان قسريًا إلى خارج القطاع ضمن المخططات التقليدية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا”.
ويضيف شعث: “يبدو أن رؤية نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة التي تعمق من إجراءات الحرب والتصعيد العسكري، لا تتوقف عند تدمير القطاع فقط، بل تمتد إلى دول المنطقة بذريعة تصفية حركة حماس والأذرع المسلحة المدعومة من إيران”.
ويتابع شعث في حديثه معنا: “مع الاستمرار في تغييب سياسات مواجهة إسرائيل دوليًا وإقليميًا، وتراجع إمكانية الضغط عليها لوقف حربها المفتوحة في غزة، وما دام المستوى الرسمي في إسرائيل يتعامل مع مخرجات القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة باستخفاف، لأنها لا تتضمن الإجراءات العملية لمواجهة إسرائيل على الأقل على المستويين الاقتصادي والدبلوماسي، فإن إسرائيل ستمضي في انتهاك سيادة دول المنطقة بادعاءات وذرائع مواجهة قيادة حماس التي لا تتوقف عند حدود العدوان على غزة”.
ويأتي التصعيد في غزة غداة انعقاد القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة وسط أجواء من التوتر الإقليمي، التي ترأسها عدد من القادة العرب والإسلاميين لمناقشة التصعيد من جانب قوات الاحتلال داخل القطاع وسبل حماية المدنيين الفلسطينيين. فيما شدد المشاركون على ضرورة إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية فورًا، وحماية المدنيين وتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع دون عوائق، كذلك أكدوا على دعم حقوق الفلسطينيين وإدانة أي تهجير قسري للسكان، ودعوا المجتمع الدولي إلى ممارسة ضغط فعّال على إسرائيل لوقف العدوان.
نوصي للقراءة: الغاز القبرصي.. ورقة مصر الرابحة في مواجهة تهديدات نتنياهو؟

ترقب في القاهرة وجاهزية في سيناء
يؤكد مصدر مصري رفيع المستوى، تحدث إلى زاوية ثالثة وفضل عدم الكشف عن هويته، أن القاهرة تتابع عن كثب، ومن خلال لجنة مختصة على أعلى مستوى تضم كافة الأجهزة المعنية، التطورات المتسارعة في قطاع غزة، خاصة بعد توسيع الهجوم الإسرائيلي على مختلف مناطق القطاع، وأضاف المصدر أن مصر تشعر بـ”استياء شديد” من هذا التصعيد، الذي يهدد استقرار المنطقة ويزيد من المخاطر الإنسانية والأمنية على حدودها الجنوبية.
ويوضح المصدر أن مصر تتحضر لكافة السيناريوهات الممكنة في ضوء استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، مشددًا على أن البلاد لا ترغب في الانجرار إلى سيناريو الصدام، لكنها تضع جميع الاحتمالات على الطاولة إذا كان الخيار الأخير للرد على التصعيد المستمر من جانب حكومة الاحتلال. ويلفت إلى أن “التصعيد الإسرائيلي لا يترك مساحة كبيرة للتحرك الدبلوماسي فقط، ومن ثم نحن مضطرون للاستعداد لكل الاحتمالات، بما في ذلك الخيار العسكري، رغم أنه ليس المفضل لدينا”.
ويؤكد المصدر أن الجيش المصري رفع جاهزيته على الحدود الشرقية مع قطاع غزة، مشددًا على استعداد القوات للتعامل مع أي تحركات قد تهدد الأمن القومي المصري. وأضاف أن الإجراءات الأمنية تشمل نشر وحدات عسكرية إضافية وتعزيز المراقبة على طول الحدود، مع وجود خطط واضحة لمنع أي تداعيات محتملة نتيجة تصعيد العمليات الإسرائيلية أو تدفق أعداد كبيرة من النازحين نحو الأراضي المصرية.
كذلك يشدد على أن القاهرة تعمل بالتوازي على مستوى دبلوماسي وسياسي، بالتنسيق مع شركاء إقليميين ودوليين، من أجل محاولة تهدئة الوضع، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وحماية المدنيين الفلسطينيين من موجة النزوح القسري، معتبرًا أن التوازن بين الاستعداد العسكري والمبادرات الدبلوماسية هو مفتاح قدرة مصر على مواجهة الأزمة.
وفي وقت سابق، أشارت تقارير إلى أن الجيش المصري عزز وجوده العسكري في شمال شرق سيناء، ورفع من مستوى الجاهزية الميدانية من خلال نشر دبابات ومدرعات إضافية في محيط معبر رفح والمناطق المجاورة له، الأمر الذي يثير قلق تل أبيب، ويعتقد مراقبون أن هذا التحرك العسكري، وإن كان يحمل طابعًا دفاعيًا، إلا أنه يحمل في طياته رسالة واضحة مفادها أن القاهرة لن تسمح بأي اختراق أمني أو تهديد مباشر يأتي من الجنوب الفلسطيني، خاصة مع تزايد الحديث في الإعلام الإسرائيلي عن “ممرات آمنة” أو مناطق عازلة على تخوم غزة، يمكن استغلالها لإجبار الفلسطينيين على النزوح إلى سيناء.
ووفقًا لمصادر رسمية وخبراء عسكريين، فإن الجيش المصري نشر في سيناء نحو 88 كتيبة عسكرية، تضم ما يقرب من 42 ألف جندي، إلى جانب 3 فرق عسكرية كاملة، وأكثر من 1500 دبابة ومدرعة، بالإضافة إلى مشاريع لتطوير المطارات العسكرية وتوسيع ممراتها، وتعزيز شبكات الدفاع الجوي والأرصفة البحرية على البحرين المتوسط والأحمر. ويقارن مراقبون هذه الأرقام بما تنص عليه اتفاقية السلام، والتي تحدد الحد الأقصى للقوات المصرية في المنطقة بنحو 50 كتيبة و22 ألف جندي فقط، ما يوضح حجم الفجوة بين الواقع الحالي والترتيبات الأمنية الأصلية التي وضعت لضمان توازن دقيق في شبه الجزيرة ذات الأهمية الاستراتيجية.
ومن جانبه أكد وزير الدفاع المصري، الفريق أول عبد المجيد صقر، في وقت سابق من أغسطس الماضي، على أهمية الحفاظ على أعلى درجات الجاهزية القتالية للقوات المسلحة، خاصة في منطقة سيناء. وأشار إلى أن “الجاهزية العسكرية ليست مجرد رفع معنويات، بل استعداد حقيقي لمواجهة أي تطورات ميدانية”. وأضاف أن “أي محاولة للمساس بالحدود المصرية حتى مجرد التفكير بها ستفاجئ العالم بما لدى مصر من قدرات غير معلنة.
شهدت القوات المسلحة المصرية طفرة نوعية في تسليحها، خلال السنوات الأخيرة، استهدفت، وفق الموقع الرسمي للهيئة العامة للاستعلامات تعزيز قدرتها الدفاعية والردعية، معتمدة على تحديث شامل ومتنوع لمختلف أفرع القوات المسلحة، مع التركيز على تنويع مصادر التسليح وتعزيز القدرات الذاتية.
في مجال القوات الجوية، تم تعزيز الأسطول بعدد من الطائرات المتقدمة، مثل مقاتلات “رافال” الفرنسية، وطائرات “ميغ-29” الروسية، بالإضافة إلى طائرات “F-16” الأمريكية، أما في مجال الدفاع الجوي، فقد تم تحديث المنظومات الدفاعية لتشمل صواريخ “إس-300” الروسية، ومنظومات “باتريوت” الأمريكية، كما تم تطوير شبكة الرادارات والمراقبة الجوية لتوفير تغطية شاملة للحدود المصرية، وفيما يتعلق بالقوات البحرية، فقد تم تعزيز الأسطول البحري بعدد من القطع البحرية الحديثة، مثل حاملة المروحيات “ميسترال” الفرنسية، والغواصات الألمانية من طراز “209”، بالإضافة إلى زوارق الصواريخ الحديثة، كذلك تم إنشاء عدد من المصانع العسكرية المتخصصة في إنتاج الذخائر والأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بالإضافة إلى تطوير مصانع لإنتاج الدبابات والمدرعات.
في المقابل، تثير التحركات العسكرية المصرية في سيناء قلقًا متزايدًا لدى تل أبيب، خاصة مع تعزيز الوجود العسكري المصري في المنطقة، وتشير وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى نشر دبابات من طرازي “باتون” و”أبراهامز” في محيط معبر رفح، معتبرةً ذلك حشدًا عسكريًا غير مسبوق بالقرب من الحدود، وتعتبر تل أبيب أن هذا الانتشار يشكل انتهاكًا لاتفاقية السلام بين البلدين لعام 1979.

كيف تتحرك مصر الآن؟
يؤكد السفير رخا أحمد حسن، -عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية وعضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة-، في حديث إلى موقع زاوية ثالثة أن ما تقوم به إسرائيل من تصعيد داخل قطاع غزة تصعيد خطير قد يشعل الحرب في المنطق، وهو مرفوض شكلاً وموضوعًا، لأنه يخرق كافة القوانين الدولية، بما فيها القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ويستهدف حقوق الشعب الفلسطيني بشكل مباشر، وينذر بحرب أوسع في المنطقة.
ويضيف حسن أن هذه العمليات العسكرية سوف تنعكس مستقبلًا على إسرائيل نفسها، إذ لن تعيش في أمان وسلام طالما تستمر في سياسة التدمير والإبادة غير المسبوقة، مشيرًا إلى أن المشاهد الميدانية في غزة لم تشهد لها الإنسانية مثيلًا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث يتم هدم المباني بشكل متعمد وتحويلها إلى ما يشبه المقابر، بشكل مقصود. مشيرًا إلى أن التصعيد يأتي في أعقاب القمة العربية الإسلامية، ويشكل تحديًا مباشرًا للأمن العربي وأمن مصر القومي على وجه الخصوص، باعتبارها دولة جارة، وأن ما يحدث في غزة يشكل خطرًا حقيقيًا على استقرار المنطقة.
وبخصوص مخطط التهجير القسري للفلسطينيين، يوضح حسن أن مصر ترفض بشكل قاطع كافة هذه المخططات وتتصدى لها، وتنجح التحركات المصرية والتحذيرات الرسمية في إجبار إسرائيل على التراجع عن بعض خطط التهجير عبر معبر رفح، لكن المخطط العسكري يستمر لتدمير مدينة غزة وحرمان الفلسطينيين من أي مساحة للعيش أو خدمات أساسية، بما في ذلك المياه والصرف الصحي والخيام، ويؤكد أن الهدف من هذه الإجراءات هو دفع الفلسطينيين إلى اليأس، مع صعوبة وجود أي دولة تقبل استقبالهم بالقوة من أرضهم. مشيرًا في هذا السياق إلى تصريحات نتنياهو بأنهم سيهجرون الفلسطينيين بحراً وجواً، بعد التراجع عن فكرة تهجيرهم عبر معبر رفح نتيجة رد فعل قوي من مصر وتحذيراتها من العواقب الخطيرة.
وعن الجهود الدبلوماسية المصرية لوقف العدوان، يشير الدبلوماسي المصري إلى أن القاهرة تواصل تنسيق جهودها مع شركائها الدوليين، بما في ذلك الولايات المتحدة، رغم دعم الأخيرة الكامل لإسرائيل في عملياتها، الأمر الذي يعقد مسار المفاوضات ويجعل من الصعب تحقيق وقف فوري للعدوان. ويرى أن هذه المعطيات تشير إلى أن إسرائيل تنفذ خطتها في تدمير ما تبقى من قطاع غزة، تمهيدًا لتهجير سكانه، وهو ما يجعل استمرار الضغط الدبلوماسي المصري أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على حقوق الفلسطينيين وحمايتهم من التهجير القسري.
ومن جهته، يرى الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، أن مصر سجلت حضورها بشكل واضح، احتجاجًا على استمرار العدوان على قطاع غزة، مشيرًا إلى كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أطلق عبارات غير مسبوقة خلال القمة العربية الإسلامية، أيضًا أكدت مصر بشكل قاطع رفضها لكافة المخططات التي تستهدف تهجير الفلسطينيين أو انتزاع أراضيهم.
ويقول فهمي إن تزايد العمليات العسكرية في قطاع غزة في هذا التوقيت إلى عدة مؤشرات رئيسية، أولًا أن إسرائيل ماضية في مسارها العسكري، حيث يسبق العمل العسكري أي خطوة سياسية في الوقت الحالي، ثانيًا، هناك تقدم واضح نحو احتلال مدينة غزة بالكامل، فحتى الآن وصلت القوات الإسرائيلية إلى نحو 60٪ من مساحة القطاع، وما تبقى محدود”.
ويتابع: “أما بالنسبة لدور مصر، فأرى أنها تحرص على إيصال رسالة واضحة للمجتمع الدولي مفادها أن إسرائيل تمثل دولة مارقة، تتجاوز قواعد القانون الدولي وتخالف الإجراءات المعمول بها، وفي الوقت نفسه، تعزز القاهرة خياراتها السياسية والاستراتيجية والعسكرية في سيناء لمواجهة تصميم نتنياهو على تنفيذ مخطط التهجير.”
ويشير فهمي إلى أن “المواطن الفلسطيني في غزة يواجه واقعًا صعبًا، إذ لا يوجد أمامه أي أفق سياسي: المفاوضات متوقفة، وتصميم إسرائيل على استمرار التهجير مستمر، كما أن الاتصالات المتعلقة بالهدنة المتوقعة لمدة ستين يومًا متعثرة، إضافة إلى قضية الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، كل ذلك يضع المواطن أمام خيار التفكير في الرحيل إذا توفرت له الإمكانيات، خاصة في ظل تمويل بعض المنظمات اليهودية لهذه العمليات”.
ويختم فهمي: “تعمل مصر على جمع كل الخيارات الممكنة بين السياسي والاستراتيجي والأمني والإنساني، وتنسق مع شركائها مثل الإمارات وقطر، التي قدمت محطات تحلية مياه ومستشفيات ميدانية لدعم الفلسطينيين للبقاء على الأرض، ومن المبكر تحديد أعداد النازحين أو المناطق المستهدفة بدقة، لكن من الواضح أن إسرائيل تسعى لتهجير المدنيين، ما يجعل استمرار الضغط المصري ضروريًا للحفاظ على التوازن وحماية المدنيين في القطاع”.
نوصي للقراءة: صفقة الغاز كورقة ضغط.. كيف سترد القاهرة على تهديدات نتنياهو؟

كيف تدير أمريكا لعبة التوازنات في المنطقة؟
جاءت العملية البرية داخل غزة عشية زيارة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إلى تل أبيب، الإثنين، ما وصفه مراقبون بأنه أعطى ضوء أخضر أمريكي للتوسع في العدوان على القطاع وتنفيذ سيناريو التهجير القسري.
وفي السياق تقول إيرينا تسوكرمان، -محللة الشؤون السياسية والأمنية الأمريكية-، في حديث خاص إلى زاوية ثالثة، إن معركة غزة تمثل نقطة محورية في الاستراتيجية الأمريكية بالشرق الأوسط، فهي ليست مجرد مرحلة عابرة من الصراع، بل نقطة تتقاطع فيها بؤر التوتر الإقليمية، ما يضع إدارة ترامب أمام تحدي الموازنة بين التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل والضغوط الدولية المتصاعدة بشأن الأوضاع الإنسانية.
وتوضح إيرينا أن واشنطن تنظر إلى الهجوم على غزة باعتباره جهدًا حاسمًا لتفكيك البنية العسكرية لحركة حماس، وترى أن استمرار سيطرة الحركة على مركز القطاع يعرقل أي مسار للتطبيع مع الدول العربية أو ضمانات أمنية لإسرائيل، ولذلك تركز الإدارة على دعم تل أبيب تحت شعار “حق الدفاع عن النفس”، معتبرة أن تدمير قيادة حماس وبنيتها التحتية شرط أساسي لأي استقرار لاحق، بحسب تعبيرها.
وتشير إيرينا في حديثها معنا إلى أن صناع القرار الأمريكيين يدركون في الوقت ذاته مخاطر الحرب والتوغل الميداني داخل القطاع، حيث الكثافة السكانية العالية تجعل من القتال في غزة عملية محفوفة بالمخاطر. وتخشى واشنطن أن تؤدي العمليات المطوّلة إلى ارتفاع الضحايا المدنيين وتآكل الرصيد الدبلوماسي العربي، ما قد يقوّض التعاون الإقليمي ويفتح المجال أمام حرب ضد السياسة الأمريكية، ولهذا تضغط الإدارة على إسرائيل لضبط إيقاع العمليات وفتح ممرات إنسانية، مع تجنّب أي خلاف علني قد يؤثر على وحدة التحالف.
وتشدد في هذا السياق على أن الجانب الإنساني يثقل كاهل البيت الأبيض، إذ تدرك الإدارة أن صور الدمار والضحايا في غزة تشعل الغضب الشعبي في العواصم العربية وتضع شركاءها الإقليميين مثل مصر والأردن تحت ضغط داخلي، لذلك تعتمد واشنطن مقاربة مزدوجة تقوم على دعم الأهداف العسكرية الإسرائيلية، بالتوازي مع الدفع لوقفات إنسانية وإدخال مساعدات وإجلاء المدنيين، سعيًا إلى تقليل المعاناة دون تعطيل زخم العمليات.
وتضيف أن معركة غزة تشكل أيضًا اختبارًا لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، حيث تطالب الدول الخليجية، خاصة السعودية والإمارات، بضبط التكتيكات الإسرائيلية، بينما تنتظر تل أبيب دعماً غير مشروط، وتستغل الإدارة هذه اللحظة لتأكيد قدرتها على التأثير في الطرفين، معتبرة أن انهيار حماس سيعيد فتح الباب أمام إعادة الاصطفاف الإقليمي بما في ذلك التطبيع السعودي الإسرائيلي. مشيرة إلى أن واشنطن، رغم دعمها العميق لإسرائيل عبر المعلومات الاستخبارية والأسلحة والدعم اللوجستي، تضع حدودًا واضحة لهذا الدعم. فإذا تجاوزت الخسائر المدنية في غزة سقفًا يثير انفجار الشارع العربي، أو تجاهلت إسرائيل الخطوط الإنسانية الأمريكية، قد تضطر الإدارة إلى إعادة تقييم موقفها بفرض شروط على التسليح أو الدفع نحو وقف لإطلاق النار.
وفي السياق الداخلي، لفتت إلى أن البيت الأبيض يدرك أن معركة غزة تؤثر في المشهد السياسي الأمريكي، إذ تثير استقطاباً بين مؤيدين لتل أبيب ومدافعين عن حقوق الإنسان، لذلك تحرص الإدارة على خطاب مزدوج: دعم قوي لتل أبيب، مع إظهار اهتمام بالبعد الإنساني للحفاظ على التأييد الحزبي المزدوج في الكونغرس.
وتعتبر الباحثة الأمريكية أن واشنطن تتعامل مع العملية باعتبارها لحظة فاصلة: فإذا نجحت إسرائيل في تفكيك حماس، ستسعى الولايات المتحدة للانتقال سريعاً إلى مرحلة “ما بعد القتال”، عبر إطلاق خطط لإعادة الإعمار، وآليات لإدارة مدنية محلية بعيدة عن الفصائل، ومشاركة عربية في التمويل والخدمات. أما إذا تحولت الأزمة إلى حرب عصابات طويلة الأمد، فستركز واشنطن على سياسة “الاحتواء” والضغط من أجل وقفات إنسانية منتظمة، مع استمرار الدعم العسكري الدقيق لإسرائيل.
في ضوء هذه التطورات الدامية، تدخل غزة مرحلة هي الأخطر منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، حيث يتقاطع الميدان العسكري مع مسارات سياسية إقليمية ودولية معقدة. فبينما تصر إسرائيل على المضي قدماً في اجتياحها البري لتحقيق أهدافها العسكرية المعلنة، تتنامى المخاوف من تحولات دراماتيكية تطال الأمن الإقليمي برمته، بدءاً من احتمالات التهجير القسري للفلسطينيين وصولاً إلى تهديد استقرار الحدود المصرية. وفي المقابل، تتكثف الضغوط الدولية والعربية المطالبة بوقف فوري للعمليات العسكرية وفتح الممرات الإنسانية، في مشهد يعكس هشاشة التوازنات وعمق الأزمة التي قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة ليس فقط في غزة، وإنما في المنطقة بأسرها.