حكايات عمال المياومة.. ليعلم الجميع أنهم منسيون.

351

مهما تكالبت الكلمات لوصف آلام تعبق بالهموم تقتحم موجاتها أفئدة أناس، لا يد لهم فيها، لن تستطيع هذه الكلمات أن تحيط بالوصف الكامل لهذه الآلام، لذلك من الأحرى أن من يتولى وصف هذه الآلام هم من يتجشمونها، بل ما زالوا يتكبدون قسوتها بثبات، وصبر، ونفس رضية، وإن كانت الظروف المعيشية المضنية؛ تجبرهم أحيانًا على تسليم كرامتهم للقمة العيش؛ فتؤول هذه الظروف بنفوسهم من حالتها المتجلدة الراضية، إلى حالة أخرى بائسة وناقمة على هذه الظروف التي آلت بهم إلى موضعهم هذا.

فبالتالي مهمة سرد هذه المعاناة بكل ما تحويه من آلام مادية، تتضمن رضوخهم لواقعهم، وآلام معنوية تتعلق بتأذي عواطفهم وأحاسيسهم، سيقف على سدة وصفها نموذجان من عمال المياومة، أتصور أن حكايات هذين العاملين جديرة بتجسيد جزء من المآسي المعيشية، التي تنوء بها كواهل ملايين من أرباب الأسر، التي تتسلل معاناتهم إلى زوجتهم وأطفالهم، بل الأكثر من ذلك أن هذه الظروف تحولهم في بعض الأحيان إلى أدوات تقوض حقوق أبنائهم.

العامل الأول: لا، لم أقصد الإجحاف ببناتي، أو أن أترك لولدي إرثًا من ضنك العيش، أو أن أسلب منه حقًّا من حقوقه الطبيعية والقانونية، كما تقول أنت، وهو حقه في التعليم، لا سيما في المرحلة الابتدائية، كما هو مقنن في قانون الطفل المصري، الذي تفضلت بالإشارة إليه، ولكن لا بد من التنويه أن هذا الإرث لم يأتِ بين عشية وضحاها؛ لأنه كان ميراث والدي لي، نعم، التفيت به عند ميلادي، كما يلتف المولود بقماشة حريرية عند ميلاده؛ كانت بالنسبة لي قماشة مهترئة، التصقت بمستقبلي المبهم، وما زالت ملتصقة بي حتى الآن، قماشة مرصعة بالجروح المتقيحة.

من الإنصاف أن أشير إلى محاولات والدي في أن يحلها من على عنق مستقبلي، وتضميد ما تحويها من جروح، ولكن جميعها باءت بالفشل، وكانت النتيجة أني لم أكمل تعليمي، ومتكفل بمصاريف أسرتي منذ وفاة والدي، الإرث الوحيد الذي حصلت عليه من والدي؛ هو البيت المتواضع الذي أعيش فيه مع عائلتي، ومهنة والدي المتواضعة؛ إذ إنه كان يعمل ماسح أحذية (بويجي)، ولكن لا بأس، أنا أتفق معك في أنه لا يوجد عيب ما دامت المهنة شريفة، وهذه إحدى القيم النفيسة التي غرستها والدتي في عقلي.

وأنا في باكورة عمري، عندما كنت أترفع عن مزاولة هذه المهنة، خجلًا وخشية نظرة المجتمع المسربلة بالشفقة تارة، والاستعلائية والطبقية تارة أخرى، فعملت ماسح أحذية، وكنت عندما أتقاعد يومًا عن العمل لأسباب مرضية، كانت والدتي تضطر إلى أن تعمل مكاني، لأنه إذا ذهب إيراد اليوم ذهب معه عشاء اليوم، وإفطار اليوم التالي، وبعد جهود؛ تمكن أخي من أن يكمل مراحل تعليمه حتى انتهى من الثانوية الصناعية، وتزلفت وتملقت للجميع حتى أستطيع أن أجد له وظيفة في إحدى الشركات، فوجدت له وظيفة بعد معاناة.

وبعد ذلك؛ تزوجت، وتزوج أخي أيضًا، وقطنا مع والدتنا، وأنجبنا أطفالًا، بنين وبنات، وكانت الأوضاع مستورة في غَمار بيت أبي، ولكن هذه الأوضاع انقلبت رأسًا على عقب، بعد مرض والدتي، وحملة الخصخصة التي قامت بها الحكومة المصرية في مستهل القرن الحالي، بالإضافة لارتفاع الأسعار، وزيادة الأعباء علينا بنمو أطفالنا، وكثرة مطالبهم، فعمل أخي معي في كل شيء حتى نحسن دخلنا، ونقضي احتياجات أبنائنا، بل أصبحنا بمثابة أدوات في يد كل صاحب عمل، كنا نرضخ للقمة العيش، واضطررت إلى أن أحرم بناتي من استكمال دراستهن وهن في المرحلة الإعدادية لتزويجهن؛ لتخفيف العبء عن كاهلي؛ خاصة بعد وعد طالبي الزواج منهن بمعاونتي في تجهيزهن، فشعرت أن هذه فرصة لن تتكرر، فكان هذا سببًا قويًّا لقبولي عرض الزواج.

وللأسف، دفعتني ظروفي الحياتية إلى استغلال ولدي صاحب السبع سنوات اقتصاديًّا، وتشغيله في إحدى الورش؛ ليجلب لي قليلًا من المال؛ هذه هي نبذة موجزه تتضمن بعضًا من آلامي التي من الممكن أن أبوح بها لك، وهناك أخرى بمثابة غصة في صدري، لن أستطيع الإفصاح عنها. بعد هذا؛ لماذا تلومني الآن؟ أتظن أني سعيد؟ عندما أسلب من ولدي حقوقه التي يتمتع بها أقرانه من الأطفال، أتظن أني سعيد؟ عندما أزوج بناتي وهم في باكورة عمرهن، لا سيما في ظل ظروفي المعيشة الصعبة التي ترتبط مع مرور الزمن بعلاقة طردية.

العامل الثاني: المعذرة؛ لن أستطيع أن أسرد الكثير عن نفسي؛ لأني كلما سردت ظروفي، ازددت حنقًا على الجميع، ولكن في حقيقة الأمر، أنا الآن عالة على زوجتي التي تعيلني الآن، بعد أن بترت قدمي، غير متعلم، وجدت نفسي في الحياة وحيدًا؛ بعد وفاة والدتي ووالدي، تزوجت، وأحمد الله أني لم أنجب، ولا أريد أن أنجب، أنا من العمال الذين يتكدسون في إحدى السيارات نصف النقل بعد فجر كل وم للذهاب للعمل في إحدى المزارع، فمرة نكون تحت يد صاحب مزرعة يعاملنا معاملة آدمية، ومرة أخرى نكون تحت يد صاحب مزرعة يعاملنا كأدوات أو أشياء، نعم، يتسق مع المقصود بمصطلح التشيؤ بعد تفنيدك له.

حقوقنا في المعاملة الآدمية لا يحددها القانون، بل من يحددها الأنا العليا لصاحب العمل، وفي كل الحالات نرضخ للقمة العيش، ومن المسلم به أننا إن لم نرضخ؛ سنطرد ويأتي غيرنا؛ لذلك لا بد أن نرضخ والابتسامة مرتسمة على وجوهنا، فقدت قدمي بعد حادثة سير للسيارة التي تقلنا إلى موقع العمل، وحمدت الله أني نجوت، بل حمدت الله على عملية بتر قدمي؛ عد تبرع أهل القرية لي، لأن لولا ذلك؛ لطردت من المشفى كما تعلم.

من خلال حكايات نموذجين من عمال المياومة؛ لا بد من الإشارة إلى أن عمال المياومة من الطوائف المنسية في الوقت الحالي، ولم توفر الدولة المصرية الحماية اللازمة لهم من خلال تقنين حقوقهم في نصوص قانونية، تغيثهم من براثن الظروف المعيشية المضنية، التي تمخضت عن السياسات الاقتصادية الرديئة، ولم تسلط الأبواق الإعلامية الضوء عليها، بل إن ما تبقى من منظمات المجتمع المدني لم تفعل أيضًا؛ لذلك هذه الحكايات الموجزة بمثابة توثيق لآلام طائفة مهمشة؛ ليعلم الجميع أنهم منسيون.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك