أثارت واقعة سرقة قطعة أثرية نادرة تعود إلى عصر الانتقال الثالث، تُعرف باسم “سوار الملك أمنمؤوبي” ويُقدّر عمرها بثلاثة آلاف عام، من مخزن الترميم بالمتحف المصري بالتحرير، صدمة واسعة في أوساط الأثريين، وأعادت التركيز على التحديات التي تواجه العاملين في قطاع الآثار، إلى جانب الثغرات المتعلقة بتأمين المخازن والمواقع الأثرية، وآليات حماية التراث من الفقد أو السرقة.
ووفقًا لبيان صادر عن وزارة الداخلية المصرية، وقعت السرقة في التاسع من سبتمبر الجاري، بأسلوب “المُغافلة”، حيث قامت أخصائية ترميم ببيع السوار لتاجر فضيات مقابل 180 ألف جنيه. وقد نُقل السوار لاحقًا إلى ورشة ذهب بحي الصاغة، ثم إلى مسبك حيث تم صهره وإعادة تشكيله ضمن مصوغات أخرى.
غير أن عددًا من زملاء أخصائية الترميم المتهمة، كشفوا عن خلفيات للقضية التي أثارت جدلًا واسعًا داخل مصر وخارجها، مسلطين الضوء على الظروف الصعبة التي يعاني منها المرممون والعاملون في وزارة السياحة والآثار.
المتهمةتبلغ من العمر نحو 45 عامًا. هي خريجة كلية الآثار، وحاصلة على درجتي الماجستير والدكتوراه، وبدأت عملها كأخصائية ترميم قبل نحو 13 عامًا من خلال عقد مؤقت استمر عشر سنوات، لم يتجاوز خلالها راتبها 1200 جنيه شهريًا. وبعد تثبيتها، ارتفع راتبها تدريجيًا حتى بلغ 6000 جنيه في يوليو الماضي، وهو ما يزال أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ 7000 جنيه، بحسب ما تؤكده زميلتها أخصائية الترميم هالة سعيد (اسم مستعار).
توضح هالة أن المتهمة سبق أن تولت مسؤولية عهدة أحد المخازن الأثرية، وشاركت في ترميم آثار توت عنخ آمون، وكانت محل تقدير مهني، إلا أنها كانت تتحمل مسؤوليات معيشية كبيرة، إذ تعول ابنها الوحيد، إضافة إلى والدتها وشقيقها المريضَين، دون دعم يُذكر من الوزارة.
وتقول لـ”زاوية ثالثة”: “فوجئنا بخبر إلقاء القبض عليها، ولم نكن نصدق التهم الموجهة إليها رغم اعترافها. كانت زميلة خلوقة ومجتهدة، وربما دفعتها الضغوط المعيشية والقروض إلى ما حدث. في جميع الأحوال، تتحمل الوزارة مسؤولية تدهور أوضاعنا. الوزير نفسه صرّح علنًا بأنه لا يعرف كم نتقاضى من رواتب. ومنذ الحادثة، فُرضت علينا إجراءات تفتيش قاسية عند الدخول والخروج، كما لو كنا متهمين.”
وتضيف هالة أن تدني الرواتب دفع العديد من زملائها للعمل في وظائف إضافية مثل خدمات النقل التشاركي أو في المقاهي لتأمين احتياجاتهم. وتُشير إلى انتحار أحد الزملاء مؤخرًا بسبب تراكم الديون، تاركًا خلفه ثلاثة أطفال. وتتابع: “نُطالَب بالالتزام والانضباط يوميًا، رغم أن الأجور لا تكفي للحد الأدنى من المعيشة.”
وترى أن الوزارة، رغم تحقيقها لإيرادات ضخمة بالعملة الصعبة كونها وزارة ذاتية التمويل، لا تضمن حقوق موظفيها، مشيرة إلى أن السنوات العشر التي قضتها بعقد مؤقت لم تُحتسب في سجلها الوظيفي، رغم رفعها دعوى لضمها. كما أن خطة هيكلة الأجور، التي كان من المفترض أن تُزيد الرواتب بمقدار 3000 جنيه، ما تزال متوقفة منذ عامين.
وترى هالة أن القضية يجب أن تُعد جرس إنذار حول خطورة الفقر واليأس، وما قد يدفعان إليه من تصرفات غير قانونية، داعية إلى إصلاحات عاجلة داخل الوزارة.
من جهته، يشارك محمد حسن، موظف إداري بالمجلس الأعلى للآثار، الرأي ذاته، واصفًا أوضاع العاملين في القطاع بأنها “مجحفة”، في ظل تدني أجور الأثريين والإداريين، رغم ما يبذلونه من جهد في الحفريات والمواقع الأثرية، إضافة إلى غياب العدالة في توزيع المكافآت والحوافز. ويرى أن هذه الظروف قد تدفع البعض للانحراف، مستشهدًا بحادثة “سرقة السوار الذهبي”، ومنتقدًا أداء الوزير أحمد عيسى أبو حسين، القادم من خلفية غير أثرية، معتبرًا أن اهتمامه يتركز على قطاع السياحة أكثر من الآثار، في وقت يعاني فيه نحو 28 ألف موظف من ضعف الرواتب وعدم كفايتها لتغطية نفقات السكن والتعليم والعلاج.
ويشير محمد إلى أن الخصومات المفروضة على الرواتب، سواء من الضرائب أو التأمينات، تطال حتى المكافآت، ما يقلل من قيمتها الفعلية، ويُضيف أن بعض الموظفين يتقاضون رواتب تقل عن الحد الأدنى بسبب أخطاء في طريقة احتساب الأجور أُرسلت منذ سنوات، وهو ما دفع عددًا منهم إلى اللجوء إلى القضاء للحصول على حقوقهم. ورغم صدور أحكام لصالحهم، لم تُنفذ حتى الآن، ما اضطر كثيرين للبحث عن أعمال إضافية، من بينها العمل كسائقين على تطبيقات الهاتف أو في وظائف هامشية أخرى لتأمين متطلبات الحياة.
ويُقدّر عدد العاملين في قطاع السياحة والآثار بمصر بنحو ثلاثة ملايين شخص، ولا تتوفر إحصاءات دقيقة لعدد العاملين في مجال الآثار تحديدًا، إلا أن بيانات متفرقة تشير إلى أن أكثر من 29 ألف موظف يعملون في المجلس الأعلى للآثار. وقد بدأ ملف تثبيت العاملين المؤقتين في الوزارة عام 2016، حيث تم حصرهم وإنشاء قاعدة بيانات لهم، وفي عام 2019 جرى تثبيت 2544 منهم على درجات وظيفية دائمة.
أما على مستوى المخازن الأثرية، فيبلغ عددها 72 مخزنًا، منها 35 مخزنًا متحفيًا، و20 مخصصًا لآثار البعثات، و17 مخزنًا فرعيًا في مختلف المحافظات. وتضم مصر سبعة مواقع أثرية مدرجة على القائمة الرئيسية لمواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، بالإضافة إلى 32 موقعًا آخر على القائمة الإرشادية المؤقتة.

أزمات العاملين بقطاع الآثار
يكشف محسن عادل، الموظف بوزارة الآثار، عن سلسلة أزمات يواجهها العاملون في القطاع، تتعلق بالتأمين الصحي، وغياب لائحة مالية موحدة، وتفاوت الرواتب والمكافآت، فضلًا عن ما وصفه بغياب العدالة في توزيع الامتيازات، ووجود شبهات باستغلال الموارد المالية لصالح فئة محدودة من الموظفين. ويرى أن دمج وزارة الآثار مع وزارة السياحة كانت له تداعيات سلبية، أبرزها تحويل موارد وصناديق الآثار إلى قطاع السياحة، ما أضر بالعاملين في مجال الآثار على وجه الخصوص.
ويشير عادل إلى أن أزمة التأمين الصحي تعود لسنوات، حيث يعاني الموظفون من ضعف الخدمات الطبية المقدمة في عيادات التأمين الصحي الحكومي، وانخفاض جودة الأدوية المتوفرة. وأوضح أن نظامًا صحيًا بديلًا كان قائمًا لسنوات، أُلغي لاحقًا دون تحقيق أو محاسبة، رغم ما وصفه بوجود شبهة فساد في هذا الملف.
وفي شهادة لـ”زاوية ثالثة”، يروي عادل حادثة وقعت يوم 24 يوليو الماضي في متحف شرم الشيخ، حيث تعرّض موظف إداري لإصابة خطيرة أثناء استخدامه أدوات كهربائية لا تندرج ضمن مهام عمله، ما استدعى إجراء تدخل جراحي عاجل. ورغم ذلك، رفض المستشفى استقباله بسبب عدم خضوعه لمنظومة التأمين الصحي الشامل المطبقة بشرم الشيخ، إلا بعد دفع 50 ألف جنيه أو التوقيع على إقرار بتحمل المبلغ. ويؤكد عادل أن الحادث لم يُسجل رسميًا كإصابة عمل، ولم يُفتح تحقيق إداري بشأنه.
كما يشير إلى حادثة أخرى تتعلق بتحطم أربعة أباليك من نجفة أثرية نادرة أثناء أعمال تجهيز المتحف ذاته، متهمًا بعض المسؤولين بالتستر على الواقعة، حيث تم ـ بحسب روايته ـ ترقية المسؤول المباشر ومنحه منصبًا رسميًا.
ويؤكد عادل أن غياب لائحة مالية موحدة منذ تأسيس هيئة الآثار عام 1973، أدى إلى تفاوت كبير في الرواتب، حتى بين الموظفين من ذات الدرجة وسنة التعيين. ويضرب مثالًا على ذلك بوضعه الوظيفي، موضحًا أنه يشغل درجة مدير عام منذ عام 2014، ورغم ذلك لا يتجاوز راتبه الشهري 9037 جنيهًا، بينما يتقاضى موظفون أحدث منه تعيينًا رواتب مماثلة أو أعلى. ويرى أن سبب هذا التفاوت يعود إلى اختلاف أنظمة صرف الرواتب بين القطاعات المختلفة داخل الوزارة، ما يُولّد شعورًا عامًّا بعدم المساواة.
ويضيف: “نظام المكافآت يخضع في كثير من الأحيان للاعتبارات الشخصية، إذ تُمنح مكافآت غير مُعلنة لبعض الموظفين تحت مسمى ‘الحظوة’، المفترض تخصيصها لأصحاب الأداء المتميز، كما تُسجل ساعات عمل إضافية مبالغ فيها – تصل أحيانًا إلى عشر ساعات يوميًا – لموظفين بعينهم في قطاعات لا تستدعي ذلك، مثل المتاحف ذات المواعيد الثابتة، وهو ما يمثل إهدارًا محتملًا للمال العام. كما أن المهمات الخارجية تُمنح غالبًا للمقربين أو الموظفين الجدد، على حساب الأقدم والأكفأ. من الضروري فتح هذه الملفات للمراجعة والمساءلة.”
من جانبه، يعرض عثمان محمد (اسم مستعار)، مفتش آثار يعمل بمحافظة شمال سيناء، جانبًا آخر من التحديات، مشيرًا إلى أن بدل المخاطر الذي يتقاضاه لا يتجاوز 20 جنيهًا شهريًا، رغم ما يتعرض له العاملون من مخاطر فعلية في مواقع الحفائر، مثل مواجهة الثعابين السامة كـ”الطريشة”، ولدغات العقارب، إضافة إلى احتمالات السقوط من أماكن مرتفعة. ويشير إلى أن الموظفين مشمولون ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل في المحافظات التي طُبقت فيها المنظومة، إلا أن تعقيد الإجراءات يدفع كثيرين إلى تلقي العلاج على نفقتهم الخاصة، لا سيما عند العودة إلى محل الإقامة خارج تلك المحافظات.
وفي تعليقه على واقعة فقدان الأسورة الأثرية من المتحف المصري، يؤكد عثمان أن الحادثة أحدثت حالة من التوتر داخل القطاع، وتسببت في تشديد إجراءات التفتيش على المرممين والمفتشين عند دخولهم وخروجهم من المخازن والمواقع الأثرية. ويقول لـ”زاوية ثالثة”: “ينبغي تفعيل إجراءات رسمية مثل محاضر إثبات الحالة وتأمين شرطي دائم عند فتح أي مخزن أو التعامل مع قطع أثرية. بعض المواقع تفتقر إلى كاميرات مراقبة أو عناصر من شرطة السياحة، وهو أمر خطير، خاصة في منشآت بحجم المتحف المصري الذي يضم أهم مقتنيات العالم.” ويتساءل: “لماذا لا تُتخذ الإجراءات الوقائية إلا بعد وقوع الكارثة؟ ولماذا لا تُفعّل منظومة المحاسبة قبل أن تحدث الأزمات؟”

فساد مالي ومخالفات قانونية
يكشف عصام علي حسن، كبير أخصائيين بدرجة مدير عام والمدير السابق للشؤون المالية والإدارية بمتحف شرم الشيخ، عن ما وصفه بتجاوزات جسيمة ومخالفات إدارية ومالية تتعلق بصندوق التأمين الخاص بالعاملين في قطاع الآثار، والذي بات محل جدل واسع بين الموظفين، في ظل ما يعتبره غيابًا للإجراءات القانونية والشفافية، مشيرًا إلى وجود تناقضات في الميزانيات وأرقام غير متطابقة، إلى جانب إدراج مصروفات كبيرة تحت بند “عمل تطوعي”.
ويقول في حديثه لـ”زاوية ثالثة”: “مجلس إدارة الصندوق الحالي تسلّم مهامه من المجلس السابق دون تسليم مستندات رسمية، في مخالفة واضحة للقانون. كما لم يتم عقد الجمعية العمومية السنوية المنصوص عليها في القانون رقم 155 لسنة 2024 بشأن التأمين الموحد، والتي تفرض مناقشة الميزانية في مارس من كل عام والإفصاح عن استثمارات الصندوق بشفافية.”
ويشير حسن إلى أن المجلس الحالي، وتحت ضغط بعض أعضائه، اكتشف وجود مخالفات مالية في عهد المجلس السابق تصل قيمتها إلى نحو 3 ملايين جنيه، وأن رئيس المجلس السابق، رجب عيد، يقضي حكمًا بالسجن على خلفية تلك القضية. لكنه يعرب عن استغرابه من تأخر الإعلان عن هذه المخالفات لمدة ثلاث سنوات، ما يثير – على حد قوله – شكوكًا بشأن تواطؤ محتمل أو تقاعس عن اتخاذ الإجراءات.
ويحذر حسن من وجود مقترحات حاليًا برفع نسبة الخصم من رواتب الموظفين إلى 40% من الراتب الأساسي تحت مبرر دعم موارد الصندوق، معتبرًا أن هذه الزيادة تُحمَّل على كاهل الموظفين دون توفير ضمانات عادلة. كما يشير إلى ما وصفه بمساعٍ لإلغاء “استمارة 134″، وهي وثيقة أساسية تُحدد مستحقات الموظف عند التقاعد، بدعوى تسوية أوضاع المخالفين، مؤكدًا أن هذا التوجه يُستخدم – بحسب زعمه – للتغطية على فئة من الموظفين لا يسددون اشتراكاتهم بانتظام، مشيرًا بالاسم إلى أحمد عبيد، مدير مكتب وزير السياحة والآثار، دون أن يصدر أي تعليق رسمي بشأن تلك الادعاءات.
ويؤكد حسن أن محاولات تقديم شكاوى للجهات الرقابية اصطدمت بردود متباينة، إذ أفادت النيابة الإدارية بأن الصندوق كيان خاص لا يخضع لها، بل لهيئة الرقابة المالية أو النيابة العامة، ورغم ذلك لم تؤدِّ الشكاوى المقدمة لتلك الجهات إلى إجراءات ملموسة، بحسب قوله، وظلت قيد الدراسة والتأجيل لمدة تجاوزت ثلاث سنوات.
ويختم بأن أزمة صندوق التأمين تعكس ما يعتبره صورة أوسع لاختلالات داخل القطاع، تتجلى في غياب الشفافية، وضعف الحوكمة، والتلاعب بالموارد المالية، وغياب الرقابة الفعالة، وهو ما يزيد من أعباء الموظفين بدلًا من توفير الحماية الاجتماعية لهم.
تكرار اختفاء المقتنيات الأثرية
يرى الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، أن واقعة سرقة الأسورة الذهبية يجب أن تكون جرس إنذار لإعادة النظر في آليات حماية التراث المصري، معتبرًا أن المشكلة لا تتعلق بحادثة واحدة، بل تعكس اختلالًا مزمنًا في إدارة وتأمين المواقع الأثرية.
وفي حديثه لـ”زاوية ثالثة”، أشار شاكر إلى أن وزير السياحة والآثار نفسه أقرّ بوجود قصور في منظومة التأمين، حيث اعترف بعدم وجود كاميرات مراقبة في غرفة الترميم، وأن إجراءات التسليم والتسلُّم للقطع الأثرية تمت بصورة ودية غير موثقة، واصفًا ذلك بأنه “اعتماد على العشم والعيش والملح”، حسب تعبيره. وأضاف أن وزارة الداخلية أكدت أن مسؤولية التأمين تقتصر على محيط المتحف من الخارج، ما يكشف – بحسب قوله – عن خلل إداري وأمني بالغ الخطورة.
ويؤكد شاكر أن اختفاء المقتنيات الأثرية ليس أمرًا جديدًا، مستشهدًا باختفاء تمثال أوزوريس البرونزي من مخازن المتحف المصري الكبير في عام 2012، والذي لم يُكتشف فقدانه إلا في عام 2019 أثناء جرد المخازن، حيث تبين أن التمثال استُبدل بعملة معدنية مقلدة، وتم التلاعب بوثائق الاستلام وقاعدة البيانات، ما أسفر لاحقًا عن إحالة ثلاثة مسؤولين إلى محكمة الجنايات في عام 2024 بتهم تتعلق بالاختلاس والتزوير وحيازة أموال عامة.
ويشير إلى أن حوادث مشابهة وقعت في مواقع أثرية مختلفة، من بينها الزقازيق وسقارة والمطرية، ما يدل على أن الظاهرة متكررة وتتطلب تدخلًا عاجلًا. ويصف اعتماد بعض المواقع على أفراد الحراسة المعروفين باسم “الغفر” بأنه أحد مظاهر التقصير الجسيم، مشددًا على أهمية توافر منظومة أمنية متكاملة تضم شرطة السياحة، ومفتشي آثار، وحراس مؤهلين، ومندوبين أمنيين، مع تطبيق هذه الإجراءات قبل وقوع الحوادث وليس بعدها.
ويرى شاكر أن زيادة عدد الاكتشافات الأثرية في السنوات الأخيرة لا تعني بالضرورة تقدمًا في حماية التراث، موضحًا أن إبقاء الأثر في باطن الأرض قد يكون أكثر أمانًا في بعض الحالات، خاصة في ظل ضعف البيئة الحافظة وعدم جاهزية المواقع. كما انتقد ما وصفه بـ”تجاريّة المواقع الأثرية”، حيث تم تحويل بعض المعالم إلى أماكن لإقامة الحفلات أو الفعاليات، ما يؤدي إلى فقدان قيمتها الرمزية والتاريخية.
ويحذر شاكر من أن التحديات التي تواجه التراث المصري لا تقتصر على الجانب الأمني، بل تشمل أيضًا عوامل بشرية وبيئية. ويقول إن غياب الوعي الأثري يمثل مشكلة كبيرة، إذ يرى أن نسبة كبيرة من المواطنين يتعاملون مع الآثار بوصفها “كنزًا” لا تراثًا، مضيفًا أن التغيرات المناخية، والمياه الجوفية، والصرف الصحي، تشكل تهديدات حقيقية للمواقع الأثرية، لا سيما في محافظات الوجه البحري، بالإضافة إلى الأضرار البيئية الناتجة عن وجود مصانع قرب بعض المواقع، مثل معبد دندرة في محافظة قنا.
وبشأن دمج وزارتي السياحة والآثار، يعبّر شاكر عن رفضه لهذه الخطوة، معتبرًا أنها أضعفت قطاع الآثار وأضفت ضبابية على مصادر الإيرادات، إذ لا يمكن – بحسب قوله – التمييز بوضوح بين ما يُجنى من الأنشطة السياحية وما يتعلق بالإيرادات الأثرية. ويطالب بإعادة فصل الوزارتين، وتعيين وزير متخصص في الآثار، يمتلك الخبرة الفنية الكافية، مع إجراء عملية جرد شاملة وإصلاح إداري وهيكلي حقيقي للقطاع.
ويختتم شاكر حديثه بالتأكيد على أن ما يطرحه لا يندرج في إطار الاتهام الشخصي، بل هو تعبير عن قلق عميق على مستقبل التراث المصري، داعيًا إلى اعتبار الأزمة الحالية فرصة لإعادة هيكلة المنظومة وحماية تاريخ مصر وهويتها الحضارية.
وتُقدَّر عدد القطع الأثرية المصرية المهربة والمعروضة في نحو 40 متحفًا دوليًا بأكثر من مليون قطعة، إلى جانب آلاف القطع الأخرى التي خرجت بطرق غير مشروعة. وتشير تقديرات سابقة لعام 2023 إلى أن سوق الآثار المصرية غير القانونية يُقدّر بنحو 20 مليار دولار سنويًا.
وفي عام 2017، كشف الدكتور خالد العناني، وزير الآثار المصري آنذاك، خلال جلسة عامة في مجلس النواب، عن اختفاء نحو 33 ألف قطعة أثرية من مخازن الوزارة والمجلس الأعلى للآثار، موضحًا أن نحو 31 ألفًا منها كانت بحوزة أحد المواطنين داخل منزله، وكان قد حاول تسجيلها عقب صدور قانون يسمح بالاحتفاظ بالآثار في المنازل تحت إشراف الوزارة، شريطة عدم بيعها أو التصرف فيها.
وأشار الوزير السابق إلى أن الحل الأنسب لمواجهة سرقات الآثار يتمثل في إنشاء قاعدة بيانات إلكترونية شاملة، معلنًا آنذاك بدء العمل على تنفيذها. كما أطلقت الوزارة في عام 2016 حملة وطنية لإنقاذ مقتنيات المخازن المتحفية وترميمها، ضمن جهود لحماية التراث الوطني وصون الكنوز الأثرية من التلف أو التعدي.

تنظيم المعارض الأثرية بالخارج
ينتقد أسامة كرار، المنسق العام للجبهة الشعبية للدفاع عن الآثار، استمرار خروج قطع أثرية نادرة للمشاركة في معارض خارجية، معتبرًا أن هذا التوجه يتعارض مع قانون حماية الآثار، الذي يمنع تصدير أو نقل القطع النادرة خارج البلاد.
ويقول في حديثه لـ”زاوية ثالثة” إن فقدان أسورة بسوسنس لا ينبغي التعامل معه كحادثة فردية أو خطأ شخصي من موظفة، بل يجب اعتباره نتيجة مباشرة لسياسات المعارض الخارجية، مؤكدًا أن كل مرة يُجرى فيها الإعداد لمعرض بالخارج، تظهر مشكلات تتعلق باختفاء أو تلف قطع أثرية، كما حدث في واقعة كسر تمثال توت عنخ آمون خلال أحد المعارض بأمريكا.
ويشير كرار إلى أن المعارض الخارجية قد تُحقق دخلًا ماليًا، إلا أن العائد لا يُقارن بحجم الخسائر المحتملة، مستشهدًا بتقدير قيمة القطعة المفقودة بـ10 ملايين دولار، في حين أن إجمالي العائد من المعارض لم يقترب من هذا الرقم، بحسب قوله. ويرى أن “حبس المرممة لن يُعيد الأثر المفقود، فالقضية تتعلق بسياسات وإدارة، لا بأفراد فقط”.
كما أعرب عن تحفظه تجاه استمرار إسناد مهمة تنظيم المعارض الخارجية للدكتور زاهي حواس، رغم أنه لا يشغل منصبًا رسميًا بالوزارة، متسائلًا: “كيف يمكن لشخص خارج المؤسسة أن يتولى مسؤوليات بحجم تنظيم المعارض، في حين يجب أن تضطلع الوزارة بدورها الكامل؟”
ويشير إلى ما يصفه بتقصير واضح في تأمين القطع الأثرية، مشيرًا إلى أن غرفة الترميم بالمتحف المصري – التي تضم مقتنيات فريدة – تفتقر إلى كاميرات مراقبة، متسائلًا: “إذا كانت هذه حال المتحف المصري، فماذا عن باقي المخازن في المحافظات؟” ويؤكد أن أي عملية جرد شاملة قد تكشف عن اختلالات واسعة في تأمين وحفظ المقتنيات.
ويكشف كرار عن واقعة سابقة صدر فيها حكم قضائي بالسجن خمس سنوات بحق موظفَين من العاملين بالمتحف الكبير، بعد فقدان قطعة أثرية، مشيرًا إلى أن الأمر لم يُعلن رسميًا لتجنب إثارة الجدل قبيل افتتاح المتحف.
ويرى أن دمج وزارتي السياحة والآثار أسهم في تعقيد الأزمة، حيث تُنسب الإيرادات غالبًا لقطاع السياحة، في حين أن الزائر يأتي من أجل الآثار بالأساس، معتبرًا أن الدمج أحدث ضبابية في المسؤوليات، وداعيًا إلى فصل الوزارتين، وإعادة هيكلة القطاع، وتنفيذ جرد شامل، وتعيين كوادر جديدة أكثر كفاءة.
ويختتم كرار تصريحاته بالتأكيد على أن استمرار سياسة المعارض الخارجية في ظل هذه الظروف ينذر بالمزيد من المخاطر والخسائر، مطالبًا بوقف إرسال الآثار إلى الخارج، والامتثال لنصوص القانون، وإعادة النظر في إدارة هذا الملف الحساس.
وبحسب بيانات رسمية، فقد استعادت مصر نحو 30 ألف قطعة أثرية مُهرّبة خلال العقد الماضي حتى عام 2025، عبر جهود مشتركة بين وزارتي الخارجية والسياحة والآثار، بالتعاون مع الشرطة الدولية وعدد من الجهات الأجنبية المعنية بمكافحة تهريب الآثار. وتوزعت هذه القطع على فترات وعصور مختلفة، وتم استردادها من دول أبرزها المملكة المتحدة، وألمانيا، وأستراليا.
من جانبه، يعتبر الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، أن حادثة المتحف المصري الأخيرة تمثل مؤشرًا جديدًا على أزمة مستمرة من السرقات والإهمال، داعيًا إلى حلول جذرية تتجاوز تحميل المسؤولية لشخص بعينه.
ويقول لـ”زاوية ثالثة”: “إنصاف الأثريين هو بداية الإصلاح، إذ لا يجوز استمرار التفاوت في الرواتب والامتيازات داخل الوزارة نفسها بين العاملين بالآثار ونظرائهم في السياحة”. كما طالب بتوفير تأمين صحي لائق للعاملين، تقديرًا لما يضطلعون به من مهام جسيمة لحماية تراث البلاد.
ودعا ريحان إلى تنفيذ جرد شامل لجميع مخازن الآثار والمتاحف، ومراجعة دفاتر التسجيل والصور، والحذر من محاولات استبدال القطع الأصلية بأخرى مقلدة. كما اقترح رقمنة تلك الدفاتر وربطها بقواعد بيانات محلية ودولية، إلى جانب نشر صور القطع التي تم نقلها إلى الخارج، بهدف طمأنة الرأي العام وتوثيق الأثر.
واقترح تشكيل لجنة علمية عليا تضم خبراء من مجالات الآثار والهندسة والجيولوجيا، لصياغة “كود مصري للترميم”، يُحدد المعايير الفنية للعمل، كما طالب بإنشاء إدارة خاصة لتلقّي تظلمات العاملين بالمواقع الأثرية ومعالجتها مؤسسيًا.
من جانبها، أدانت اللجنة النقابية للعاملين بآثار الوجه البحري وسيناء ما وصفته بتدهور الأوضاع داخل وزارة السياحة والآثار، معتبرة أن حادثة سرقة السوار الأثري تعكس أزمة هيكلية لا يمكن اختزالها في تصرف فردي.
وفي بيان أصدرته عقب الحادث، شددت اللجنة على أن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الموظفة المتهمة، بل على المنظومة بأكملها، متهمة الوزارة بإهمال حقوق العاملين وتجاهل مطالبهم المتكررة، ما خلق بيئة قابلة للانفجار.
وأشارت اللجنة إلى أبرز المشكلات، ومنها تدني الرواتب، ضياع الحقوق المالية، غياب اللائحة المالية منذ عام 2020، التفرقة في صرف المكافآت، وتجميد “الأجر المكمل” منذ عام 2017، إضافة إلى صرف 7 فقط من أصل 16 وحدة حسابية بالمجلس الأعلى للآثار، وفق ضوابط تستفيد منها فئات دون غيرها.
وطالبت اللجنة بفتح تحقيق شامل لا يقتصر على الواقعة الأخيرة، بل يشمل مراجعة الظروف والأسباب التي ساهمت في وقوع مثل هذه الحوادث، داعية إلى تحسين رواتب العاملين، وتوفير آليات تأمين فعالة للمقتنيات والمواقع، والاستجابة العاجلة لمطالب العاملين.
وختمت اللجنة بيانها بالتأكيد على أن التراث المصري “أمانة في أعناق الجميع”، مؤكدة استمرارها في الدفاع عن حقوق العاملين، والعمل على إصلاح الخلل الذي يهدد مستقبل الآثار المصرية.
وفي الختام، تكشف حادثة سرقة سوار الملك أمنمؤوبي عن أزمة مركّبة تتجاوز حدود جريمة فردية، لتسلط الضوء على مشكلات متراكمة في إدارة وتأمين التراث المصري. من ضعف الرواتب، وغياب الحوافز، إلى فساد إداري، وانفلات في منظومة الحماية، واستمرار المعارض الخارجية وسط هشاشة الإجراءات، يبقى الخطر قائمًا على كنوز مصر الحضارية.
ويجمع خبراء الآثار على أن الحل لا يكمن في العقاب الفردي أو المساءلة المحدودة، بل في إصلاح شامل يبدأ بفصل قطاع الآثار عن السياحة، وإقرار لائحة مالية عادلة، وتنفيذ خطة وطنية للرقمنة والتأمين والجرد، بما يضمن حفظ التراث المصري وحمايته للأجيال القادمة.
حادثة السوار الذهبي لم تكن سوى حلقة جديدة في سلسلة من الأزمات التي يواجهها قطاع الآثار في مصر. ما جرى أعاد طرح الأسئلة القديمة حول منظومة الحماية، والعدالة الوظيفية، والإدارة الرشيدة لهذا الملف الحساس. وإذا لم تتحرك الدولة لمعالجة الخلل من جذوره، فقد لا تكون هذه الحادثة الأخيرة.