ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في يوليو الماضي بفيديو، يظهر مُسنة وهي تقبل يد محافظ الجيزة، راجية أن يوفر لها قليل من “اللحمة”، وفيما عده المحافظ حدث يستحق الاحتفاء، بعد قيامه بتلبية طلب السيدة، سادت حالة من الغضب بين المواطنين، الذين رأوا في توسل السيدة امتهان لكرامة المواطن المصري، تتعلق بإهدار حقه الدستوري الأصيل في الحصول غذاء صحي وحياة كريمة.
المشهد، الذي تداوله مصريون بقدر من الأسى وربما الخجل، أعاد تسليط الضوء على أزمة مركبة تتعلق بانهيار القدرة الشرائية لدى محدودي ومتوسطي الدخل، في ضوء تصاعد أسعار السلع الأساسية، وفي مقدمتها اللحوم، يحدث ذلك في الوقت الذي ترتفع فيه الكُلف المعيشية بشكل غير مسبوق، يجد ملايين المواطنين أنفسهم مضطرين لإعادة تعريف احتياجاتهم الأساسية، والتنازل عنها تدريجيًا، حتى تلك المرتبطة بأبسط مقومات الحياة.
يُظهر استبيان أجرته زاوية ثالثة، في ضوء إعداد هذا التقرير، شمل 100 مشارك، يمثلون غالبية محافظات مصر، معظمهم من الفئة العمرية 25-40 عامًا وذوي مستوى تعليمي جامعي، تأثرًا كبيرًا بارتفاع أسعار اللحوم. الغالبية العظمى (89%) تراجعت قدرتهم الشرائية مقارنة بالعام الماضي، مرجعين ذلك بشكل أساسي إلى “ارتفاع الأسعار” (96%). وقد أدى ذلك إلى انخفاض معدل الاستهلاك، حيث يتناول 43% من المشاركين اللحوم مرة واحدة شهريًا فقط. لمواجهة هذا الغلاء، يلجأ معظمهم (73%) إلى شراء كميات أقل. اللافت للنظر هو أن 79% يشعرون بأن عدم القدرة على شراء اللحوم يؤثر على شعورهم بالكرامة. هناك إجماع شبه كامل (100%) على ضرورة تدخل الدولة، مع تحميل الحكومة المسؤولية الأكبر عن هذا الغلاء (52%).
وتُظهر أحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن نسبة الفقر في مصر بلغت 29.7% حتى منتصف 2024، أي ما يقارب 30 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، أي بأقل من 857 جنيهاً شهريًا للفرد. لكن الأهم هو أن هذه الأرقام لا تشمل ملايين آخرين ممن يعيشون “فوق خط الفقر مباشرة” لكنهم يعانون من العجز الغذائي، بفعل ارتفاع الأسعار وتدهور قيمة الجنيه. وفي هذا السياق، يتحدث اقتصاديون عن ظاهرة “الفقر غير المرئي”، حيث لا تُدرج بعض الأسر في الإحصاءات الرسمية رغم عجزها عن تأمين الحاجات الأساسية، وفي مقدمتها البروتين الحيواني. بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى أن النسبة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك.
نوصي للقراءة: الحد الأدنى للأجور في مصر… قانون لا يطبّق على نصف الشعب
سيدة الجيزة ليست وحدها..
في قلب الأحياء الشعبية المصرية، لم يعد اللحم جزءًا من المائدة اليومية أو حتى الأسبوعية. بل تحوّل، بالنسبة لكثير من الأسر، إلى ذكرى مرتبطة بأيامٍ قد لا تعود. شهادات جمعها “زاوية ثالثة” ترصد هذا التحوّل الجذري في علاقة الناس بأحد أبرز مصادر الغذاء، والذي بات، في نظر كثيرين، سلعة بعيدة المنال.
في حي بولاق الدكرور، جلست أم عبد الله، وهي سيدة خمسينية تعمل في تنظيف الملابس، تتحدث بنبرة خافتة عن التغيّرات التي طالت بيتها ومائدتها: “لم نتناول اللحم منذ عيد الأضحى الماضي، أصبح اللحم طعامًا للأغنياء. حين أشتاق إلى مذاقه، أطلب من الجزار قليلاً من الشحم أو الجلد لأضيفه إلى الطعام، فقط ليشعر أبنائي بأن هناك نكهة لحم، لكنها نكهة لا أكثر.”
أما في المرج، فيقول السيد ياسين، وهو سائق مركبة صغيرة يعول زوجة وثلاثة أطفال، إن اللحم كان حاضرًا في بيته أسبوعيًا، لكنه اختفى تمامًا خلال العامين الأخيرين: “كنت أشتري كيلوغرامًا من اللحم كل أسبوع، لأوفر شيئًا من التغذية لأبنائي. أما اليوم، فقد تجاوز سعر الكيلو 400جنيه، وهذا مبلغ لا يمكنني تحمله، نعيش الآن على الفول والعدس والبيض، وأحيانًا يسألني أبنائي: متى نأكل لحمًا؟ فأجيبهم خير بإذن الله.”
وفي عزبة النخل، تحكي السيدة نسرين ع، وهي أرملة وأم لطفلين، عن محاولاتها المستمرة لتأمين الحد الأدنى من الطعام: “لم يدخل اللحم منزلي منذ أكثر من عام. في المناسبات فقط، قد أتمكن من شراء القليل إذا ساعدني أحد الأقارب، أذهب في أوقات متأخرة إلى الأسواق لأشتري أرجل الدجاج بثمن مخفض، أحاول أن أصنع منها شوربة تشعر أطفالي بأننا نأكل بروتين، ولو نفسيًا فقط.”
أما في شبرا الخيمة، فقد بدا التعب على ملامح الحاج منصور، جزار منذ أكثر من ثلاثين عامًا، جلس أمام محلّه الخالي وقال: “في السابق، كان الناس يشترون كيلوين أو ثلاثة من اللحم، اليوم، يمرّ الزبائن ليسألوا عن السعر ثم يغادرون. أحيانًا تطلب مني بعض النساء عظامًا لعمل المرقة، فأعطيهن ما أستطيع دون مقابل، البيع تراجع بشكل غير مسبوق، وكأن اللحم اختفى من حياتنا.”
تعكس هذه الشهادات واقعًا يتجاوز مجرد صعوبة مادية، إلى أزمة غذاء حقيقية تطال الطبقات الأكثر هشاشة. لم تعد المسألة مرتبطة بتغير العادات، بل بغياب القدرة. في بلد يُفترض أن يؤمن الحق في الغذاء لكل مواطنيه، صار اللحم ترفًا مؤلمًا لا يقدر عليه إلا القادرون.
بالإضافة إلى ذلك تكشف البيانات التي جمعناها من خلال الاستبيان بوضوح عن صدمة اقتصادية حادة تعرضت لها الأسر المشاركة، والتي تتكون في معظمها من الفئة المتعلمة وذات الدخل المتوسط في المناطق الحضرية، تراجع القدرة الشرائية لدى 89% من العينة ليس مجرد إحصائية، بل هو دليل على أن الزيادة في أسعار اللحوم فاقت بشكل كبير أي نمو في دخولهم. ومع إشارة 96% إلى “ارتفاع الأسعار” كسبب رئيسي، يتضح أن المشكلة ليست في تغير الأذواق، بل هي أزمة غلاء معيشة مباشرة تضرب ميزانية الأسر في الصميم، وتحول ما كان سلعة أساسية إلى رفاهية بعيدة المنال.
وفي السياق ذاته، تشير البيانات الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) إلى أن نسبة المصريين غير القادرين على تحمّل تكلفة نظام غذائي صحي وصلت إلى نحو 85% بحسب تقديرات منشورة لنتائج عام 2019، وهي واحدة من أعلى النسب عالميًا. كما أن نحو 45% من المصريين غير قادرين على توفير نظام غذائي يفي حتى بالاحتياجات الأساسية من السعرات والطاقة، أي “نظام غذائي متوازن” بأقل تقدير، هذا الوضع يتسبب في استبعاد فئات واسعة من إمكانية شراء البروتينات الحيوانية، مثل اللحوم، التي أصبحت بالفعل بعيدة عن متناول الغالبية الساحقة من المواطنين.
أمام هذا الواقع، لم يكن أمام المواطنين سوى تبني استراتيجيات تكيف إجبارية. الحل الأكثر شيوعًا، وهو “شراء كميات أقل” (73%)، يمثل اعترافًا صريحًا بالهزيمة أمام الغلاء. كما أن لجوء البعض لبدائل أرخص أو الاعتماد على الجمعيات الخيرية لا يعكس خيارات مرنة، بل حلولاً اضطرارية. واللافت للنظر هو أن 60% لا يرون بدائل حقيقية للحوم، مما يعني أن هذه الحلول هي مجرد مسكنات مؤقتة ولا تعوض القيمة الغذائية والثقافية للحوم في نظرهم، مما يفاقم الشعور بالحرمان.
نصيب الفرد يتراجع بشكل مقلق
من جهته يؤكد الدكتور كريم العمدة، -أستاذ الاقتصاد السياسي-، في تصريحات خاصة إلى زاوية ثالثة، أن تداعيات الأزمة الاقتصادية في مصر انعكست بشكل مباشر على نمط استهلاك المواطنين للغذاء، مشيرًا إلى تراجع واضح في نصيب الفرد من البروتين الحيواني خلال السنوات الأخيرة.
ويوضح العمدة أن اللحوم الحمراء كانت تسجل أعلى معدلات استهلاك للفرد في عام 2007، حيث بلغ متوسط نصيب الفرد نحو 13 كيلوغرامًا سنويًا، إلا أن هذا الرقم بدأ في الانخفاض تدريجيًا حتى وصل إلى نحو 7.5 كيلو فقط بحلول عام 2022. وشهدت اللحوم البيضاء والأسماك المسار نفسه، إذ تراجع نصيب الفرد من الدواجن، الذي كان يتراوح بين 14 إلى 16 كيلوغرامًا، كما انخفض استهلاك الأسماك من 23 كيلوغرامًا سنويًا في عامي 2016 و2017 إلى 16 كيلو فقط في 2022.
ويرى العمدة أن هذا التراجع الحاد مرتبط بارتفاع أسعار تلك السلع الأساسية، ما دفع قطاعًا واسعًا من المواطنين إلى تقليل الكميات المستهلكة أو اللجوء إلى بدائل أقل تكلفة، كالنشويات، لتعويض الفجوة الغذائية. وأضاف: “نحن على الأرجح أمام مزيد من التراجع في استهلاك البروتين الحيواني خلال عامي 2023 و2024، في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية، حتى وإن لم تصدر بعد بيانات رسمية حديثة تؤكد ذلك”.
واعتبر أستاذ الاقتصاد السياسي أن هذا التراجع لا يجب أن يُنظر إليه فقط كمؤشر اقتصادي، بل كأزمة صحة عامة أيضًا، لما يمثله انخفاض استهلاك البروتين من آثار سلبية على القدرة الجسدية والإنتاجية للمواطن. ودعا العمدة الحكومة إلى تبني خطة متكاملة للحماية الاجتماعية تضمن توفير مصادر البروتين الحيواني بأسعار معقولة، مشددًا على أهمية التدخل السريع لوقف هذا التآكل في الأمن الغذائي للمصريين.
تتفق معه الكاتبة والباحثة الاقتصادية ميرفانا ماهر، إذ تقول في تصريح إلى زاوية ثالثة إن الأزمة الاقتصادية الأخيرة لم تؤدِ فقط إلى تغيّر في القدرة الشرائية لدى المصريين، بل فرضت تحولًا جذريًا في سلوك الاستهلاك وإدارة ميزانية الأسرة. وتوضح: “لا يمكننا القول إن الناس توقفت عن الأكل والشرب، فهذه أساسيات، لكنها أعادت ترتيب أولوياتها بشكل واضح. هناك تقليل في شراء سلع غير ضرورية، واستبدال كثير من المنتجات المستوردة ببدائل محلية، فضلًا عن التراجع عن بعض أشكال الرفاهية التي كانت متاحة سابقًا.”
وترى ميرفانا أن كثيرًا من الأسر باتت تلجأ إلى إعادة هيكلة ميزانيتها بالكامل، سواء من خلال تقليل الإنفاق، أو الاتجاه المتزايد نحو الشراء بالتقسيط، أو الاعتماد الأكبر على الجمعيات الخيرية في توفير بعض الاحتياجات الأساسية، لا سيما في ما يتعلق بالغذاء.
وتحذر من أن “الفجوة بين الدخل والاحتياجات الأساسية مرشحة للاتساع في الفترة المقبلة، مع إعلان الحكومة عن زيادات جديدة في أسعار الخدمات، كالكهرباء والغاز المنزلي، بالإضافة إلى استمرار خطط إعادة هيكلة الدعم”. وتشير إلى أن دخول معظم الأسر، لا سيما ذات الموارد المحدودة، لا تواكب بأي حال من الأحوال وتيرة الارتفاعات المتتالية في الأسعار.
وفي تعليقها على دور المبادرات الحكومية مثل معارض السلع المخفضة، تؤكد الباحثة الاقتصادية أنها خطوة إيجابية ساعدت جزئيًا في مواجهة الغلاء، لكنها لا تزال محدودة، وتحتاج إلى توسع جغرافي أفضل وانتشار أوسع في المناطق الأكثر احتياجًا.
وفي تعليقها على واقعة سيدة الجيزة تقول ميرفانا: “ما قالته هذه السيدة ليس ظاهرة شاذة، بل هو نموذج معبّر عن الفقر الذي نعرف نسبه جيدًا، ونتجاهل ألمه غالبًا.”
نوصي للقراءة: 70 مليون للمقعد: من يشتري طريقه إلى برلمان مصر؟

ماذا تفعل الحكومة؟ وهل يكفي؟
في مواجهة هذا التراجع الحاد في القدرة الشرائية للمواطنين، أطلقت الحكومة المصرية عددًا من المبادرات للسيطرة على أسعار اللحوم وضمان توفرها بأسعار مخفضة، أبرزها معارض “أهلاً رمضان” و”السلاسل التجارية المخفضة”، بالإضافة إلى التوسع في استيراد اللحوم من دول مثل السودان والبرازيل، وتوفيرها عبر منافذ وزارات التموين والزراعة والقوات المسلحة.
ورغم هذه الجهود، إلا أن أثرها لا يزال محدودًا في نظر خبراء اقتصاديين، نظرًا لأن الأزمة ليست فقط في وفرة المعروض، بل في تآكل الدخول وارتفاع تكلفة المعيشة بشكل عام، فاللحوم المجمّدة المستوردة، وإن كانت أرخص من البلدي، إلا أن أسعارها أيضًا ارتفعت بشكل ملحوظ، إذ بلغ سعر الكيلو منها نحو 180 إلى 200 جنيه، وهو رقم لا يزال بعيدًا عن متناول أسر تعيش على حد الكفاف.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن الحكومة المصرية استوردت خلال عام 2024 أكثر من 200 ألف رأس ماشية لتلبية الطلب المحلي، ومع ذلك لم تنخفض الأسعار، ما يؤكد أن المشكلة ليست في العرض فقط، بل في غياب سياسة شاملة لضبط الأسواق ورفع القدرة الشرائية.
يُظهر الاستبيان الذي أجريناه، حالة إجماع نادرة، حيث يطالب 100% من المشاركين بتدخل الدولة لضبط الأسعار، مما يعكس فقدانًا كاملاً للثقة في قدرة آليات السوق على تصحيح نفسها. هذا الطلب المطلق يضع الكرة في ملعب الحكومة بشكل مباشر، وهو ما تؤكده نتيجة تحميل 52% من المشاركين “الحكومة” المسؤولية الرئيسية عن الغلاء.
نوصي للقراءة: صندوق النقد vs. إمبراطورية الجيش الاقتصادية: كيف يراها؟ وكيف ردت مصر؟

هل نحن أمام أزمة غذاء صامتة؟
في ظل التراجع الحاد في استهلاك اللحوم، وغياب القدرة على تعويضها ببروتينات بديلة بنفس القيمة الغذائية، تطرح الأزمة الحالية سؤالًا هامًا: هل ما نراه اليوم هو مجرد نتيجة للغلاء، أم أننا أمام بوادر أزمة غذاء صامتة تتسلّل إلى المجتمع المصري بهدوء، دون أن تحظى بما يكفي من الانتباه؟
لا تتحدث الجهات الرسمية في مصر عن “أزمة غذاء” بصيغتها المباشرة، غير أن المؤشرات الميدانية والبيانات الأممية تضع البلاد ضمن الدول التي تُواجه فجوة متزايدة في تأمين التغذية السليمة لقطاعات واسعة من السكان. وقد صنّفت منظمة “الفاو” مصر، في تقريرها عن الأمن الغذائي في الشرق الأوسط لعام 2024، كواحدة من الدول التي يعاني سكانها من ارتفاع كبير في تكلفة الغذاء مقارنة بمستوى الدخل، مما يعوق الوصول إلى تغذية متوازنة.
وفي غياب تدخل هيكلي حقيقي، لا تُعد هذه الأزمة ظرفًا طارئًا، بل تحوُّلًا بنيويًا يُعيد صياغة علاقة المواطن المصري بطعامه، فحين تتحول اللحوم إلى ترف طبقي، وينحصر البروتين في البيض أو العدس، وتُصبح “مرقة العظم” حيلة غذائية، فإننا لا نتحدث فقط عن مسألة تموينية، بل عن خلل في بنية العدالة الاجتماعية وغياب للحد الأدنى من الحماية، وفق مراقبين.
بالإضافة إلى ذلك، يحذر خبراء في الاقتصاد والسياسات الاجتماعية من أن الاستهانة بهذه التحولات قد يؤدي إلى نتائج بعيدة المدى، سواء من ناحية الصحة العامة أو الاستقرار الاجتماعي. فالأمن الغذائي ليس رفاهية، بل أساس من أسس الاستقرار المجتمعي. ومع ارتفاع نسب الفقر، وغياب الرقابة على الأسواق، وافتقار السياسات لعدالة توزيعية حقيقية، فإن هوة الغذاء قد تتّسع أكثر، وتتحول إلى مصدر دائم للتوتر والاحتقان.