ليس السجن مجرد بناء هندسي من الحديد والخرسانة، بل هو، في جوهره، محاولة منهجية لـ “عزل ميتافيزيقي”؛ أي لقتل الروح وتجميد الزمن وإلغاء الذاكرة والوعي وتشكيل الجسد، وكل ما يندرج تحت الكينونة الإنسانية. في مصر الحديثة، ازدادت أوضاع السجون سوءا، كي تتحول إلى فضاء “بانوبتيكون” حسب وصف الفيلسوف البريطاني جيرمي بنثام. فضاء يسعى لتنظيم كل حركة، كما تضييق المجال البصري على السجناء، بهدف نهائي يتمثل في محو الذات وإحداث “موت بطيء” للسجين.
في مواجهة هذا المحو الممنهج، تبرز الكتابة، وبشكل خاص الرسائل والجوابات السجنّية، لتكون الأداة الوجودية الوحيدة القادرة على اختراق جدار العتمة. تُصبح بضعة أسطر على ورق، مهربة غالباً أو مكتوبة تحت الرقابة، أشبه بفعل تمرد، تحمل ثقل التجربة الإنسانية والوجدان المكبوت والملهوف. إن هذه الرسائل لا تكتفي بكونها تواصلاً، بل تتحول إلى محاولة لإعادة تعريف العالم من زاوية القيد، وتؤسس بذلك جسراً ورقياً يربط الوجود الفردي المعزول، كما في رسائل الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، بالتاريخ الإنساني الأوسع.

الكتابة في السجن… “إثبات الذات” في وجه المحو الممنهج
تعتمد سلطة السجن على استراتيجية تهدف إلى سحق الوجود الإنساني عبر العزل الميتافيزيقي. وهذا من خلال هندسة مكانية مصممة للضبط الكامل وإحصاء الأنفاس، وهي عملية تتفاقم بزيادة المراقبة الأمنية. ففي السجون المصرية، تم تعديل قانون تنظيم السجون لزيادة مدة الحبس الانفرادي الذي يمكن فرضه بقرار من مأمور السجن إلى 30 يوماً، وقد تصل إلى ستة أشهر بقرار من مساعد وزير الداخلية، وهذا ما لا يُطبّق، فهناك كثير من السجناء يقبعون في الحبس الانفرادي لسنوات دون أي وجهٍ قانوني سوى أن السُلطة أرادت معاقبتهم. إن الحبس الانفرادي، بهذا التوسع اللانهائي، يمثل أقصى شكل لـ “محو الذات” عبر التجريد الحسي والاجتماعي، إذ يجد السجين نفسه أمام تحدي لغوي عسير، فصور التنكيل والتعذيب التي يتعرض لها، كما هو موثق في شهادات عدة، تفوق قدرة اللغة على الوصف والسرد، ما يضع الكاتب السجين في توتر بين الحاجة الملحة للشهادة وحدود التعبير عن هذا الجحيم.
في ظل هذا الضغط، تتحول الكتابة إلى فعل التزام وجودي، على غرار ما طرحه سارتر، حيث تُصبح جوهر الوجود الحر ومسؤولية تجاه العالم. يكتب السجين ليس بحثاً عن البلاغة أو الجماليات في أوسع صورها، بل تحقيقاً لضرورة ملحة للوجود: “إثبات الذات، وقدرتها على الحياة والنهوض والاستمرارية، حتى لا تذوب في الهزيمة أو تروح إلى العدم”. هذه الكتابة هي “فعل سياسي” يتحدى بنى السلطة، لأنها تثبت أن العقل والوعي، وهما الأدوات الحقيقية للحرية، لم يُعتقلا بعد بل ويُقاوما الإذابة.
إن هذا الرفض المنهجي للغياب يتجلى في أفعال المقاومة الفكرية. فعندما يطلب أحد السجناء، الذي قضى سنوات طويلة في الحبس الانفرادي، قائمة من الكتب تتضمن “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي، و”هذا هو الإنسان” لنِيتشه، و”الأثر النفسي للهزيمة” لصادق جلال العظم ، فإن هذا ليس مجرد طلب قراءة. إنه إعلان عن “التمرد المعرفي”، ورفض للعقاب المتمثل في “الصمت المعرفي” المفروض عليه. هذا السلوك يعكس عملية صيانة للذات، وإصرار على بناء “جغرافيا عاطفية” مضادة لجغرافيا سلطة السجن القمعية. هنا، يرفض العقل أن يُصبح جزءاً من هندسة السجن القمعية، ويستخدم الأدب والفلسفة كسلاح لترويض الزمن الثقيل والمفقود.

اعتقال الحياة العاطفية: صراع الأسلاك الشائكة
إن تأثير السجن في مصر يتجاوز حدود السجين ليصبح عقاباً جماعياً مدمراً يستهدف استقرار العائلة والحياة العاطفية، إذ يُفاقم هذا التدمير استراتيجية “التدوير” (إعادة الاعتقال)، حيث يتم نقل المعتقل بعد حصوله على إخلاء سبيل أو براءة إلى مقار احتجاز غير رسمية، ثم يتم إدراجه في محضر جديد، وتتكرر العملية عشرات المرات. إن سياسة التدوير هي “تدمير للوجود المستقبلي”؛ فهي لا تعاقب على فعل مضى، بل تقتل الأمل في الاستقرار العاطفي والأسري، وتحول العقوبة إلى “عقاب أبدي” لا زمني مُحدد. هذا التكتيك هو أقسى أشكال العنف النفسي الموجه ضد السجين وأحبابه، حيث يتم اغتيال أحلام الكثيرين بالحرية حتى بعد انقضاء مدة حكمهم.
كما تُعد لحظة الزيارة هي اللحظة الأكثر كشفاً لصراع الحب مع القمع، لكنها تتحول بفعل إجراءات السجن القاسية إلى طقس من الألم المقنّع. تصف الشهادات النسائية السابقة غرفة الزيارة في سجون مثل القناطر ودمنهور بأنها أشبه بـ “الجحيم”؛ لشدة الاكتظاظ والصراخ وضيق المساحة. لا تتجاوز المدة 30 دقيقة، ويفصل السجناء عن أهلهم سلك شائك يمنع التواصل الحقيقي بزعم الحذر من الأوبئة. في هذا المشهد الهش، تسعى المعتقلة، بدافع الحب، إلى التخفيف عن أهلها، فتتعمد (مثل “علياء” الاسم المستعار) ارتداء “جلباب نظيف” وتمشيط الشعر “لتبدو في مظهر باهي”، في محاولة “لإخفاء ملامح الألم والتعب” الذي تعيشه. هذا التمويه هو أقصى درجات الحب والتضحية، حيث يُجبَر السجين، وأنا كنت واحد منهم، بل وشاهدًا على حرص كل السجناء السياسيين والجنائيين معا، على أداء دور “الشخص السليم” حمايةً لأحبائه من رؤية الحقيقة القاسية داخل القضبان.
في ذروة مأساة الزيارة، تضطر السجينة إلى اتخاذ قرارات وجودية مؤلمة. تروي “علياء” كيف اضطرت لطلب والدها المسن، الذي كان يتكبد عناء السفر الطويل من الإسكندرية إلى سجن القناطر، “ألا يأتي لزيارتها مجددًا كي ترفع عنه مشاق الطريق”. هذا القرار، الذي كان له “وقع أليم”، يمثل تحول الحب إلى تضحية مؤلمة بالوجود المشترك. لقد أصبح العزل الطوعي أرحم على الوالد المسن من مشهد القيد والأسلاك والإذلال، وأيضا هو دليل على كيف يجبر القمع المعتقلين على التخلي عن حقهم الأساسي في التواصل العاطفي.
علاوة على ذلك، تستغل السلطات الزيارة كـ “مسرح للرعب” النفسي. ففي سجن دمنهور، وُصفت تجربة “مريم” التي تزامن موعد زيارتها مع زيارة “المخصوص” (المحكوم عليهن بالإعدام)، وهن يرتدين “الجلباب الأحمر” ومقيدات بالأصفاد. هذا ليس سوء تنظيم، بل تكتيك نفسي مزدوج: ترويع متعمد للعائلات، وربط السجن السياسي بمشهد الموت المحتوم، ما يضخم التهديد الوجودي ويزيد من خوف الأهل على مصير ذويهم.
إن تجربة الزيارة في السجون المصرية، كما تكشفها هذه الشهادات الصارخة، وغيرها من حالات انفصال عاطفي، هي نقطة التقاء دامية بين آليات الحبس الغاشمة والإرادة الوجودية الصامدة. فالقيود التي تفرضها السلطة هي هندسة متعمدة لـ “القيد المادي والمعنوي”، الجسد والكينوني، فالسُلطة تهدف إلى بتر التواصل العاطفي الحقيقي عبر تقليص الزمن، والإفراط في الاكتظاظ، وفصل الأحبة بأسلاك شائكة. لكن، في رد وجودي متصلب، ينخرط المعتقل في محاولة “لشراء الوقت وترويضه”؛ ليقوم بتكثيف الذاكرة وثقل الوجود في دقائق عابرة ومحسوبة.

الرسائل كأرشيف: الحب، الذاكرة، والإنسان
تُعد الرسائل السجنية جسراً مزدوجاً: فهي شهادة وجدانية على قسوة الحياة، ووثيقة تاريخية للصراع السياسي. تُظهر تجارب أدب السجون العالمي، مثل رسائل أنطونيو غرامشي من سجونه أو رسائل المناضل الجزائري أحمد طالب الإبراهيمي، وأي إنسان آخر عادي لا تعرف اسمه الصحف ووسائل الإعلام والمثقفين، كيف يتحول القيد إلى إنتاج فكري وإنساني خالد. في هذا السياق، تُوثّق الرسائل المصرية العلاقة الجدلية بين الحب والذاكرة والحرية، وتُصبح الحافظ لـ “الذاكرة المهددة” لهذه المرحلة، حيث تُصبح الرسالة معطى رديفاً وموازياً لخطاب حقوق الإنسان، لكنها تتميز بقدرتها على إفشاء مرارات الذات والكشف عن “أبعاد أخرى للاعتراف” لا يستطيع الخطاب الحقوقي الجاف نقلها.
في عهد يتم فيه الترويج المستمر لـ “حوار وطني” وأفق ديمقراطي، وسرديات تبثها الدولة عبر أدواتها، تأتي الرسائل المسربة لتُدمغ هذا الخطاب بالنفاق، حيث تتحول هذه الرسائل إلى “بؤرة حقيقة” تمنع الدولة من الاستفادة من ازدواجيتها الأخلاقية، وتفضح تناقضها بين خطاب الانفراج الإعلامي وواقع الانتهاكات داخل الزنازين. تُعد هذه الرسائل وثائق ضرورية تؤلف أرشيفاً حقيقياً يحفظ ذاكرة التعذيب، والغياب، والانتقائية في العفو، وهي مادة خام لتدوين التاريخ السياسي لمرحلة تُحاول فيها السلطة التحكم في السردية والخطاب.
أيضا، لا تقتصر وظيفة الرسائل على توثيق الألم، بل تمتد إلى محاولة لتشكيل وعي سياسي جديد، كما في الرسائل التي وجهها السجناء الشباب إلى قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وشخصيات مصرية رسمية، وعلى رأسهم شيخ الأزهر، مطالبين فيها بكلمة حاسمة حول قضيتهم وإلى متى سيظلون في السجن، تعكس وعياً نقدياً متزايداً لدى السجناء بضرورة إعادة تقييم الاستراتيجيات السياسية التي اتبعتها المعارضة، فيما أدرك هؤلاء أن سجنهم المستمر بلا أي جدوى سياسية يحتم عليهم الكتابة المستمرة والتعبير عن حاجاتهم الإنسانية الملحة في الخروج من السجن والرجوع إلى الحياة بشكل سياسي واجتماعي، وإنساني، جديد يُلائم الظرف الزمني الراهن، ويحاول النظر إلى واقع السُلطوية الحالية، والمعارضة، والتحالفات الإقليمية، بشكل يحاول من خلاله إفلات نفسه من معارك لن تجلب له، ولأحبابه، سوى عذابات بلا جدوى حقيقية.
تؤكد هذه الجوابات السجنية، في بعدها الأدبي والفلسفي، أن الكتابة هي أعلى فعل مقاوم للغياب والمَحو. إنها جسر من ورق يربط الذات السجينة بالعالم الخارجي، ويحول الاختناق إلى وعي، والألم إلى إثبات للحياة. لقد أثبتت التجربة المصرية أن السجين يحاول مقاومة إذابته في الظلام، عبر ابتداعه أفكاراً وأنماطاً حياتية لتشكيل “جغرافيا عاطفية” مكافحة ومقاومة لجغرافيا السلطة في السجن. الرسائل التي تخرج من خلف الأسوار ليست مجرد صرخات شخصية أو استغاثات عاطفية؛ بل هي “خرائط مضادة” لما هو مفروض في السجون، مساكن الموت كما سمَّاها ديستوفيكسي، وستظل هذه الوثائق هي الأرشيف الحي للمرحلة، والمفتاح الفعلي لفهم العلاقة الجدلية التي تنسجها الذاكرة والحرية والحب، في صراعهم مع جدران القمع في مصر الحديثة، حيث ستكون هذه الرسائل، متى أُفرج عنها كاملاً، ووثقت بشكل قوي ومُرتب ووضاح، الأساس الذي سيُكتب به التاريخ الحقيقي لهذه المرحلة، والمشهد الأدبي الذي سيُروى به صمود أولئك الذين حاولوا رفض الاستسلام لـ “العدم”.