بعد أكثر من عقدٍ على ثورة 25 يناير التي هدفت إلى تفكيك منظومة النفوذ السياسي والاقتصادي الراسخة في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، يعود إلى الواجهة مجددًا عددٌ من رجال الأعمال البارزين في تلك الحقبة، وعلى رأسهم أحمد عز وهشام طلعت مصطفى.
وقد أثار ظهورهما اللافت في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير جدلًا واسعًا داخل الأوساط السياسية والإعلامية، إذ بدا حضورهما – سواء كضيوف بارزين أو رعاة للفعالية – إشارة رمزية إلى عودة الاعتماد على وجوه النظام القديم في المنظومة الاقتصادية. ورغم أن عز وطلعت لم يختفيا تمامًا خلال السنوات الماضية، فإن مشاركتهما المعلنة في حدث وطني بهذا الحجم أعادت إلى الأذهان أسئلة مؤجلة حول امتداد سياسات ونفوذ رجال عهد مبارك في الحاضر الاقتصادي للدولة.
فبعد سنوات من محاكمة رجل الأعمال أحمد عز عقب ثورة يناير، والحكم الصادر على طلعت مصطفي في اتهامه بقتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم، والابتعاد النسبي عن المشهد العام، عاد الرجلان ليصبحا فاعلين مؤثرين في الاقتصاد المصري؛ إذ استعاد أحمد عز موقعه في سوق الحديد بعد تسويات مالية مع الدولة تخطت حاجز المليار جنيه، فيما عاد هشام طلعت مصطفى عبر التوسع في مشروعات الإسكان الفاخر والتعاون مع جهات حكومية في العاصمة الإدارية الجديدة ومشروعات عقارية أخرى.
لم تكن أدوار أحمد عز وهشام طلعت مصطفى في عهد مبارك اقتصاديةً فحسب، بل شكّلت نموذجًا واضحًا لتزاوج المال بالسلطة. فقد كان عز أحد أبرز رموز ما عُرف آنذاك بـ”الحرس الجديد” — وهو تحالف قاده جمال مبارك داخل الحزب الوطني الديمقراطي — ووجهت إليه اتهامات مباشرة بهندسة المشهد الانتخابي في الانتخابات البرلمانية لعام 2010، وهي آخر انتخابات العهد المباركي، بما يضمن بقاء الحزب الوطني في الحكم وتوسيع نفوذه داخل البرلمان.
في المقابل، جاء صعود هشام طلعت مصطفى من بوابة قطاع الإسكان الفاخر والعقارات، الذي شكّل في تلك الحقبة مساحة خصبة لتقاطع المصالح بين رجال الأعمال والدولة، عبر امتيازات وتشريعات صُممت لخدمة الدوائر الاستثمارية القريبة من السلطة. وبينما يرى منتقدون أن هذه العودة تمثل إحياءً للمنظومة القديمة بوجوه جديدة، تُبرر الحكومة هذا التوجه بأنه استثمار في الخبرات الاقتصادية القائمة لجذب الاستثمارات وتحفيز النمو في ظل الأزمة المالية الراهنة. إذ ترى الدولة في رجال أعمال مبارك “شركاء” في تخفيف أعباء الأزمة الاقتصادية وتمويل المشروعات القومية الكبرى.
نوصي للقراءة: اجتماع مدبولي ورجال مبارك: بداية جديدة أم عودة للقديم؟

أحمد عز
بدأت رحلة صعود أحمد عز في تسعينيات القرن الماضي، وخلال سنوات قليلة أصبح أحد أبرز رموز التحوّل البنيوي في العلاقة بين رأس المال والسلطة خلال حقبة الرئيس الأسبق حسني مبارك. صعد عز سريعًا من إدارة مصنع صغير لدرفلة الحديد في مدينة السادات إلى السيطرة شبه الكاملة على سوق الحديد في مصر، مستفيدًا من سلسلة من صفقات الاستحواذ التي تمت بدعم من تسهيلات مصرفية وعلاقات وثيقة بدوائر صنع القرار الاقتصادي، وتحديدًا بجمال مبارك، النجل الأكبر للرئيس.
وُلد أحمد عز عام 1959 لأسرة تعمل في تجارة مواد البناء، وبدأ نشاطه الاقتصادي عام 1995 حين تقدّم بطلب إلى حسب الله الكفراوي، وزير التعمير الأسبق، للحصول على قطعة أرض بمدينة السادات لإقامة مصنع درفلة الحديد بقيمة لا تتجاوز 200 ألف جنيه. لم يكن اسم عز معروفًا في ذلك الوقت، لكن مشروع “سراميك الجوهرة” الذي أسسه أوائل التسعينيات مثّل نقطة انطلاق مهمة فتحت أمامه أبواب عالم رجال الأعمال.
خلال عامي 1993 و1994، حصل أحمد عز على قروض مصرفية تجاوزت قيمتها مليارًا و600 مليون جنيه، استخدمها في التعاقد مع شركة “دانييلي” الإيطالية لبناء مصنع “العز لحديد التسليح” بطاقة إنتاجية بلغت 300 ألف طن. وبعدها بعامين، وتحديدًا في 1996، تعاقد على إنشاء خط إنتاج جديد بطاقة 630 ألف طن، وفرن صهر بطاقة 600 ألف طن، لتصل التكلفة الإجمالية للمصنع إلى نحو 304 ملايين جنيه.
مع توسّع نشاطه التجاري، بدأ عز يبحث عن “مظلة سياسية” تحمي صعوده الاقتصادي، فاقترب تدريجيًا من جمال مبارك الذي كان نجمه في صعود داخل الحزب الوطني الديمقراطي، الحزب الحاكم آنذاك. وقد مثّل مؤتمر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 1996 نقطة تحول في مسار الرجلين، إذ ظهر عز إلى جوار جمال مبارك للمرة الأولى علنًا، في مشهد رمزي دشّن بداية تحالف جديد بين رأس المال الصاعد والسلطة السياسية.
في عام 1998 أصبح عز من أوائل المساهمين في جمعية “جيل المستقبل” التي أسسها جمال مبارك، وهي الجمعية التي كانت بمثابة منصة لبناء نفوذ اقتصادي وسياسي متبادل بين رجال الأعمال والدائرة المحيطة بنجل الرئيس. ومنذ ذلك الحين شهدت إمبراطورية عز توسعًا كبيرًا؛ إذ احتكر صناعة السيراميك بالشراكة مع محمد أبو العينين، ووسع نشاطه في الحديد، وحصل على مساحات شاسعة من الأراضي في السويس وتوشكى، كما أصبح وكيلاً لاتحاد الصناعات المصرية، وهي مناصب عززت موقعه في دوائر النفوذ الاقتصادي.
بلغت قفزته الكبرى ذروتها عام 1999، حيث استغل عز أزمة السيولة التي واجهتها شركة الإسكندرية الوطنية للحديد والصلب (الدخيلة) نتيجة سياسات الإغراق التي سمحت بدخول الحديد المستورد من أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، فتقدّم بعرض للمساهمة في رأس مال الشركة. وبالفعل، تم نقل جزء من أسهم اتحاد العاملين المساهمين لصالح شركته “العز لصناعة حديد التسليح”، وبعد شهر واحد فقط أُصدر ثلاثة ملايين سهم لصالحه بقيمة 456 مليون جنيه، ليصبح بذلك المساهم الرئيسي في الشركة.
وفي فبراير 2000، تولّى أحمد عز رئاسة مجلس إدارة شركة الدخيلة، وفي العام التالي 2001 أصدر تعليمات بخفض إنتاج حديد التسليح داخل الشركة، ما أدى إلى أزمة سيولة حادة وتكدس نحو 45 ألف طن شهريًا من خام “البيليت”. لاحقًا، اشترى عز تلك الكميات المتراكمة بسعر 68 جنيهًا للطن الواحد لصالح مصانعه في مدينة السادات، حيث أعاد تصنيعها كحديد تسليح، وهو ما اعتُبر حينها استغلالًا لموقعه لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الشركة العامة.
مع مطلع الألفية الجديدة، تُوّج هذا النفوذ بدخوله البرلمان نائبًا عن دائرة السادات في انتخابات عام 2000، ثم اختياره عضوًا بالأمانة العامة للحزب الوطني في فبراير 2002، ضمن ما عُرف حينها بـ” الحرس الجديد” الذي قاده جمال مبارك لإعادة تشكيل الحزب على أسس أكثر قربًا من رجال الأعمال.
ومن موقع عز داخل البرلمان، تولّى رئاسة لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب، وأصبح أحد أبرز وجوه التحالف بين المال والسياسة في عهد مبارك. وبحلول عام 2010 كان عز يسيطر على أكثر من 60% من سوق الحديد المصري، ليصبح أحد أكثر الشخصيات نفوذًا وإثارة للجدل في تاريخ الاقتصاد والسياسة المصرية الحديثة.
بعد ثورة 25 يناير عام 2011 وسقوط نظام حكم حسني مبارك، واجه أحمد عز اتهامات عدّة في قضايا احتكار وتربّح وغسل أموال؛ فقد تم إلقاء القبض عليه في فبراير 2011 ضمن حملة على رجال الأعمال المقربين من النظام السابق. في إحدى القضايا المعروفة بـ”رخص الحديد”، وصدرت بحقه حكماً في سبتمبر 2011 بالسجن عشر سنوات والغرامة نحو 660 مليون جنيه مصري ومن ثم، في مارس 2013، حكمت محكمة جنايات الجيزة عليه بالسجن لـ37 سنة وتغريمه نحو 2 مليار جنيه بتهم بالتربح والاستيلاء على المال العام والإضرار العمد الجسيم بما قيمته خمسة مليارات جنيه مصري، في صفقة استحواذه على شركة حديد الدخيلة.
لكن الأمر لم يتوقّف عند ذلك؛ فقد بدأت الدولة في وقت لاحق سياسة “التصالح المالي” مع بعض عناصر النظام السابق، ومن ضمنهم عز، ضمن مسار استعادت العوائد المالية لدولة تواجه أزمة اقتصادية كبيرة. ففي مارس 2018، قررت محكمة جنايات القاهرة إغلاق آخر قضية جنائية ضد عز بعد أن توصل إلى تسوية مالية مع الدولة بلغت نحو 1.7 مليار جنيه، بما في ذلك نحو 600 مليون جنيه تمّ استردادها من أموال مجمّدة في الخارج.
وفي عام 2021 عاد عز مجددًا في المشهد الاقتصادي، لكن هذه المرة من بوابة صفقة استحواذ ضخمة أعادت اسمه إلى الواجهة؛ إذ استحوذ على كامل حصة رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة في مجموعة حديد المصريين مقابل نحو 2.5 مليار جنيه.
نوصي للقراءة: ماذا تغيّر بعد 4 أعوام من إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان؟

هشام طلعت مصطفي
بدأت رحلة صعود هشام طلعت مصطفى في ظلّ حقبة التزاوج بين المال والسلطة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، كأحد أبرز الوجوه الاقتصادية المقربة من دوائر الحكم. وُلد مصطفى عام 1959 في الإسكندرية، وورث عن والده مجموعة شركات “طلعت مصطفى”، لكنه استطاع خلال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة أن يحوّلها من شركة مقاولات متوسطة إلى إمبراطورية عقارية ضخمة تضم مشروعات تعد الأكبر في تاريخ مصر الحديث، مثل “مدينتي” و”الرحاب” و”فورسيزونز” القاهرة وشرم الشيخ.
في منتصف التسعينيات، لمع نجم هشام طلعت مصطفى، فإلى جانب وراثته مجموعة “طلعت مصطفى القابضة”، استطاع أن يحوّلها خلال أقل من عقدين إلى إمبراطورية عقارية تحظى بامتيازات ضخمة من الدولة، مستفيدًا من موقعه داخل الحزب الوطني وعلاقاته الوثيقة بجمال مبارك وأحمد عز.
منذ عام 1996 بدأ هشام طلعت في الحصول على مساحات شاسعة من الأراضي في شرق القاهرة و6 أكتوبر والإسكندرية عبر قرارات تخصيص مباشرة من هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، بأسعار تقل كثيرًا عن قيمتها السوقية. كان أبرزها تخصيص ثمانية آلاف فدان لإنشاء مشروع “مدينتي” في عام 2005، بموجب عقد مع وزارة الإسكان حصلت بموجبه مجموعة طلعت مصطفى على الأرض دون طرحها في مزايدة علنية، مقابل حصول الدولة على نسبة 7% فقط من الوحدات السكنية المبنية، بالإضافة إلى سداد مستحقات عينية ونقدية بقيمة 12.9 مليار جنيه تساوي نحو 1.7 مليار دولار. — وهي نسبة وُصفت من قبل خبراء ومراكز بحثية بأنها “مجحفة بحق المال العام”.
كذلك حصلت المجموعة على أراضٍ في مشروع “الرحاب” بمدينة القاهرة الجديدة بمساحة تجاوزت 2.2 مليون متر مربع بسعر 900 جنيهًا للمتر في حين تجاوز سعر المتر في السوق آنذاك ألف جنيه ووصلت الآن إلى سعر 90 ألف للمتر، إضافة إلى مساحات أخرى في الإسكندرية وشرم الشيخ أقيمت عليها فنادق “فورسيزونز” و“سان ستيفانو”، في عقود شابها غياب الشفافية وتداخل مصالح بين أطراف من الدولة والمجموعة.
وبعد سنوات من النفوذ الاقتصادي والسياسي، تفجّرت في أغسطس 2008 واحدة من أكثر القضايا إثارة في تاريخ رجال الأعمال المصريين، حين اتُهم طلعت بالتحريض على قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم داخل شقتها في دبي، على يد ضابط الشرطة السابق محسن السكري، مقابل مليوني دولار.
وفي مايو 2009 أصدرت محكمة جنايات القاهرة حكمًا بالإعدام شنقًا على كلٍّ من هشام طلعت مصطفى ومحسن السكري، بعد إدانتهما بتدبير وتنفيذ الجريمة. لكن بعد عام، وتحديدًا في سبتمبر 2010، قضت محكمة النقض بإلغاء الحكم وإعادة المحاكمة، لتنتهي المحاكمة الثانية في سبتمبر 2010 أيضًا بحكم جديد يقضي بـ السجن 15 عامًا لهشام طلعت، والسجن المؤبد للسكري.
ورغم صدور الحكم، لم تغب نفوذ مجموعة طلعت مصطفى عن السوق؛ إذ استمرت مشروعات “مدينتي” و“الرحاب” و“فورسيزونز” في التوسع، عبر إدارة أشقائه ومجلس الإدارة الذي حافظ على مواقعهم داخل المجموعة.
وفي يونيو 2017، صدر عفو رئاسي عن هشام طلعت مصطفى ضمن قائمة تضم مئات السجناء، ليعود إلى المشهد الاقتصادي بشكل رسمي، ويستعيد موقعه تدريجيًا عبر شراكات استراتيجية مع الدولة في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة ومشروع “نور” شرق القاهرة.
وفي أغسطس عام 2023، قضت محكمة جنايات القاهرة، بقبول الطلب المقدم من رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى برد اعتباره في قضية مقتل النجمة اللبنانية سوزان تميم عام 2008، وذلك بعد مرور 6 سنوات على خروجه من السجن.
ويترتب على “رد الاعتبار” محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمدان وزوال كل ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية (الترشح والتصويت في الانتخابات) وغيرها، بحسب المادة 552. ومنذ ذلك التاريخ عاد اسم طلعت مصطفى إلى كشوف الناخبين مرة أخرى، في الوقت الذي لم يستطع العديد من السياسيين الذين أنهوا محكوميتهم في تنفيذ حكم رد الاعتبار وفقًا لتقرير نشرته زاوية ثالثة بعنوان ممنوع من التصويت: مصريون أنهوا عقوبتهم لكن حُرموا حق الانتخاب.
نوصي للقراءة: كل ما نعرفه عن إمبراطورية «الجيش المصري» الاقتصادية

واجهة مدنية للمؤسسة العسكرية
يرى الباحث الاقتصادي إلهامي المرغني، في حديثه لـ “زاوية ثالثة”، أن عودة وجوه محسوبة على نظام مبارك إلى صدارة المشهد الاقتصادي الرسمي تعبّر عن استعادة رموز هذا النظم لمواقعهم القديمة “بكل ما حملوه من فساد ومحسوبية”، مشيرًا إلى أن ظهور أحمد عز في افتتاح المتحف المصري الكبير، رغم مطالبته سابقًا بإباحة تجارة الآثار، يعد “مؤشرًا سلبيًا يعكس فقدان الدولة لحساسيتها تجاه ذاكرة المصريين السياسية ولدى المواطن المصري عمومًا”.
ويضيف المرغني أن أسباب عودة رجال مبارك إلى الواجهة ترتبط بحاجة الرأسمالية الحاكمة اليوم إلى “واجهة مدنية” ترد بها على الانتقادات والضغوط المتزايدة من مؤسسات التمويل الدولية بشأن اتساع النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية ودور العسكريين في إدارة قطاعات اقتصادية حيوية. ومن ثم، يرى أن النظام لم يسعَ فعليًا إلى بناء نخبة جديدة تعبّر عن توجهاته وسياساته، بل فضّل الاستعانة بـ “الحرس القديم” كرمز للوجه المدني للحكم، في محاولة لتجميل الواقع الاقتصادي الراهن.
ويتابع أن هذه العودة “تكشف أزمة في البنية الطبقية للنظام الحالي، ومحاولته المستمرة البحث عن مساحيق تجميل لسياساته وقوانينه – بحسب وصفه– عبر أسماء معروفة من عهد مبارك”، معتبرًا أن ذلك ما أثار حفيظة الرأي العام وكل من يربط هذه الوجوه بمرحلة الفساد التي فجّرت ثورة يناير. فمن يتأمل مسيرة هؤلاء الرجال — كيف بدأوا، وكيف راكموا ثرواتهم، وكيف تحولوا من رجال أعمال إلى صُنّاع قرار — يجد مبررًا واضحًا للغضب الشعبي الذي أعقب عودتهم وتصدرهم للمشهد مجددًا.
من جهته يرى أكرم إسماعيل، عضو اللجنة المركزية لحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، أن أحمد عز يمثل واحدًا من أكبر الإمبراطوريات الصناعية في مصر، إذ تُعد مجموعة حديد عز “قلعة صناعية كبرى” تمتد جذورها إلى حقبة مبارك، بغضّ النظر عن علاقته الوثيقة آنذاك بـ “جمال مبارك”. مشيرًا إلى أن عز، بعد تجربة السقوط السياسي وما واجهه عقب ثورة يناير، أصبح “أكثر خضوعًا لرغبات الأجهزة”، فحين يُطلب منه المساهمة في تمويل أو دعم مشروع ما “يستجيب دون تردد”، بخلاف رجال أعمال آخرين مثل نجيب ساويرس، الذي احتفظ بهامش من الاستقلال المالي والسياسي نتيجة امتداد أنشطته الاقتصادية إلى خارج مصر، وعدم ارتباطه المباشر بنظام مبارك أو بأجهزته الأمنية.
ويضيف إسماعيل أن شخصيتي هشام طلعت مصطفى وأحمد عز هما “الأكثر قربًا من الدولة وأجهزتها”، وهما بدورهما يستفيدان من تلك العلاقة ويحرصان على تلبية رغباتها، ما يجعل ظهورهما في مشروعات قومية كبرى، مثل افتتاح المتحف المصري الكبير، أمرًا مقصودًا ومحمولًا على دلالات رمزية. فالمتحف، بحسبه، “مشروع بدأ في عهد مبارك واستُكمل في عهد السيسي، وكان من الطبيعي أن تظهر بعض الوجوه التي شاركت في تأسيسه ضمن مشهد افتتاحه”، خاصة أن بعضهم ساهم فعليًا في تمويل المشروع ورعايته التسويقية.
ويرى إسماعيل أن الاستمرارية بين نظامي مبارك والسيسي قائمة، لكن مع تحوّل جوهري في طبيعة الطبقة الرأسمالية. ففي عهد مبارك، ارتبط رجال الأعمال بشبكة مصالح سياسية ضيقة تمحورت حول مشروع التوريث وجمال مبارك، بينما في عهد السيسي “تم قصقصة أظافر هذه الطبقة القديمة” واستُبدلت بشبكة جديدة من رجال الأعمال “المرتبطة ارتباطًا بنيويًا بالجهاز البيروقراطي والدولة”، حيث تلعب المؤسسة العسكرية دورًا أكبر في إدارة الاقتصاد، بينما تحافظ وجوه مثل عز وطلعت مصطفى على حضورها كـ “واجهة مدنية للنظام”، دون أن تكون صاحبة مشروع للمشاركة في الحكم كما في السابق.

عجز في تجديد الوجوه
في المقابل، يرى الكاتب الصحفي محمد سعد عبد الحفيظ، عضو مجلس نقابة الصحفيين، أن عودة أحمد عز إلى الواجهة العامة ليست تفصيلًا عابرًا، بل “إشارة” أعادت إلى أذهان الجيل الذي حضر وشارك في ثورة يناير ما حدث من إفساد للحياة السياسية والاقتصادية في عهد مبارك، وتحديدًا رجل الظل الذي ارتبط اسمه بتوريث السلطة وبـ“هندسة” انتخابات 2010 التي مثّلت القشة التي قصمت ظهر نظام مبارك.
ويضيف عبد الحفيظ في حديثه إلى زاوية ثالثة أن عز لم يكن مجرد رجل أعمال احتكر صناعة الحديد وراكم ثروات عبر صفقات مشوبة بالفساد، بل كان عنوانًا لاحتكار المجال السياسي نفسه، عبر دائرة مغلقة محسوبة على جمال مبارك وأمانة السياسات، وهي الدائرة التي مهّدت لما عُرف حينها بمشروع التوريث.
ويتابع أن عودة هذه الوجوه في لحظة سياسية حساسة تشهد استعدادًا للانتخابات برلمانية “مهندسة”– بحسب وصفه– تثير استياءً واسعًا لدى الجيل الذي شارك في ثورة يناير، معتبرًا أن استدعاء رموز مجموعة جمال مبارك تحديدًا “يفتح جرحًا قديمًا”، ويذكّر الناس بالأسباب التي دفعتهم للنزول إلى الشارع في 2011.
ويحذّر عبد الحفيظ من أن “إعادة طرح مخلفات نظام مبارك في لحظة يعاني فيها المصريون من إخفاقات اقتصادية وسياسية” تمثل قراءة قصيرة النظر من السلطة، لأنها تتجاهل أن سقوط النظام الأسبق بدأ من تلاعبه بالانتخابات وإقصاء معارضيه، وهو ما يرى أنه يتكرر اليوم وتحديدًا في الانتخابات البرلمانية.
ويختم بقوله إن “استدعاء رجال أمانة السياسات مجددًا إلى مقدمة المشهد لا يخلو من دلالات مقلقة”، إذ يكشف عن عجز النخبة الحاكمة عن تجديد دمائها أو بناء قاعدة مدنية حديثة، والاكتفاء بإعادة تدوير الوجوه القديمة، بما قد تكون له “عواقب وخيمة على النظام السياسي نفسه إن لم يُراجع هذا المسار”.
في السياق، ترى منى عزت، الباحثة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي، أن ظهور أحمد عز في احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير لم يكن مفاجئًا ، قائلة إن “عز لم يختف أصلًا عن المشهد العام”، إذ ظلّ حاضرًا خلال السنوات الماضية في لقاءات رسمية ومناقشات اقتصادية دعت إليها الحكومة، كما شارك في لقاءات مصورة ضمن الحملات التمهيدية للاحتفال. وتضيف أن شركاته واصلت نشاطها دون انقطاع، ما يجعل الغضب الشعبي الذي تسبّب فيه ظهوره مفهومًا، لكنه “ليس مربط الأزمة”.
وتوضح منى أن جوهر المشكلة لا يكمن في حضور هذه الوجوه للفعاليات الرسمية، بل في استمرار السياسات الاقتصادية ذاتها التي كرّست التفاوت الطبقي وعمّقت الأزمات الاجتماعية، مشيرة إلى أن الدولة ما زالت تستدعي رجال أعمال محسوبين على الحقبة السابقة، بدلاً من الاستعانة بخبراء واقتصاديين يقدّمون بدائل حقيقية للخروج من المأزق الراهن. وتقول إن “الوجوه التي يجري تهميشها” — من اقتصاديين وغيرهم من الأكاديميين والباحثين — لطالما حذّروا من مخاطر الإصرار على نفس النهج التنموي القائم على التشييد والعقارات، دون الالتفات إلى إصلاحات إنتاجية أوسع.
وترى الباحثة أن الدولة بحاجة إلى إعادة النظر في أولوياتها الاقتصادية، فالتركيز المفرط على قطاعات مثل البناء والسياحة، رغم أهميتها، لا يمكن أن يضمن استقرارًا طويل الأمد في ظل هشاشتها أمام الأزمات العالمية — كما أظهرت تجربة جائحة كورونا والحروب الإقليمية. وتشدد على أن “القوة الاقتصادية الحقيقية تنبع من التنوع”، أي من وجود قاعدة إنتاجية وصناعية وزراعية متماسكة، بما يخلق فرص عمل أوسع، ويحد من احتكار قلة من رجال الأعمال لدفة الاقتصاد وتوجيهها بما يخدم مصالحهم الخاصة.
وتختم عزت بالقول إن “عودة هذه الوجوه ليست سوى انعكاس لغياب رؤية اقتصادية جديدة”، فبدلًا من الاعتماد على رأسمالية المحاسيب القديمة لتجميل المشهد الاقتصادي، كان الأجدر توسيع دائرة المشاركة لتشمل الخبراء المستقلين والفاعلين القادرين على طرح حلول تنموية مستدامة تراعي العدالة الاجتماعية وتحسين مستوى المعيشة.
تُظهر عودة أحمد عز وهشام طلعت مصطفى إلى واجهة الاقتصاد المصري بعد أكثر من عقدٍ على ثورة يناير أن منظومة التحالف بين رأس المال والسلطة لم تُفكَّك فعليًا، بل أُعيد انتاجها بصيغ جديدة تتلاءم مع الظرف السياسي والاقتصادي الراهن.
وفي الوقت الذي ترى الدولة في هؤلاء “رجال مبارك” وسيلة لدعم الاقتصاد في أزمته، فإنّ قطاعات واسعة من السياسيين والخبراء ترى في عودتهم رمزًا لاستمرار نهج الاحتكار وغياب العدالة الاقتصادية الذي فجّر ثورة يناير في الأساس.