تصاعدت مؤخرًا جرائم العنف المرتبطة بوقائع تنفيذ إخلاء عقارات “الإيجار القديم”، بعد تعديل القانون، متنوعة بين تنوعت بين التهديدات والاعتداءات اللفظية أو الجسدية، ووصل بعضها إلى ارتكاب جرائم قتل أو شروع في قتل، على خلفية رغبة الملاك في طرد المستأجرين أو رفع القيمة الإيجارية للوحدات السكنية.
وكانت المحكمة الدستورية العليا، أقرت في نوفمبر 2024، بعدم دستورية الفقرة الأولى من كل من المادتين 1 و2 من قانون 136 لسنة 1981 بشأن الإيجار القديم، والتي كانت تُبقي على ثبات الأجرة السنوية دون تعديل، وأعقبها جدلًا واسعًا، وتصاعدت وتيرة النزاعات بين ملاك ومستأجري العقارات وبعضها تحول إلى جرائم عنف.
وبعد أيام من الحكم، قُتل ابن مالك عقار، على يد مهندس، مستأجر بنظام القانون القديم، إثر نشوب مشاجرة عنيفة إثر محاولة ورثة المالك إخراج المستأجر بالقوة أو التضييق عليه، فطعن الثاني ابن المالك بمطواة، تسببت بوفاته. لكن الحادث لم يكن سوى الحلقة الأولى في سلسلة من جرائم العنف المشابهة، التي شهدها العام 2025، إذ قُتل سائق “توك توك” في حلوان، في مايو الماضي، بسبب دفاعه عن سيدة مسنّة (قريبة والده) أثناء نزاع حول شقة مؤجرة بنظام “الإيجار القديم”.
السيدة كانت مهدّدة بالطرد من قبل مالك العقار وأحد أبنائه، فدخل الضحية في مشاداة للدفاع عنها، لكن تم طعنه بالسكاكين وتوفي متأثّرًا بإصابته، وخلال الشهر نفسه حرر سكان عقار في حي كرداسة بالجيزة محضرًا يتهمون فيه المالك بإشعال النيران عمدًا في مدخل العقار والطوابق السفلية لتهديدهم وتلفيق ذريعة أن عقاره المؤجر بنظام الإيجار القديم “غير آمن” لإجبارهم على الإخلاء.
وسرعان ما تصاعدت وتيرة تلك الجرائم مع إقرار البرلمان، بالأغلبية لتعديلات القانون، وصدّق عليه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في أغسطس الماضي، ونص على زيادة القيمة الإيجارية تدريجيًا ومنح المستأجرين مهلة 7 سنوات لإخلاء الوحدات السكنية، ما أثار مخاوف من الطرد الجماعي لدى ٦ ملايين مستأجر، وفق التقديرات.
في يوليو الماضي، تعرضت سيدة مسنة وابنتيها للاعتداء من مستأجرين بمدخل العمارة السكنية التي تمتلكها بمدينة المنصورة في محافظة الدقهلية، على خلفية نزاع إيجاري، إذ قام المُستأجر بإغلاق باب العمارة لمنع خروج الأم، ثم اعتدى عليها بالضرب عند محاولتها الخروج لجمع القمامة، وتعرضت ابنتيها أيضًا للضرب والسحل أثناء تدخلهما للدفاع عنها، وفي أغسطس، وقعت مشاجرة عنيفة بمنطقة كرداسة بمحافظة الجيزة، اُستخدم فيها مسدّس خرطوش وآلات حادة بين مالك شقة ومستأجرها وبرفقته آخرين، بسبب محاولة المالك طرد المستأجر، مما أسفر عن إصابة 5 أشخاص، بينهم المالك والمستأجر.
وخلال الشهر نفسه، ضرب مُستأجر، بحي الزاوية الحمراء، في القاهرة، نجل مالك العقار بقطعة حديدية على رأسه، متسببًا بعاهة مستديمة، وذلك بعد خلافات متكررة وتهديدات متبادلة بسبب رغبة المالك في استرداد الشقة، وفي واقعة أخرى، سكب مالك عقار في منطقة المعصرة، (بنزين) على مستأجر وأشعل النار به بسبب خلافات مالية حول القيمة الإيجارية.
وفي سبتمبر 2025 تعرض مسن يبلغ من العمر 73 عامًا وأفراد من أسرته لاعتداء بالسلاح الأبيض من قِبل نجل صاحب العقار الذي يقيمون به في منطقة دار السلام بالقاهرة، في محاولة قاسية لإجبارهم على ترك الشقة التي يستأجرونها بنظام الإيجار القديم.
كذلك نقلت صحف محلية استغاثة لسيدة، تعرضت للضرب على يد ملاك العقار التي تسكن في إحدى الشقق الكائنة فيه بنظام الإيجار القديم لمحاولة طردها خارج الشقة على الرغم من عدم انتهاء عقدها والذي يبلغ مدة إيجاره 59 عامًا، بينما تقدم رجل مسن ببلاغ يشكو خلاله نجل مالك العقار الذي يستأجره منذ سنوات حاول إجبار عائلته على ترك الشقة عبر العنف والتهديد المستمر، بحسب الشكوى، المالك انتهج أساليب ضغط، بما فيها الاعتداء الجسدي.

وبحلول أكتوبر الماضي، تعرض مستأجر مسن، يقطن بشقة إيجار قديم في حي الجناين بمحافظة السويس، للصفع من مالك العقار، بسبب خلافات مع المالك على الإيجار ومحاولة الثاني إجبار الأسرة على إخلاء الوحدة السكنية، كما تناقلت وسائل إعلامية، استغاثة طالبة من ذوي الإعاقة الحركية، تعيش مع والدتها في شقة بنظام “الإيجار القديم” في شبرا الخيمة، واتهمت المالك وأفراد عائلته بممارسة تهديدات وإهانات لفظية وجسدية يومية، ضدّها ووالدتها، ويقطعون عنهما المياه والكهرباء لمحاولة إرهابهما ودفعهما إلى الإخلاء.
كذلك نشر مواطن مصري أمريكي، يدعى كريم تركي، يسكن بشقة والده المتوفي بشارع الملك فيصل في الجيزة، مستأجرة بنظام الايجار القديم، فيديو استغاثة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إثر تعرضه للاعتداء بالضرب من ملاك العقار، ومحاولتهم لتحطيم سقف الشقة.

وبحسب تعداد عام 2017، يوجد حوالي 3.02 مليون وحدة عقارية خاضعة لنظام الإيجار القديم في مصر، والتي تمثل 7% من إجمالي الوحدات العقارية في البلاد. منها 1.88 مليون وحدة تستخدم للسكن، بينما تستخدم 575 ألف وحدة لأغراض تجارية، ويوجد حوالي نصف مليون وحدة أخرى مغلقة.
ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تضم القاهرة وحدها 670 ألف أسرة (حوالي 41%)، والجيزة 308 ألف أسرة (18.7%)، والإسكندرية 213 ألف أسرة (12.9%)، وتشكل هذه المحافظات الثلاثة ما يقارب 82% من إجمالي الأسر التي تستفيد من عقود الإيجار القديم.

وبحسب الإحصائيات، تسدد ثلث الأسر المستأجرة بعقود الإيجار القديم، أو نحو 600 ألف أسرة، إيجارات تقل عن 50 جنيهًا في الشهر، بينما تسدد 20% من الأسر، أو 327 ألف أسرة إيجارات تتراوح بين 50 و100 جنيه شهريًّا، أما الأسر التي ترتفع إيجاراتها الشهرية إلى ما بين 100 و200 جنيه، فتمثل 19% من الأسر أو 307 ألف أسرة، يسدد الثلث المتبقي من الأسر إيجارات تتراوح بين 200 إلى أعلى من 900 حنيه شهريًّا.
نوصي للقراءة: مصر: ظلال قاتمة لقانون الإيجار القديم

تهديد الأمن الاجتماعي
يُحذّر الدكتور سعيد صادق، – أستاذ علم الاجتماع السياسي-، من التداعيات الاجتماعية الواسعة لقانون الإيجار القديم الجديد، مؤكدًا أنّ شريحة واسعة من المستأجرين لن تتمكن من التكيف مع التزامات الإيجار الجديدة، ما قد يقود إلى نزاعات تمتد من الخلافات الودية إلى العنف، أو الدخول في قضايا طويلة بين الملاك والمستأجرين.
ويشير إلى أنّ انتهاء مدة السنوات السبع التي يمنحها القانون يضع الأسر تحت ضغط نفسي هائل، إذ يعيش كثير من المستأجرين حالة من عدم الأمان يصفها بأنها “قدم داخل البيت وقدم خارجه”، غير قادرين على تحديد مستقبلهم السكني، أو إيجاد بديل مناسب بالأسعار الحالية التي يراها “غير واقعية”، مؤكدًا أن عملية البحث عن مسكن بديل ستصاحبها معارك يومية، سواء مع الملاك أو في سوق الإيجارات، في ظل ارتفاع غير مسبوق في الأسعار.
يقول لـ”زاوية ثالثة”: “السكن ليس رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل هو من أساسيات الحياة؛ فالفرد يحتاج إلى جدران تستره، والانتقال القسري من مسكن إلى آخر يعني تغييرًا اجتماعيًا ومعيشيًا قاسيًا قد يطيح باستقرار الأسر، ويجعل المجتمع في حالة صدام طبقي”، مشددًا على أن الخوف من فقدان المسكن سيخلق حالة من عدم الأمان الاجتماعي، نظرًا لأن البيت هو مصدر الأمان الأول للفرد، وفقدانه يؤدي إلى ضغط وقلق شديدين، قد يصلان في بعض الحالات إلى اضطرابات داخل الأسر، خاصة بين كبار السن أو العائلات التي لا تملك بدائل سكنية.
ويضيف أن فئات محدودة فقط ستتجاوز هذه المرحلة بهدوء، أولئك الذين يمتلكون القدرة المالية ويستطيعون دفع الإيجار الجديد أو التفاوض المبكر مع الملاك لإبرام عقود جديدة، أما الفئات الأكثر هشاشة، مثل أصحاب المعاشات، والمرضى، وذوي الدخل المحدود، فستواجه ضغوطًا نفسية واجتماعية قاسية بسبب عدم قدرتها على تحمل التكلفة الجديدة للسكن.
وهنا، يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي أن نوعية العلاقة بين المالك والمستأجر ستكون عاملًا حاسمًا؛ فبعض الملاك قد يلجأون إلى التهديد أو الاستعانة ببلطجية، ما يفتح الباب أمام مشكلات اجتماعية خطيرة، مؤكدًا أن الضغوط المتراكمة—من تضخم الأسعار، وهبوط قيمة العملة، وارتفاع تكاليف الغذاء والدواء،ستضاعف حالة التوتر العام في المجتمع المصري.
ويلفت إلى أن تجارب سابقة، مثل موجة ارتفاع الطلب على السكن عقب تدفق اللاجئين السودانيين إلى مصر بسبب الحرب، أظهرت كيف يمكن للضغط على سوق الإيجارات أن يدفع بعض الملاك لطرد المستأجرين مقابل عروض مالية أعلى، وهو ما أجبر أسرًا مصرية عديدة على ترك مساكنها، مشيرًا إلى أن تعميم هذه الأزمة على مستوى الجمهورية وفي محافظات كبيرة سيجعل الأوضاع أكثر تعقيدًا، خاصة مع تزامنها مع أعباء اقتصادية خانقة.
ويوضح صادق أن القرارات المرتبطة بالسكن تفتقر إلى البعد الاجتماعي، وتميل إلى منطق رأسمالي “نيو ليبرالي متوحش” على حد وصفه، يترك الفئات الضعيفة لمصيرها دون حماية.
ويرى أن جذور الأزمة تعود إلى عقود سابقة، بدءًا من حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التي شهدت تجميدًا واسعًا للإيجارات، ما خلق أوضاعًا مشوهة استمرت لعقود، وأصبحت اليوم عبئًا على الملاك والمستأجرين على السواء، مشيرًا إلى أن التدهور الاقتصادي الطويل وانكماش الطبقة المتوسطة، التي تراجعت من طبقة وسطى عليا إلى طبقة وسطى دنيا، سيجعلان التكيف الاجتماعي أكثر صعوبة؛ فالانتقال إلى مناطق أرخص يعني الدخول في بيئات مختلفة ثقافيًا واجتماعيًا، ما يسبّب صدمات نفسية وتحديات في التكيف.
ويشير إلى أن احتمال وقوع جرائم مرتبط بهذه الضغوط يظل قائمًا، لكنه ليس النتيجة الوحيدة؛ فالمؤكد، في رأيه، أنّ المجتمع سيواجه معاناة واسعة وقلقًا اجتماعيًا عميقًا، خاصة بين الفئات التي لا تملك بديلًا سكنيًا ولا تستطيع مجاراة موجة ارتفاع الإيجارات.
نوصي للقراءة: هل يواجه 6 ملايين مواطن خطر الإخلاء؟ الوجه الآخر لتعديلات قانون الإيجار القديم

محاولات إخلاء أفضت إلى عنف
في السياق ذاته يوضح الدكتور عادل عامر، – مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية-، أنّ جرائم العنف التي شهدها المجتمع خلال الشهور الماضية جاءت عقب صدور تعديلات قانون الإيجار القديم بشكل رسمي ودخولها حيّز النفاذ، مشيرًا إلى أنّ القانون حدّد شرطين للإخلاء الفوري، وهو ما تسبب في احتكاكات مباشرة بين الملاك والمستأجرين.
يقول لـ”زاوية ثالثة” “الشرط الأول هو ترك العين المؤجرة عامًا كاملًا من تاريخ صدور القانون، وهو ما أثار التباسًا واسعًا نتيجة اعتقاد البعض بأنّ المدة تُحتسب قبل العمل بالقانون، بينما التطبيق يتم بأثرٍ فوريٍّ وليس رجعيًا، أمّا الشرط الثاني فيتعلق بثبوت امتلاك المستأجر لعقارٍ آخر داخل المنطقة أو المحافظة، وفي هذه الحالة يصدر قاضي الأمور المستعجلة حكمًا بالإخلاء الفوري وتسليم العين للمؤجر، وقد نتجت بعض حوادث العنف عن إعلان هذه الأحكام قبل البدء في إجراءات التنفيذ الجبري”.
ويضيف عامر أنّ كثيرًا من المستأجرين لم يتقدّموا للمنصة الإلكترونية التي خُصصت لفترة الانتقال البالغة سبع سنوات، إما لعدم امتلاكهم مستندات تثبت العلاقة الإيجارية، أو لوجود حالات “تحايُل” مثل امتداد السكن لأفراد لا يحق لهم الامتداد القانوني، ما جعلهم عرضة لإخلاءات فورية، مشيرًا إلى أنّ القيمة الإيجارية في الإيجار القديم كانت ثابتة منذ عام 1942، بينما حدد القانون الجديد حدًا أدنى للقيم وفق المناطق: 250 جنيهًا للمناطق العادية، 450 جنيهًا للمناطق المتوسطة، و2000 جنيهٍ للمناطق المميزة، مع زيادات سنوية لمدة سبع سنوات، على أنّ تتم متابعة الالتزام بهذه القيم عبر القضاء العادي وليس السلطة التنفيذية، إذ يحق لأي طرف اللجوء للمحاكم عند وقوع ضرر.
ويشدد عامر على أنّ مسؤولية الجهة الإدارية تقتصر على تقسيم المناطق إلى ثلاث شرائح بقرار من المحافظ ونشره بالجريدة الرسمية، وإدارة المنصة الإلكترونية الخاصة بالتسجيل للحصول على وحدة بديلة لمن يرغب، بشرط تسليم العين الأصلية فور تخصيص البديلة.
ويتوقع عامر استمرار بعض حوادث العنف في البداية إلى حين تكيّف المستأجرين مع أحكام القانون، مشيرًا إلى أنّ المنازعات ستنتهي غالبًا بمحاضر شرطة وتحقيقات نيابة وإحالات للمحاكم، ما يجعل الطرفين خاسرين، ويعتبر أنّ الحل الأمثل يتمثل في التراضي بين الطرفين وتحرير عقود جديدة بقيم عادلة، مؤكدًا أنّ غالبية الملاك يهتمون بتحريك القيمة الإيجارية أكثر من الإخلاء، باستثناء بعض المناطق القديمة التي يسعى ملاكها لإعادة تأهيل العقارات وطرحها بنظام الإيجار الجديد أو البيع.
نوصي للقراءة: ثلاثة أشهر للتنازل عن منزلك: خطة الحكومة تُربك مستأجري الإيجار القديم

قانون لم يحقق العدالة
من جهته يرى الخبير العقاري مراد منير، – الباحث في قضايا الإسكان في مصر-، أنّ قانون الإيجار القديم رقم 164 لسنة 2024 لم يحقق الهدف المعلن منه، المتمثل في إعادة الحقوق إلى الملاك أو معالجة التشوهات في السوق العقارية، واصفًا القانون بأنه “مجرد فقاعة” لم تُثمر عن نتائج حقيقية، موضحًا أنّ مصر تمتلك ثروة عقارية ضخمة غير مستغلة، بينما ما زال بعض المستأجرين يدفعون جنيهات معدودة أو يمتنعون عن الدفع، في حين أن القيمة السوقية لهذه الوحدات مرتفعة للغاية.
ويشير إلى أن القانون الجديد لم يوضح بشكل قاطع ما سيحدث بعد انتهاء مدة السنوات السبع، ولا كيفية تنفيذ الاخلاءات المتوقعة، مؤكدًا أن تطبيق الإخلاء بالقوة الجبرية على نحو 3 ملايين وحدة أمر غير ممكن عمليًا؛ فالمستأجر غير المستعد للخروج سيطلب التنفيذ القانوني، بينما لا يملك جهاز التنفيذ القدرة على التعامل مع هذا الحجم من القضايا دفعة واحدة.
كذلك ينتقد منير القانون الحالي لأنه يمنح جميع المستأجرين فترة واحدة (سبع سنوات للسكني وخمس سنوات لغير السكني)، ويحدد قيمًا إيجارية لا تعكس الواقع (250 أو 400 أو 1000 جنيه)، وهي زيادات وصفها بأنها بلا تأثير حقيقي على أوضاع الملاك الذين ينتظرون حقوقهم منذ عقود، مشيرًا إلى أن استمرار الوضع الحالي يؤثر أيضًا على أبناء المستأجرين الذين لا يرث أغلبهم الشقق، فيجدون أنفسهم مضطرين للجوء إلى الإيجار الجديد أو التمليك بتكاليف باهظة، لافتًا إلى وجود حالات كثيرة لملّاك يعيشون ظروفًا اجتماعية صعبة رغم امتلاكهم عقارات، نظرًا لعدم قدرتهم على الانتفاع بها أو تحصيل قيمتها الحقيقية.
يقول لـ”زاوية ثالثة”: “التشوهات في السوق العقارية بلغت حدًا أصبحت معه شقة إيجارها الحقيقي يصل إلى عشرات الآلاف شهريًا، بينما يدفع مستأجر في شقة مماثلة خمسة جنيهات فقط بحكم القانون، وهو أمر غير طبيعي وغير عادل، فالاحتياج الإنساني للسكن لا يعني أن يكون مجانًا أو شبه مجاني إلى ما لا نهاية، واستمرار العلاقات الإيجارية القديمة بهذا الشكل غير عقلاني”.
ويوضح الخبير العقاري أن النقاش المجتمعي حول الإيجار القديم بدأ منذ الثمانينيات، بالتزامن مع توقيع مصر على وثيقة الحقوق المدنية والسياسية التي تُلزم بإلغاء القوانين الاستثنائية، ورغم زوال الظروف التي صدر فيها القانون الأصلي عقب الحرب العالمية الثانية، فقد استمر العمل به وتعرض لمزيد من التعديلات التي زادت من اختلاله.
ويشير إلى أن جوهر الأزمة يتعلق بالقدرة الاقتصادية والاجتماعية للمستأجر القديم على تحمل تكاليف السكن الحقيقية، وعلى الرغم من أن المحلات التجارية والوحدات الإدارية لا مبرر لاستمرار حمايتها، فإن القانون استمر في معاملة جميع المستأجرين بالمساواة، سواء كانوا قادرين أم غير قادرين، مقيمين في مصر أم يعيشون بالخارج، يملكون بدائل أم لا.
ويضيف: “القانون يؤدي عمليًا إلى دفع بعض الملاك مبالغ مالية للمستأجرين لإقناعهم بالخروج قبل انتهاء المدة القانونية، ما يخلق سوقًا جديدة لـ”الخلو” رغم عدم وجود حقوق أصلية للمستأجر فيها، وهو ما يدفع الأمور إلى مزيد من التشوه بدلًا من إصلاحها، والتشريع بصورته الحالية لا يحقق عدالة للملاك ولا يخفف العبء عن المستأجرين المستحقين، ولا يعالج الخلل الممتد منذ عقود في منظومة الإيجار القديم”.
ويشدد على أنّ الحل الصحيح كان يجب أن يقوم على إنهاء العلاقة الإيجارية مباشرة مع تقديم دعم حكومي للمستحقين فقط، عبر آليات واضحة للتحقق من عدم القدرة، وتوفير سكن اجتماعي أو دعم مباشر. واعتبر أن الدولة تجنبت هذا الخيار رغم أنه كان سيحقق العدالة ويعيد التوازن للسوق، مؤكدًا على أن الدولة هي الجهة المسؤولة عن إدارة آثار العدالة وإنصاف الطرف المتضرر، وليس تحميل المالك أعباء دعم المستأجر لسبع سنوات إضافية، معتبرًا ذلك “عبثًا” و”قانونًا يفتقر للذكاء”.
وتكشف الوقائع المتتابعة منذ صدور حكم المحكمة الدستورية في نوفمبر 2024، ثم إقرار التعديلات التشريعية الجديدة في منتصف 2025، عن مجتمع يختبر واحدة من أعقد أزماته السكنية والاجتماعية في العقود الأخيرة، وسط مخاوف واسعة من فقدان مئات الآلاف من الأسر لمساكنها، وصعوبة العثور على بدائل في سوق تتسم بارتفاع غير مسبوق في الأسعار.
ومع اتساع رقعة النزاعات بين الملاك والمستأجرين خلال العامين الأخيرين، يبرز المشهد الراهن كساحة مشحونة بالتوترات اليومية، تمتد من الخلافات البسيطة حول القيمة الإيجارية إلى وقائع عنف مادي ولفظي، وصلت في بعض الحالات إلى جرائم قتل، وتشير حوادث العنف المتزايدة عبر محافظات مختلفة، من القاهرة والجيزة والدقهلية إلى السويس والقليوبية، إلى أن الأزمة لم تعد قانونية أو اقتصادية فقط، بل تحولت إلى أزمة أمان اجتماعي تهدد تماسك العلاقات داخل المجتمع، في ظل غياب آليات واضحة للتهدئة أو حلول انتقالية تراعي الفئات الأكثر هشاشة.