عكست زيارة وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، مطلع سبتمبر الجاري، إلى قبرص، أبعادًا استراتيجية ترتبط مباشرة بملف الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. ففي لحظة إقليمية مشحونة بالتوترات الأمنية والسياسية، لاسيما بين القاهرة وتل أبيب، تسعى مصر إلى إعادة رسم خريطة احتياجاتها من الطاقة بما يضمن لها هامش مناورة أوسع بعيدًا عن الارتهان لمصدر واحد، وفي القلب من هذا التوجه يبرز الغاز القبرصي كورقة بديلة أو مكمّلة للغاز الإسرائيلي الذي ظل طوال السنوات الماضية ركيزة أساسية لمصادر الطاقة بمصر.
خلال زيارته، التي شملت أجندة عمل مكثفة، لتعزيز التعاون بين البلدين، التقى عبد العاطي الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس، بحضور وزير البترول المصري، لاستعراض العلاقات الثنائية، خاصة في مجال الطاقة، وسبل ربط الحقول القبرصية بالبنية التحتية المصرية، بالإضافة إلى التنسيق السياسي فيما يخص الاتحاد الأوروبي، ما وصفه مراقبون بأنه خطوة مصرية ضمن تحركات أوسع لتأمين مصادر الغاز.
وفي السياق يقول مصدر دبلوماسي مصري لزاوية ثالثة إن بلاده تعمل على تنفيذ خطة عمل لتأمين مصادر الغاز الطبيعي، منها الشراكات الموقعة مع قبرص، وهي شركات ليست جديدة، لكن تم تسريع العمل بها حيث ستبدأ مصر باستقبال الغاز القبرصي في غضون أشهر، بمنتصف عام 2027. وبسؤاله عما إذا كان الغاز القبرصي بديلًا عن الواردات من إسرائيل يؤكد المصدر أنه خيار استراتيجي أمام مصر، ويحق للقاهرة تنويع شركاتها في مجال الطاقة وتعدد مصادرها، خاصة أن قبرص هي إحدى دول منتدى شرق المتوسط وبالتالي يمكن لمصر وقبرص عقد شراكات أوسع تحت مظلته.
يُعد منتدى غاز شرق المتوسط هيئة إقليمية تأسست في يناير 2019، ويتخذ من القاهرة مقرًا رئيسيًا له، ويهدف إلى إنشاء سوق إقليمي للغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط بما يعزز التعاون التجاري ويضمن التوازن بين العرض والطلب بين الدول الأعضاء. وقد تم تدشينه بعد قمة ثلاثية عُقدت في أكتوبر 2018 بجزيرة كريت اليونانية جمعت قادة مصر وقبرص واليونان، واتفقوا خلالها على تنسيق السياسات الخاصة باستغلال الغاز الطبيعي لتحقيق المصالح المشتركة وتسريع الاستفادة من الاحتياطيات الغازية بالمنطقة.
يضم المنتدى في عضويته كلًا من: مصر، قبرص، اليونان، إسرائيل، الأردن، فلسطين، إيطاليا، وفرنسا، فيما تشارك الولايات المتحدة بصفة مراقب، كذلك يتيح المنتدى انضمام أي دولة من شرق المتوسط سواء كانت منتجة أو مستهلكة أو دولة عبور بعد استيفاء شروط العضوية، ويمثل منصة تعاون إقليمي رائدة تهدف إلى الاستغلال الأمثل للاحتياطيات والبنية التحتية للغاز، كما يرتبط بشراكات مع الاتحاد الأوروبي والفاعلين الرئيسيين في صناعة الطاقة، ما يجعله أحد أبرز أطر التعاون الاستراتيجي في المنطقة.
وفي فبراير الماضي، وقّعت مصر وقبرص اتفاقيات جديدة لإعادة تصدير وتسويق الغاز القبرصي، في خطوة تعكس الأهمية الاستراتيجية المتنامية للتعاون الطاقوي بين البلدين، خصوصاً مع تراجع الإنتاج المحلي المصري خلال العامين الأخيرين. وبموجب هذه الاتفاقيات، سيُنقل الغاز المستخرج من حقلي “كرونوس” قبالة الساحل الجنوبي الغربي لقبرص، و”أفروديت” الواقع جنوب شرق الجزيرة، إلى محطات الإسالة المصرية في إدكو ودمياط، ليُعاد تصديره في صورة غاز طبيعي مسال للأسواق العالمية.
وفي تصريحات تلفزيونية أعقبت التوقيع، قدر الأمين العام لمنتدى غاز شرق المتوسط أسامة مبارز، حجم احتياطيات الغاز التي لم يُكتشف بعد في منطقة شرق المتوسط، بنحو 300 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وفقا للدراسات. مؤكدًا أن اتفاقية نقل الغاز من قبرص إلى مصر تمثل خطوة استراتيجية مهمة ستؤثر ليس فقط على البلدين، ولكن أيضًا على أسواق الغاز في المنطقة والعالم.
ويرى مراقبون أن هذه الاتفاقيات مثلت أهمية مضاعفة بالنسبة لمصر في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، إذ يسعى المسؤولون لتعويض تراجع الإنتاج المحلي الذي بلغ أدنى مستوياته منذ عام 2017، واضطر القاهرة إلى زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال. كما أن أزمة العملة الأجنبية وما ترتب عليها من تراكم متأخرات مستحقة لشركات النفط العالمية حدّت من وتيرة الاستثمارات في الحقول المصرية. ومن هنا، يمثل الغاز القبرصي ورقة دعم مهمة لخطط مصر الرامية إلى استعادة قدرتها على التصدير بحلول 2027.
نوصي للقراءة: غاز إسرائيل في مصر.. الصفقة الأضخم منذ عقود

التوترات مع إسرائيل
الزيارة المصرية إلى قبرص تأتي في لحظة تشهد تصاعدًا غير مسبوق لحدة الخلافات بين القاهرة وتل أبيب، حيث لوّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإمكانية وقف العمل باتفاق تصدير الغاز إلى مصر في إطار محاولات الضغط على القاهرة للقبول بطرح التهجير القسري.
في هذا السياق يبرز الغاز القبرصي كخيار استراتيجي يمكن الاعتماد عليه كبديل احتياطي في حال تعرّض الإمدادات الإسرائيلية لأي اضطراب، وتستورد مصر حاليًا من الغاز الإسرائيلي ما بين مليار إلى 1.1 مليار قدم مكعب يوميًا، مع الاتفاق على زيادة الكميات إلى 1.15–1.25 مليار قدم مكعب يوميًا بدءًا من يناير 2026، وبهدف الوصول تدريجيًا إلى 1.5–1.6 مليار قدم مكعب يوميًا بحلول نهاية 2026، بالتوازي مع توسعة البنية التحتية وخطوط النقل.
وفي منتصف أغسطس الماضي، روجت صحف تابعة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، أخبار تفيد بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أصدر تعليمات بعدم المضي قدمًا في تنفيذ صفقة الغاز الضخمة الموقعة مع مصر، قبل نحو شهر بقيمة نحو 35 مليار دولار لتوريد 130 مليار متر مكعب حتى عام 2040، من دون موافقته الشخصية، وذلك بهدف ربط تنفيذ الاتفاق بشروط وضمانات جديدة من مصر، بناءً على ادعاءات بأن القاهرة خالفت معاهدة كامب ديفيد عبر تعزيزات عسكرية في سيناء.
من جانبها اعتبرت القاهرة تصريحات نتنياهو تفتقر إلى “الواقعية”، وجاء الرد حاد على لسان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان، الذي أكد أن ما أعلنه نتنياهو يفتقر إلى الواقعية السياسية والاقتصادية، مؤكدًا أن القاهرة لا ترى في تلك التهديدات خطراً على أمنها واستقرارها في قطاع الطاقة. وقال رشوان في تصريحات متلفزة: “أنصحه أن يلغي الصفقة إن كان قادرًا على تحمّل عواقبها الاقتصادية”، في إشارة واضحة إلى أن الكلفة السياسية والمالية ستقع بالأساس على الجانب الإسرائيلي.
مصر كذلك جددت تأكيدها أنها لن تخضع لأي ضغوط إسرائيلية، سواء في ملف الطاقة أو قضايا غزة والحدود، ووصفت هذه التهديدات بأنها أوراق ضغط سياسي تستهدف النيل من الموقف المصري الثابت تجاه قضية فلسطين ورفض تهجير الفلسطينيين. وأشارت تصريحات رسمية إلى امتلاك مصر القدرة على حماية أمنها القومي واقتصادها، وأن خسارة الصفقة ستكون بالأساس من نصيب إسرائيل.
وفي السياق كشف مصدران، أحدهما دبلوماسي والآخر أمني، لـ”زاوية ثالثة” أن القاهرة لا تلتفت كثيرًا إلى تصريحات نتنياهو بشأن تجميد اتفاق الغاز، وتعتبرها استعراضًا موجّهًا للرأي العام داخل دولة الاحتلال ومحاولة للتغطية على فشل تل أبيب في بلوغ أهدافها في قطاع غزة، وعلى رأسها مشروع تهجير الفلسطينيين. وأكد المصدران أن مصر تضع خطًا أحمر واضحًا يتمثل في رفضها القاطع لأي سيناريو يفضي إلى التهجير، فيما عدا ذلك فهي مستعدة للتعامل مع مختلف المستجدات بحكم ما تمتلكه من بدائل وخيارات استراتيجية في قطاع الطاقة وفي ملفاتها الإقليمية الأوسع.
المصدر الدبلوماسي شدد على أن القاهرة ستفعل خيارات الرد مع الأفعال وليس مع التصريحات، موضحًا أن بلاده قادرة على حماية مواردها وضمان بدائل آمنة، إذ تمضي في تنفيذ اتفاقيات أوسع لتسييل الغاز وتصديره بما يحفظ مصالحها، أما على صعيد العلاقات الثنائية، فقد وصفها المصدران بأنها “الأكثر توترًا منذ سنوات”، مؤكدين أنه لا نية لدى القاهرة في الوقت الحالي للعودة إلى مستوى تبادل السفراء. وفي الوقت نفسه، شددا على أن مصر ما تزال تفضل الخيار الدبلوماسي في معالجة كافة الملفات الخارجية، لكنها تبقى مستعدة لاستخدام كل ما يلزم من أدوات للحفاظ على أمنها القومي وصون مقدراتها الاستراتيجية.
نوصي للقراءة: غاز مصر في إسرائيل: تصديرٌ منخفض التكلفة واستيرادٌ مرتفع يُقيّد الإنتاج المحلي
غاز قبرص كبديل استراتيجي
بدأت ملامح التعاون بين مصر وقبرص في مجال الطاقة بالظهور مع الاكتشافات الكبرى للغاز في شرق المتوسط مطلع العقد الماضي، عندما اكتشفت نيقوسيا حقل “أفروديت” عام 2011، وهو أحد أهم الحقول القبرصية القادرة على تغيير خريطة الطاقة في المنطقة، ومع صعود أهمية الغاز كأداة استراتيجية واقتصادية، وجدت القاهرة في هذه الاكتشافات فرصة لإعادة صياغة موقعها كمحور طاقي إقليمي.
وشهدت السنوات الأخيرة توقيع سلسلة من الاتفاقيات بين القاهرة ونيقوسيا تهدف إلى تحويل الاكتشافات الغازية القبرصية إلى عنصر فاعل في معادلة الطاقة الإقليمية. أبرز هذه الاتفاقيات كان توقيع البلدين عام 2018 اتفاقًا حكوميًا لإنشاء خط أنابيب بحري مباشر لنقل الغاز من حقل “أفروديت” القبرصي إلى محطات الإسالة المصرية في إدكو ودمياط، ليُعاد تصديره إلى الأسواق الأوروبية التي تعاني من أزمة في تأمين بدائل عن الغاز الروسي.
إلى جانب ذلك، عزز البلدان تعاونهما في مجال الربط الكهربائي، ضمن مشروع أوسع يشمل اليونان، يهدف إلى ربط شبكات الكهرباء في شرق المتوسط بأوروبا، بما يفتح مجالًا جديدًا لتبادل الطاقة وتوسيع نطاق الشراكة لكن تحديات تمويلية عطلت جزءا من هذه المشاريع.
ويبقى المشروع المحوري هنا هو خط أنابيب بحري طوله نحو 90 كيلومترًا، يربط أفروديت بتسهيلات حقل ظهر داخل المياه المصرية. ومن المتوقع أن يتيح هذا الخط ضخ ما يقارب مليار قدم مكعب يوميًا من الغاز القبرصي إلى الشبكة القومية المصرية، تمهيدًا لإسالته في محطات إدكو ودمياط التي تتجاوز قدراتها 12 مليون طن سنويًا. فيما تُخطط قبرص لبدء التصدير عبر مصر بين 2027 و2028.
في هذا السياق يقول محمد حامد، -مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات-، إن زيارة وزير الخارجية المصري إلى قبرص ولقاءه مع نظيره القبرصي ورئيس وزراء قبرص تأتي في إطار الأوراق التي تمتلكها القاهرة في منطقة شرق المتوسط، خصوصًا في ملف الغاز، موضحًا أن مصر تسعى للاستفادة من الغاز القبرصي، سواء عبر استهلاكه محليًا أو إعادة تصديره إلى أوروبا، باعتباره بديلًا محتملًا عن الغاز الإسرائيلي، الذي ربما تتعرقل صفقاته نتيجة مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ويوضح حامد أن التحالفات في شرق المتوسط ما زالت متغيرة ومرنة، إلا أن التحالف المصري-القبرصي-اليوناني الذي أرساه الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عام 2014 يظل من أقوى وأثبت التحالفات في المنطقة، مشيرًا إلى أن المتغيرات الإقليمية تشمل الوضع في سوريا والضغوط التركية المتعلقة بترسيم الحدود البحرية مع سوريا، إلى جانب دخول لبنان على خط هذه التفاعلات بعد ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل، واحتمال حسم ملف حدوده مع سوريا قريبًا وفق القانون الدولي وقانون البحار.
ويتابع مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات في حديثه معنا أن التحديات الفنية واللوجستية المتعلقة بالغاز القبرصي قائمة، لكنها مسألة وقت وتكلفة، مشيرًا إلى أن هذا الغاز قد يكون الخيار الأقرب لمصر في الوقت الحالي لتعويض النقص الناتج عن تأزم العلاقات المصرية-الإسرائيلية في ملف الطاقة منذ نحو عامين، وهو ما زاد تعقيدًا بعد الضربة الإسرائيلية للدوحة.
ويؤكد حامد أن سوق الطاقة يشهد تقلبات مستمرة في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، واستمرار العمليات الإسرائيلية في غزة، وتصاعد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وهي عوامل تؤثر جميعها سلبًا على استقرار أسواق الطاقة العالمية. ولفت إلى أن المجتمع الدولي أخفق في التعامل مع هذه الأزمات، سواء فيما يتعلق بخفض أسعار الطاقة أو ضمان سلاسل التوريد والغذاء، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الجوع حول العالم، مؤكدًا أن الأمم المتحدة لم تنجح في إيجاد حلول حقيقية لهذه التحديات خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وتشير تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى أن حوض شرق المتوسط يحوي نحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل من النفط الخام، وفق تقييم 2010. بينما رفعت المراجعة الأحدث الصادرة في يوليو 2021 هذه الأرقام إلى 286 تريليون قدم مكعب من الغاز و 879 مليون برميل من النفط، مع توسيع نطاق التقييم الجيولوجي ليشمل مناطق مقابلة للسواحل المصرية. هذه الأرقام تُظهر أن المنطقة، رغم محدودية نسبتها من الاحتياطي العالمي (5.1% للغاز، و0.15% للنفط)، تحمل ثقلاً استراتيجيًا نظرًا لموقعها الجغرافي والأوضاع السياسية التي تضع أوروبا في سباق محموم نحو بدائل للغاز الروسي.
ماذا تستفيد مصر؟
بحسب دراسة صادرة حديثًا عن المركز المصري للفكرة والدراسات الإستراتيجية للدكتور أحمد سلطان، الباحث المختص في شؤون الطاقة والنفط، يشكل التعاون بين مصر وقبرص في مجال الغاز الطبيعي فرصة كبيرة لزيادة الإنتاج المشترك من حقول الغاز في البحر المتوسط. حقل أفروديت القبرصي يُمثل نموذجًا لذلك التعاون؛ حيث يمكن لمصر الاستفادة من منشآت التسييل لديها لتصدير الغاز القبرصي إلى الأسواق الأوروبية؛ مما يسهم في تحقيق الاستقرار في سوق الغاز الأوروبي، خاصة في ظل الاعتماد الأوروبي المتزايد على مصادر الغاز البديلة.
كذلك تعزز الشراكة بين مصر وقبرص من مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة؛ حيث يمكن لمصر أن تصبح نقطة التصدير الرئيسية للغاز من البحر المتوسط إلى الأسواق العالمية. هذه الشراكة تسهم في تعزيز دور مصر كمركز للطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما يمكن لمصر تحسين قدراتها التكنولوجية في قطاع الغاز وتحقيق فوائد اقتصادية من خلال تصدير الغاز وتوسيعه في الأسواق العالمية.
أيضًا تلفت الدراسة إلى أن التعاون في مجال الغاز الطبيعي يسهم في تعزيز الاستدامة الطاقية لكل من مصر وقبرص؛ حيث سيساعد في تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية. الغاز الطبيعي يعد مصدرًا أقل تلوثًا من الفحم والنفط، ويمكن للبلدين استغلال هذه المورد لتحقيق استدامة الطاقة على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استغلال الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة في مشاريع الطاقة المتجددة، مثل استخدام الغاز لتوليد الكهرباء في محطات الطاقة الشمسية والرياح.
ويرى الباحث أنه يمكن للتعاون بين مصر وقبرص في قطاع الغاز الطبيعي أن يفتح فرصًا لتوسيع الحضور في أسواق جديدة، خصوصًا في القارة الأفريقية. القارة الأفريقية تمتلك إمكانات هائلة من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي والطلب المتزايد على الطاقة؛ مما يتيح فرصة للبلدين لتوسيع شبكة صادرات الغاز وتحقيق نمو اقتصادي كبير.
من الناحية الاقتصادية، يمثل الغاز القبرصي فرصة كبيرة لمصر لتنويع مصادر إمداداتها وتقليل اعتمادها على الغاز الإسرائيلي، الذي قد يتأثر بعوامل سياسية وأمنية خارجة عن السيطرة. إدخال الغاز القبرصي في المعادلة يمنح القاهرة قدرة أكبر على التحكم في تدفق الإمدادات، ويعزز مكانتها كمصدر رئيسي لتصدير الغاز المسال إلى أوروبا. مصر، التي تسعى إلى الاستفادة من بنيتها التحتية الضخمة في إدكو ودمياط، ترى في الغاز القبرصي موردًا إضافيًا يسهم في تحقيق أقصى استفادة من هذه المحطات ويزيد من العوائد الاقتصادية.
أما من الناحية الجيوسياسية، فإن التعاون مع قبرص يعزز شبكة التحالفات المصرية في شرق المتوسط، ويُظهر أن القاهرة قادرة على بناء شراكات بديلة ومستقرة بعيدًا عن الضغوط الإسرائيلية أو التركية. كما أن إدماج قبرص في معادلة الطاقة المصرية يعزز الدور الإقليمي لمصر كوسيط رئيسي بين دول شرق المتوسط وأوروبا، ما يضاعف من تأثيرها في القضايا الاستراتيجية ويمنحها هامش مناورة أكبر في مواجهة الأزمات الإقليمية.
نوصي للقراءة: صفقة الغاز كورقة ضغط.. كيف سترد القاهرة على تهديدات نتنياهو؟
هل الأمر ممكن؟
رغم أن الغاز القبرصي يطرح نفسه كخيار استراتيجي أمام مصر، إلا أن التساؤل الجوهري يبقى حول مدى واقعيته كبديل مباشر للغاز الإسرائيلي. من الناحية الفنية، ما يزال تطوير البنية التحتية لنقل الغاز القبرصي إلى مصر في مراحله الأولية، ويتطلب استثمارات ضخمة وتعاونًا إقليميًا واسعًا، وهو ما يجعل الاعتماد عليه بشكل كامل أمرًا غير ممكن على المدى القصير. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل البعد السياسي لهذا الخيار، إذ يشكل الغاز القبرصي ورقة ضغط في يد القاهرة، تُلوّح بها أمام تل أبيب وأمام الشركاء الأوروبيين على حد سواء. فإبراز وجود بدائل يعزز من قدرة مصر التفاوضية، ويمنحها مساحة أوسع للتحرك في ظل أي تهديدات إسرائيلية بوقف الإمدادات. وعليه، يمكن القول إن الغاز القبرصي لا يمثل في الوقت الراهن بديلاً واقعيًا كاملًا، لكنه خيار استراتيجي يمنح مصر عنصر الأمان الطاقي، ويُستخدم كأداة سياسية ذكية ضمن لعبة التوازنات الإقليمية.
ويرى -المحلل السياسي المختص في شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا-، فادي عيد إن الاعتماد على قبرص في ملف الغاز يظل محدودًا، نظرًا لعدم وجود كميات كبيرة تكفي لتلبية احتياجات المنطقة، مؤكدًا أن ما تملكه قبرص لا يقارن بحقول الغاز الضخمة في مصر وإسرائيل أو بمصادر أخرى في شرق المتوسط، موضحًا أن قبرص فتحت أبواب التعاون على مصراعيها مع إسرائيل، وهو ما يجعلها أكثر ارتباطًا بالمصالح الإسرائيلية من أي طرف آخر، في حين أن القاهرة تتعامل مع هذا الملف بحذر شديد.
ويضيف عيد في تصريح إلى زاوية ثالثة أن التواجد الإسرائيلي المكثف في شرق المتوسط يمثل تهديدًا واضحًا، خصوصًا لقبرص الشمالية (التركية)، حيث تجد قبرص نفسها بين ضغطين: من الشرق حيث تركيا، ومن الغرب حيث إسرائيل. وأشار إلى أنه في حال وقوع صدام مباشر بين إسرائيل وتركيا، فإن لبنان سيكون جزءًا من هذا المشهد المعقد، بما ينعكس على التوازنات الإقليمية برمتها.
ويتابع أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحاول الرد على التحركات اليونانية في البحر، خصوصًا في ظل التعاون المتزايد بين اليونان وإسرائيل، وهو ما يعكس حجم الصراع الجيوسياسي في المنطقة، كذلك يؤكد أن هذه التفاعلات تكشف هشاشة الوضع القبرصي وافتقاره لمصادر طاقة حقيقية يمكن أن تشكل رهانًا استراتيجيًا لمصر أو لدول أخرى في شرق المتوسط. لافتًا إلى أن مصر بحاجة إلى شركاء يمتلكون كميات كبيرة وملموسة من الغاز يمكن التعويل عليها، مثل الجزائر أو قطر أو إيران، بدلًا من المراهنة على موارد قبرص المحدودة. واعتبر أن الرهان على قبرص وحدها لا يحقق الأمن الطاقوي الذي تطمح إليه القاهرة، مشددًا على ضرورة التعامل مع هذا الملف من زاويتيه السياسية والاقتصادية معًا.
من جهته يولي الاتحاد الأوروبي اهتمامًا بالغًا بالتعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان، نظرًا لما يمثله من فرصة استراتيجية لتأمين احتياجاته من الطاقة بعيدًا عن روسيا. هذه الشراكة لم تقتصر على البعد الطاقي فقط، بل امتدت لتشمل التعاون الأمني والسياسي، حيث باتت آلية منتظمة تُعقد عبر قمم دورية بين قادة الدول الثلاث.
لا يمكن مناقشة ملف الطاقة في شرق المتوسط بمعزل عن الدور التركي، الذي يظل أحد أبرز العوامل المؤثرة على أي مشروع تعاون إقليمي. أنقرة تعتبر أن الاتفاقيات الموقعة بين مصر وقبرص واليونان تمثل تعديًا على حقوقها البحرية، وتستند في ذلك إلى رؤيتها الخاصة لترسيم الحدود البحرية، والتي تتعارض مع القانون الدولي للبحار. وقد لجأت تركيا خلال السنوات الماضية إلى إرسال سفن تنقيب إلى مناطق متنازع عليها، وأحيانًا إلى تهديد مشروعات الغاز القبرصية بالتعطيل.
من هذا المنطلق، يمثل التعاون المصري ـ القبرصي تحديًا مباشرًا لسياسات أنقرة، ويُظهر أن القاهرة تسعى إلى بناء محور إقليمي قادر على كبح التطلعات التركية، وفي حال تطورت مشروعات الغاز بين مصر وقبرص بشكل عملي، فإن ذلك سيؤثر بشكل مباشر على النفوذ التركي في شرق المتوسط، خصوصًا أن الاتحاد الأوروبي ينظر بقلق إلى التحركات التركية ويجد في التعاون المصري ـ القبرصي بديلًا مستقرًا وأكثر قابلية للشراكة.
وأخيرًا.. من خلال استعراض مسار التعاون المصري ـ القبرصي، يتضح أن الغاز في شرق المتوسط لم يعد مجرد ملف اقتصادي، بل تحوّل إلى أداة استراتيجية تحدد موازين القوى الإقليمية. فمصر التي تستورد حاليًا الغاز من إسرائيل تجد نفسها مضطرة إلى البحث عن بدائل تضمن لها الاستقرار الطاقي وتمنحها القدرة على مواجهة أي ضغوط سياسية. في هذا السياق، يشكل الغاز القبرصي خيارًا استراتيجيًا، ليس بالضرورة بديلًا كاملًا، لكنه ورقة تضيف إلى قوة مصر التفاوضية وتعزز من قدرتها على بناء تحالفات إقليمية ودولية.
بالإضافة إلى ذلك، الاتحاد الأوروبي يرى في التعاون المصري ـ القبرصي ضمانة لأمنه الطاقي، فيما تعتبر تركيا هذا التعاون تحديًا مباشرًا لطموحاتها. أما على المستوى الداخلي، فإن نجاح القاهرة في تنويع مصادرها وتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة يضيف إلى رصيدها السياسي والاقتصادي في مواجهة التحديات الراهنة. وعليه، يمكن القول إن مستقبل التعاون مع قبرص يتجاوز حدود الغاز والإمدادات، ليشكل جزءًا من رؤية مصر الأوسع لتعزيز استقلالها الاستراتيجي وترسيخ موقعها في معادلة الطاقة الدولية.